"العذر": غابة "طاووسية" في لبنان!

كلمة "العذر" تعود لجذور آرامية، وتعني العامود الرئيسي، وربما يعود ذلك إلى استخدام جذوعها في سقوف البيوت القديمة، ودعائمها، كونها جذوع طويلة ومتباسقة، تضاف إلى جذوع وأغصان اللزاب، أحد أقسى أنواع الشجر في منطقة الشرق الاوسط. 

  • بحيرة سهلة القموعة في الربيع
    بحيرة سهلة القموعة في الربيع

تشكّل غابة "العذر" الواقعة شمالي لبنان، ثروة فريدة طبيعية وبيئية نادرة، لم يُسجّل مثيلاً لها على مستوى المنطقة، وربما على مستوى عالمي أيضاً.

كأن "العذر" شجرة تحوّرت جينياً في بيئتها من أكثر من صنف نباتي، ففي الأبحاث العلمية عنها، ترصّد لأصل يضرب جذوره في شجرة السنديان، يثبت ذلك بطء نمو الشجرتين، وصلابتهما المتشابهتان، ويفترقان جذرياً في شكل أوراق وثمار كل منهما، ففي حين أن ورق السنديان صغير لا يتعدى الـ 4 سنتمرات طولاً، شكله بيضاوي مفلطح، ومتسنن الأطراف بسبب شوكٍه، وثمرته هي "البلوطة"، فإن ورقة العذر أشبه ما تكون بورقة العريش، كبيرة بحجم الكفّ، ومتعرجة عند الأطراف، دون أشواك.

لم تُكشف أهمية "العذر" إلّا من خلال الانسان الذي يعيش في محيط الغابة في منطقة القموعة في جبال عكار التي ترتفع في أعلى قممها، زهاء ال2300 متر عن سطح البحر، وتعرف القمة بقلعة عارومة، بينما تقع غابة العذر على ارتفاع يبدأ عند ارتفاع  1300 متر، ويتصاعد ارتفاعاً إلى مسافات ليست بعيدة، لكنها لا تتجاوز الـ 2000 متر.

 موقع سياحي مقصود

إلّا أن الغابة بدأت تشتهر، فتصبح موقعاً سياحياً مقصودا من مناطق بعيدة بعد انتشار صيتها عبر وسائل التواصل الحديثة. 

لعب تقطيع الأشجار دوراً كبيراً في بقاء حجم الغابة ضيقاً ومحصوراً في مليون متر مربع، وبـ 4000 آلاف شجرة فقط، على ما آلت إليه مساحة الغابة حالياً، لكنها كانت حتى وقت ليس بالبعيد كثيراً، في حدود المليون ونصف المليون متر مربع، ولولا التقطيع لامتدت الغابة إلى مساحات أوسع من ذلك بكثير، ولتواصلت مع الغابات الممتدة في القموعة المتنوّعة الأصناف، منها الأرز- التنوب، والشوح، واللزاب، والكوكلان والعرعر، والسنديان، والسرو، وسواه من أشجار حرجية فريدة، مما هدّد بفقدان لبنان ثروة فريدة ونادرة يتميّز بها عن سواه من بلدان العالم، تضاف إلى مميزاته الجميلة. 

وفي الأبحاث عن الغابة، فهي تزوّد الطبيعة بـ 600 طن من الأوكسيجين سنوياً، وتمتص 700 طن من ثاني أوكسيد الكربون، ويصل ارتفاع الأشجار المعمرة منها إلى 30 متراً.

في المعنى، فإن كلمة "العذر" تعود لجذور آرامية، وتعني العامود الرئيسي، وربما يعود ذلك إلى استخدام جذوعها في سقوف البيوت القديمة، ودعائمها، كونها جذوع طويلة ومتباسقة، تضاف إلى جذوع وأغصان اللزاب، أحد أقسى أنواع الشجر في منطقة الشرق الاوسط. 

