وجوه فلسطينية بريشة فنان روسي منسي
من هو فاسيلي بتروفيتش بافلوف؟ وكيف صوّر الفلسطينيين في رحلته عام 1891؟
تزخر الأرشيفات الروسية المختلفة بمواد عن فنانين أسرتهم فكرة زيارة فلسطين في القرن الــ 19، فرسموها وافتخروا بأن تضمّ مجموعتهم مشاهدها، منهم من اشتهرت أعماله وعرضت في المتاحف المختلفة في البلاد، ومنهم من طواه النسيان حتى بالكاد يمكننا أن نعثر على من يعرف به من الباحثين في الدراسات الشرقية أو الفنون.
ومن بين هؤلاء الفنانين، فاسيلي بتروفيتش بافلوف، الذي لا يُعرف عنه شيء تقريباً، وتُعد إعادة بناء سيرته الذاتية تحدياً بحثياً لدى الباحثين الروس.
-
بورتريه فاسيلي بافلوفيتش بريشة تيومينيف
كل ما نعرفه أنه وُلد سنة 1861 (أما تاريخ وفاته فغير مُدرج في المصادر المعروفة). يشير الباحثون إلى أن بافلوف ينحدر من أصول فلاحية في مقاطعة ياروسلافل الروسية. في ثمانينيات القرن الــ 19، واظب على حضور المحاضرات في أكاديمية سان بطرسبرغ للفنون، حيث تشكلت حلقة طلابية ضمّت، إلى جانب بافلوف، الرسامين الشهيرين، أندريه ريابوشكين (1861-1904)، وفاسيلي بيلييف (1867-1928) وآخرين.
نظّم هذه الحلقة الكاتب والرسام والمؤلف الموسيقي، إيليا فيدوروفيتش تيومينيف (1855-1927)، وكان أعضاء الحلقة الذين باتوا من أصدقائه المقربين يجتمعون في شقته.
-
شيخ فلسطيني بريشة بافلوف
كان تيومينيف رجلاً استثنائياً، إذ تميز إلى جانب الرسم بالتأليف الموسيقي أيضاً، فقد كان تلميذ الموسيقار الروسي، نيقولاي ريمسكي كورساكوف (1844-1908)، وامتلك موهبة أدبية، إذ نشر المقالات، وترجم الأعمال الأدبية.
إلى جانب كل ذلك، ترك لنا تيومينيف إرثاً تاريخياً هائلاً عبر تدوينه مذكراته طوال حياته تقريباً. وكان دقيقاً في جمع الوثائق، وحافظ على أرشيفه كاملاً.
لاحقاً، استناداً إلى مذكراته والمواد المحفوظة في أرشيفه، جمع تيومينيف عملاً ضخماً بعنوان "سيرتي". يتألف العمل من 10 مجلدات كبيرة مكتوبة بخط اليد. بالإضافة إلى وثائقه الخاصة، جمع تيومينيف أيضاً مواد من أصدقائه، وخاصة الفنانين.
ومن بين هؤلاء الفنانين المقربين كان فاسيلي بتروفيتش بافلوف، الذي تُحفظ مواده في أرشيف تيومينيف، بما في ذلك تلك المتعلقة برحلته إلى فلسطين عام 1891.
رحلة بافلوف إلى فلسطين
-
رسم تخطيطي من القدس بريشة بافلوف
ومن هذه الرحلة، كتب بافلوف 7 رسائل إلى تيومينيف يصف فيها الرحلة وزيارته القدس. وقد احتفظ تيومينيف بها بعناية بالغة. علاوة على ذلك، نسخ هذه الرسائل بالكامل تقريباً في سيرته الذاتية ما يدل على اهتمامه الكبير بهذا الموضوع، وهو اهتمام طبيعي تماماً وشخصي كذلك.
ففي عام 1874، كان تيومينيف قد انطلق برحلته "الشرقية الكبرى"، التي شملت زيارة فلسطين كذلك. أضاف تيومينيف بعض التعليقات والتوضيحات إلى رسائل بافلوف، الذي أحضر معه أعمالاً فنية من فلسطين، هي عبارة عن لوحات ورسومات تخطيطية. وقد انتهى المطاف بعدد من هذه الأعمال في أرشيف تيومينيف.
-
فتى من فلسطين بريشة بافلوف
وجدت الباحثة الأدبية والفنية، يلينا ميخائيلوفا، التي درست تركة بافلوف في أرشيف تيومينيف، أن معظم الرسائل غير مؤرخ وبعضها يحمل ملاحظات كتبها تيومينيف مع إيضاحه بعض الحقائق في سيرته الذاتية، ما مكّنها من تحديد التاريخ الدقيق لبداية الرحلة، وهو 28 نيسان/ أبريل 1891. إذ يتضح من الرسالة أن فاسيلي بتروفيتش غادر منزل تيومينيف.
