يُشعل نار الحب ويهرب.. ماذا يعني أن تقع ضحية مصاب بــ"متلازمة كازانوفا"؟

يشعلون نار الحب في الآخرين، ثم يهربون بحثاً عن متعة جديدة وضحايا جدد. هل جرّبتم أشخاصاً كهؤلاء؟ تعالوا نخبرْكم من هم، وماذا تقول "متلازمة كازانوفا" عنهم.

في واحدة من الليالي الباردة، من عام 1755، كان جياكومو كازانوفا يتسلل إلى خارج سجن مدينة البندقية، بعد واحدة من مغامراته الأكثر جرأة. الرجل، الذي عُرف بمغامراته العاطفية، لم يكن مجرد عاشقٍ عابرٍ للنساء، بل كان رجلاً تطارده الأشباح: أشباح رغباته التي لا تنتهي، وأشباح الخوف من الالتزام، وأشباح الفراغ، الذي لا يستطيع مَلأه مهما تنقل بين الأذرع والقصور.

كازانوفا لم يكن مجرد إغوائي كلاسيكي، بل نموذج نفسي متكرر لرجلٍ يسعى للحب من دون أن يعرف كيف يبقى فيه. وهذه ليست مجرد قصة تاريخية. إنها حالة نفسية معاصرة، تُعرف اليوم بـ "متلازمة كازانوفا"، بحيث يصبح السعي وراء اللذة سجناً لا يقل إحكاماً عن جدران سجن البندقية، الذي هرب منه ذات ليلة.

في العمق، فإن "متلازمة كازانوفا" ليست مجرد نزعة إلى البحث عن علاقات عابرة، بل محاولة يائسة لسد فجوة داخلية.

ويشير تحليل علماء النفس إلى أن الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة غالباً ما يعانون اضطراب التعلق، بحيث لم يختبروا في طفولتهم أماناً عاطفياً مستقراً، فكبروا وهم يعتقدون أن الحب شيء يجب ملاحقته، وليس شيئاً يمكن الوثوق به، أو البقاء فيه.

ويقول أحد أبرز من كتب عن هذه الظاهرة، الأميركي بيتر تراختنبرغ، واصفاً المصابين بهذه المتلازمة، بأنهم "سادة الإغواء"، لكنهم عاجزون عن الحب. يعرفون كيف يُشعلون نار الرغبة في الآخرين، لكنهم لا يستطيعون الاستمرار في دفئها. وكلما اقتربوا من الحميمية، شعروا بالاختناق، فينطلقون مجدداً بحثاً عن متعة جديدة، في دائرة لا تنتهي من التوقع، والإغواء، واللذة، ثم الملل.

لكن، هل الملل هو السبب الحقيقي؟ أم أن هناك خوفاً دفيناً من أن يكتشفهم أحد بعد أن ينتهي سحر البداية؟ أن يراهم شخص على حقيقتهم؛ مجرد أرواحٍ قلقة، تسكنها هشاشة مخفية وراء أقنعة الجاذبية؟

كازانوفا في زمن.. "تيك توك"!

لم تَمُت "متلازمة كازانوفا" مع كازانوفا الحقيقي، لأنها، في الواقع، مزدهرة أكثر من أي وقت مضى.

هكذا جعلت وسائل التواصل الاجتماعي العالم أكثر قابلية للاستهلاك العاطفي، بحيث بات في إمكان أي شخص أن يصبح "إغوائياً محترفاً" بمجرد امتلاك المزيج الصحيح من الصور، والكلمات، والمظهر. تطبيقات المواعدة مثل "Tinder" و"Bumble" خلقت نموذجاً معاصراً لكازانوفا الرقمي: رجلاً (أو امرأة) يطارد الإعجابات والمحادثات الجديدة بالدافع الغامض نفسه: ليس بحثاً عن شريك، بل بحثاً عن إثبات الذات، عن وهم السيطرة، عن وهم الهروب من الفراغ الداخلي.