تغيير الألوان حسب البيئة

لا بد للجولة أن تبدأ من النقطة الخفيضة في الغابة، أي على كتف بلدة فنيدق التي تتراوح ارتفاعاتها بين الـ 800 ألف متر عن سطح البحر، ولا بد من الوصول إليها من طريق سهلة القموعة الممتدة بين الجبال على ارتفاع 1400 متر، بطول كيلومترين، وعرض كيلومتر ونصف، تتحوّل شتاء إلى منبسط ثلجي، وبحيرة ربيعية تغذي مياهها الذائبة من ثلوج قممها كل ينابيع المنطقة الجوفية.

وبالصورة العامة للغابة، فيمكن القول إنها تمارس سياسة شبيهة بـ "الكاموفلاج"، أي تغيير الألوان حسب البيئة المحيطة. ويحق لكائن بهذه الفرادة والجمال، التباهي على ما عداه بإظهار محاسنه المتنوعة بين فترة وفترة. قد لا يكون غريباً تشبيهها بالطاووس المتنوّع الألوان، والمشعّ تحت الشمس.

فصول بديعة

في الربيع، هي غابة خضراء، بأوراق زاهية، كثيفة، وأشجار رفيعة الجذوع، متباسقة، ومتلاصقة، أغصانها صغيرة، وأرض الغابة نسيج نباتي أخضر، تتشكل ألوانه بالنباتات المتنوعة فيه من أزهار، وحشائش، وجموم.

في الصيف، تبدأ الغابة بإضفاء سحر جديد على منظرها العام، بتحوّل ألوان أوراقها إلى الأحمر القاني بالتدريج، وتمرّ بعدة حالات، منها الأحمر الممزوج بالأخضر، ثم يزداد الاحمرار على حساب الأخضر حتى يطغى عليه، فتصبح غابة حمراء تتلألأ تحت أشعة الشمس، فتلمع أوراقها وهي متحركة بنسمات صيفية لطيفة.

في الخريف، تبدأ الأوراق بالتلوّن نحو الأصفر، ولا تلبث أن تبدأ بالتساقط، فتتشكل أرض الغابة ببساط ممزوج بين الأحمر والأصفر، وتتغطى الأرض بها بصورة تامة، بينما تبدأ الأغصان بالتعري بالتدريج، وفي هذه الحالة، تتضح أشكال أغصانها التي كانت مغطاة ومخفية قبل ذلك بالأوراق العريضة.

في الشتاء، تصبح الأشجار جرداء بصورة تامة، وتظهر الغابة كأنها متيبسة أو محترقة، جذوعها جرداء مرتفعة في الجو، وأغصانها خفيفة الظل، قصيرة، لا تبتعد كثيرا عن الجذوع، وتصبح الغابة آلافاً من الجذوع المتواصلة والمكشوفة.

"غابة الذهب"

لا يسع الزائر الإلمام بكل مراحل متغيرات الغابة إلا إذا كرر زيارته لها بصورة فصلية، وليس ذلك مستحيلاً، رغم صعوبته لسبب واحد وهو بعد المسافة عن الطريق العام، والتي تبلغ 50 كيلومتراً، وبذلك، يمكن القول إنها تقع على مسافة 70 كيلومتراً تقريباً من العاصمة الثانية طرابلس، وزهاء 160 كيلومتراً عن العاصمة بيروت، لجهة الشمال.

وصفها بعض الزوار بأنها غابة الذهب نظراً للألوان المذهبة التي تعطيها أوراقها في تحولاتها بين الأحمر والأصفر مع إشعاع منعكس تحت نور الشمس.

وترتفع الأشجار مع التقدّم في منحدراتها، بصورة متكررة ومتشابهة، وعلى حفافي دروبها الطبيعية تزهر أصناف من الزهور، والنباتات منها ما هو معروف وعادي كالأقحوان، ومنها ما هو غير مألوف، ولا تعرف له هوية.

ونظراً لامتدادها على ارتفاعات عالية، فهي تتغطى بالثلوج على فترات طويلة في الشتاء، يضفي عليها البياض سحراً جديداً على سحرها المتنوّع، والمتغيّر بتغيّر الفصول.