وباء العناوين المزيفة ولغة الإثارة الرخيصة
الصحافة التي كانت تُسمى "السلطة الرابعة" صارت تشبه دمية متحركة بيد رجال الأعمال والسلطات السياسية والخوارزميات. لكنَّ التاريخ يعلمُنا أنَّ كلّ انحدار يحمل في طياته بذور نهضة.
-
(تشيلسي بيك)
في زمن تتحوَّل فيه الكلمة إلى سلعة، والحدث إلى مشهد استعراضي، تطلُّ علينا "الصحافة الرقمية الصفراء" كظاهرةٍ تقتلع المهنة من جذورها الأصيلة، لتحوّلها إلى مسخ يلهث وراء الزائرين، ويستجدي النقرات بأبخس الأساليب. إنها صحافة بلا روح، تتنازل عن رسالتها النبيلة في الكشف عن الحقيقة، وتنغمس في مستنقع التفاهات، حيث العناوين المتفجرة تضخِّم اللا شيء، والأخبار المبتذلة تتحوّل إلى حدث ساخن بفعل لغة ركيكة تليق بشارع مزدحم بأولاد السوء، لا بصحافة تحترم عقول قرائها.
لم تكن الصحافة الصفراء وليدة العصر الرقمي، بل هي امتداد لتاريخ عريق من الإثارة المُفتعلة، بدأ مع صراع "بوليتزر" و"هيرست" في أواخر القرن التاسع عشر، حين حوّلا الأخبار إلى عروض سيركية. لكنّ الانتقال إلى الفضاء الإلكتروني أعطاها زخماً لم تكن تحلم به؛ فلم تعد بحاجة إلى ورق أو حبر، بل يكفي عنوان مثير، وصورة فاضحة، وخبر مُلفَّق أو مُضخَّم، لتصنع عاصفة من النقرات التي تدرُّ أرباحاً سريعة. هنا، يتحوّل الصحفيّ من كاشف للحقائق إلى "صيّاد زيارات"، يلاعب مشاعر الجمهور بلغة أشبه بصرخات بائع في سوق شعبي: "الفنانة فلانة تُلهب السهرة بفستانها الجريء"، "الفنان فلان يُشعل المواقع بفضيحة جديدة"، وهكذا تُختزل الأخبار في إثارة جوفاء، وتُقدَّم المواضيع الجادة كسلع استهلاكية بلا عمق أو قيمة.
أصبحت العناوين المبالغ فيها، والتي تَعِدُ القارئ بحدث مزلزل، ليكتشف لاحقاً أن الخبر لا يستحقّ حتى قراءة السطر الأول، هي العلامة الفارقة لهذا النوع من الصحافة. اللغة هنا ليست وسيلة تواصل، بل أداة خداع. تُسحق قواعد النحو تحت أقدام العبارات الرنانة، وتُستبدل البلاغة بالتكرار الفارغ، وكأنّ الكاتب يصرخ في قارئه: "انقر عليّ قبل أن تذهب!".
حتى الأخبار السياسية لا تسلم من هذا التشويه؛ فتُقدَّم بزاوية درامية تخلط بين التحليل والإشاعة، وتستبدل التمحيص بالعاطفة، لتبيع للقارئ وَهْمَ المشاركة في حدث عالمي، بينما هو غارق في تفاهة مُعلَّبة، فضلاً عن سياسات المنع والحجب والتحكّم بما يصل إلى القارئ وبما يُحجَب عنه وفقاً لمعايير غير مهنية وغير أخلاقية تضعها وتتحكم بها الشركات الكبرى الخاضعة لأجندات وسياسات القوى العالمية المهيمنة على كلّ شيء.
الصحافيون الأقل كفاءة، منعدمو الضمير والمهنية صاروا محللين استراتيجيين وسياسيين يملأون الشاشات بوجوههم الصفراء وقيحهم السام، يبثون الأحقاد والضغائن بين الشعوب والشرائح الاجتماعية بحثاً عن كيس دنانير من هنا وآخر من هناك، وعن تصفيق أبله وإطراء منافق، فيما تسقط المهنية والموضوعية تحت أقدام البحث عن الشهرة والمال بأسهل الطرق وأحقرها.