عالِم الاجتماع والفيلسوف البريطاني البولندي، زيغموند باومان، يصف في كتابه "الحب السائل"، كيف أن الحداثة جعلت العلاقات أكثر سطحية، بحيث باتت الروابط العاطفية مثل المنتوجات الاستهلاكية: نحصل عليها بسرعة، نملّ منها بسرعة، ونتخلص منها بالسرعة نفسها. وهذا بالضبط ما يفعله شخص مصاب بــ "متلازمة كازانوفا". إذ لا يستطيع التوقف عن البحث عن حب جديد، على رغم أنه يعرف مسبّقاً أنه لن يملأ الفراغ أبداً.

النسوية وكازانوفا تحت المجهر النقدي

في عصر الحركات النسوية المتصاعدة، لم يعد الإغواء المتكرر مجرد "لعبة ممتعة". الحركة النسوية جعلت كثيراً من السلوكات المرتبطة بــ "متلازمة كازانوفا" محلَّ تساؤل أخلاقي. هل هذا الرجل مجرّد "باحث عن الحب"؟ أم أنه رمز لثقافة قائمة على تشييء المرأة، وتحويل العلاقات إلى أداة لتأكيد الذات الذكورية؟

والمثير للسخرية أن كازانوفا، على رغم سمعته، كان أكثر تقديراً لفردية النساء مما قد يظن البعض. في مذكراته، نجده يميل إلى الحديث عن النساء كشخصيات ذات كيان ورغبات، وليس مجرد فريسة. لكن، مع ذلك، فإن أسطورته كانت دائماً مرادفاً للسيطرة والإغواء، الأمر الذي جعله نموذجاً إشكالياً في زمن أصبح ميزان القوى بين الجنسين أكثر حساسية من أي وقت مضى.

هل يمكن الخروج من دائرة كازانوفا؟

إذا كانت "متلازمة كازانوفا" تتغذى على عدم الأمان العاطفي، فهل يمكن علاجها؟ العلاج النفسي، وخصوصاً العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، أثبت فعّاليته في مساعدة الأشخاص الذين يعانون هذه المتلازمة على إدراك دوافعهم الداخلية، ومحاولة بناء روابط أكثر استقراراً. في بعض الحالات، يكون الجذر الحقيقي للمتلازمة خوفاً من الهجر، بحيث يسعى الشخص لإنهاء العلاقة قبل أن يتعرض هو نفسه للرفض.

لكن التحدي الأكبر يكمن في أن كثيرين من المصابين بهذه المتلازمة لا يرون أن لديهم مشكلة. فالمجتمع لا يعاملهم كمرضى نفسيين، بل كرموز للجاذبية والنجاح. ومن الصعب أن تعالج شخصاً لا يريد العلاج، ويرى في سلوكه "قوة" على رغم أنه في الحقيقة ضَعف مقنّع.

في النهاية، قد يكون كازانوفا مجرد رمز لمعضلة أكبر: كيف نفهم أنفسنا في عالم أصبح الحب سلعة، والعلاقات مغامرة، والارتباط خياراً قابلاً للتجاهل؟

قد لا تكون "متلازمة كازانوفا" مجرد مرض فردي، بل انعكاس لعصرنا: عصر السرعة، عصر الاستهلاك، عصر الهروب المستمر من الذات. وربما، في النهاية، تكون الطريقة الوحيدة للنجاة من هذه اللعنة هي التوقف عن البحث عن الحب كغنيمة، وبدلاً من ذلك، البحث عن معنى يجعل الحب يستحق البقاء. ففي عالم يحكمه "السويب ليفت" و"اللايكات"، ربما يحمل كل منا القليل من كازانوفا في داخله؛ ذلك الشخص الذي يبحث عن لحظة نشوة جديدة، لكنه يخاف أن يتوقف ليرى ما في داخله حقاً.

اخترنا لك