يصف بافلوف بإيجاز رحلته إلى موسكو، حيث زار زملاءه، ويشرح عن مشاكل اعترضته في مدينة أوديسا قبل السفر، متأملاً أن يحل في القدس بغضون 25 أيار/مايو. واستناداً إلى وثائق لاحقة، غادر بافلوف القدس عائداً في 11 حزيران/يونيو، وهكذا، دامت إقامته في القدس نحو أسبوعين.
-
في فلسطين بريشة بافلوف
ربما لعب الحجر الصحي في يافا دوراً في تقليص مدة إقامته في القدس، حيث يورد تيومينيف في سيرته: "اتضح أنه في ذلك الوقت كان هناك نوع من الحجر الصحي، وإن لم يكن صارماً للغاية". لكن الرغبة في زيارة فلسطين، ورؤية الأماكن المقدسة، والرسم ازدادت قوة لدى بافلوف، فكتب: "... لكنني الآن منطلق بالفعل، سأفعل أي شيء لديّ وقت له. سأزور الأماكن، سيكون ذلك جيداً".
أخيراً، وصل بافلوف إلى القدس. تكشف رسالة أخرى أنه أقام في إحدى مضافات "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية". بعد وصف رحلته وإقامته في مدن مختلفة، وبعد وصوله أخيراً إلى وجهته، برزت الأمور المهنية في ذهن الفنان.
-
من يافا إلى القدس بريشة بافلوف
يقول: "طلبت اليوم من القواس الاتفاق مع شخص بدويّ لأرسمه. ومع أنه أحضره بسرعة، وكان بدوياً عادياً جداً، إلا أنني للأسف لم أستطع أرسمه إلا لربع ساعة فقط، فهو لا يستطيع الجلوس إطلاقاً. لا أعرف ماذا سيحدث لاحقاً. إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فلن أنجز شيئاً على الإطلاق. المواد هنا متوفرة بكثرة، وهي جيدة جداً، لكن استخدامها صعب للغاية".
تشير هذه الرسالة بوضوح إلى أن بافلوف كان مهتمًا في المقام الأول برسم سكان القدس وبفن البورتريه تحديداً.
لكن كان هناك اتجاه آخر عمل فيه فاسيلي بتروفيتش، فمع أن الرسالة لا تحتوي على أي معلومات عن رحلته إلى المدينة، لكنه رسم لوحة بعنوان "من يافا إلى القدس". وقد وردت أوصافٌ عديدة لهذا الطريق في مذكرات الحجاج لكن بافلوف جسّد الطريق في لوحته.
-
وجه من القدس بريشة بافلوف
يقول بافلوف: "أفكر غداً في الذهاب إلى بيت لحم. ربما أرسم منظراً طبيعياً على طول الطريق". جذبت رسومات الطبيعة والمناظر الطبيعية المحيطة ومناظر المدينة انتباه بافلوف الفني بشكل كبير، وكان هذا هو النوع الثاني من اهتماماته. تشير الأعمال المحفوظة في أرشيف تيومينيف إلى بافلوف كان يرسم البورتريهات كرسومات تخطيطية مستخدماً ألواناً مائية وزيتية، لكنّ لوحاته للمناظر الطبيعية كانت بالقلم الرصاص. وقد حُفظت في أرشيف تيومينيف ورقة كرتونية تحتوي على رسومات صغيرة تُصوّر مشاهد من فلسطين. يعود تاريخ العديد من هذه الرسومات إلى 22 تموز/يوليو 1891. ويبدو أن بافلوف رسمها بناءً على انطباعاته عن رحلته القصيرة إلى بلادنا.
وهكذا، تُقدم مجموعة الوثائق المحفوظة في أرشيف تيومينيف لمحة عن رحلة الفنان فاسيلي بافلوف إلى فلسطين. إلا أن الرسائل هي الأكثر إفادة. فهي تُقدم معلومات عن رحلته إلى الأماكن المقدسة وإقامته في عدد من المدن، بما فيها القدس. وتمدّنا هذه الرسائل بمعلومات عن مؤلفها وشخصيته، وتُشكل، إلى جانب الرسومات الباقية، مصدراً هاماً للمعلومات حول أنشطة بافلوف المهنية واهتماماته الفنية في فلسطين.
-
وجه من فلسطين بريشة بافلوف
في الاتحاد الروسي، يبقى الاهتمام بالفنانين المنسيين محصوراً بعدد من الباحثين الأكاديميين، الذين يمكنهم الوصول إلى الأرشيفات المختلفة وتخصيص الوقت والجهد لذلك، فيكشفون بين الحين والآخر عن أحدهم، وبطبيعة الحال لا تشكل فلسطين محور اهتمامهم بل الفنان نفسه وأعماله الروسية. فالعبء يجب أن يكون ملقياً على عاتق المؤسسات الأكاديمية العربية، التي عليها الكشف عن تاريخنا في الأرشيفات الروسية، لكن العقود الثلاثة الأخيرة، التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، لم تظهر أي اهتمام جدي بذلك لدى هذه المؤسسات.