اللغةُ نفسُها لم تسلم من الاغتيال؛ فتحت ذريعة "الوصول إلى الجماهير"، تُبَسَّطُ العبارات حتى تصير ركيكة كأغنية طفل يتلعثم، وتُستبدل البلاغة بتهويمات مكرورة: "سَحَبَ البساط"، "أشعلَ النار"، "صدمةٌ مدوية"، كأنَّ الخبرَ مسرحية مبتذلة بطلها الوحيد هو الفعل المتكرر بلا معنى، فضلاً عن دخول ميدان المهنة جيش من "الصحافيين" ممن لا يجيدون أبسط قواعد اللغة والصرف والنحو، ولا يلتزمون بأدنى قيم المهنة والأخلاق.
النتيجة الحتمية لهذا الانحدار هي فقدان الصحافة بريقها كمصدر موثوق للمعرفة. فحين يصبح كلّ شيءٍ قابلاً للتضخيم، أو التزييف، أو الاستغلال العاطفي، يفقد الجمهور الثقة حتى في الوسائل الجادة، التي تجبرها المنافسة أحياناً على الانزلاق إلى المستنقع نفسه.
الأكثر خطورة هو تحويل الرأي العام إلى كتلة مشتتة، تستهلك الأخبار كـ"سناكس" سريع، لا كغذاء فكريّ يحتاج إلى هضم. هكذا تتحوّل الثقافة إلى سطحية مزمنة، ويُختزلُ النقاش العام في تعليقات سريعة على "فيديوهات مُجتزأة"، بينما تغيب القضايا المصيرية خلف ضجيج الإثارة.
في مواجهة هذا الطوفان، يبدو الحلّ مُرتبطاً بوعي الجمهور أولاً؛ فما دامت النقرات هي الوقود الذي يُغذي هذه الآلة الجهنمية، فلن تتوقف إلا حين يرفض القارئ أن يكون ضحية للإلهاء الرخيص. أما المؤسسات الإعلامية الجادة (وما أندرها) فمطالبة بالتمسك بمعاييرها كحصن أخير ضد الابتذال، عبر لغة راقية، وتحقيقات عميقة، واحترام لعقل القارئ قبل عينيه. ربما تكون المعركة طويلة، لكنها ليست مستحيلة؛ فالتاريخ يثبت أن الإعلام النظيف قادر على النهوض كلما اجتثَّ المجتمع الأصوات الزائفة. فهل نتعلم من الدرس قبل أن تصبح كلُّ صحافتنا صفراء؟
من الملحّ والضروري إعادة تعريفِ "القيمة" ذاتها: فالقيمة ليست في عدد النقرات، بل في عمق التأثير. لن يعود للصحافة بريقها إلا إذا تحوّل الجمهور من مُستهلك سلبيّ إلى ناقد فاعل، يرفض التغذية على "الوجبات السريعة" الإعلامية، ويطالب بطبق من الكلمات المغذية، المُعَدّة باحترافية وضمير.
لو عادَ "ولتر ليبمان" – أبو الصحافة الحديثة – إلى عصر النقرات، لكتب مقالاً عنوانه: "كيف نخدع أنفسنا بأوهام الإعلام؟". فالصحافة التي كانت تُسمى "السلطة الرابعة" صارت تشبه دمية متحركة بيد رجال الأعمال والسلطات السياسية والخوارزميات. لكنَّ التاريخ يعلمُنا أنَّ كلّ انحدار يحمل في طياته بذور نهضة. فلنُصلِح ما تبقى من مرايا الصحافةِ كي تعكس وجه الحقيقة، لا وجه الوهم المُزيَّف المُغطى بمساحيق العناوين الفارغة. فالخبر الحقيقيّ لا يحتاج إلى صفارة إنذار، بل إلى قلبٍ ينبض بالحياة، وقلم يرفض أن يُباع بثمن النقرة.