السنّة في مواجهة الوهابية والإبراهيمية
الخطاب التكفيري كان ينهل من المراجع اليهودية، ويهمّش الأئمة المكرّسين عند أهل السنّة، فيما يذهب الخطاب الإبراهيمي أبعد من ذلك في الإحالة المرجعية اليهودية نفسها.
-
الإبراهيمية السياسية، الأداة الأخرى ضد السنّة.
إضافة إلى الأعمال الإجرامية للجماعات التكفيرية بحق المكونات المذهبية الأخرى للأمة، واحتكار هذه الجماعات للتأويلات الدينية، وتنفيذها المذابح الجماعية تلو المذابح عبر التاريخ، من مذبحة كسروان بدعم المماليك إلى الأزمنة الحديثة، ثمة حرب خطيرة منسية أو محجوبة بحق أهل السنّة وخطابهم المعتدل المعروف بكل أركانه، الأشعرية وتيارات واسعة من المعتزلة والتصوّف، وثمة أصابع يهودية وخارجية تقف وراء ذلك في كل مرة.
لقد بات واضحاً أن الجماعات التكفيرية من جهة والإبراهيمية السياسية من جهة أخرى، تتبادلان الأدوار وتتكاملان في منظومات الاستخبارات الأطلسية، ضد الشيعة والتشيّع السياسي، ثم ضد أهل السنّة.
بالنسبة إلى الجماعات التكفيرية التي ضخّمت التأويلات الخاصة بالأحاديث كما تفهمها هذه الجماعات، قياساً بالقرآن الكريم، كما لاحظ جورج طرابيشي في كتابه (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث)، فقد باتت خياراً أساسياً عند الأطلسي وحساباته، ويتذكر الجميع أنه كلما شعرت أقلام الاستخبارات الأطلسية بأن المراكز السنّية التقليدية، ليست مستعدة للدخول في أي مشاحنات واحتقانات مذهبية مسلحة ودامية ضد أي جماعات مذهبية أخرى، راحت تركز على الجماعات التكفيرية الأكثر استعداداً للدخول في مثل هذه الحروب.
ولم تتردد أقلام الاستخبارات المذكورة في تسليم السلطة لهذه الجماعات، كما حدث في أفغانستان والصومال ومناطق في غرب ليبيا، وعندما لم تجد جماعات تكفيرية تتخذ من الإسلام لبوساً لها، راحت تبحث عن جماعات غير إسلامية كما حدث في لبنان، عندما فشلت في تحويل الحريرية السياسية إلى مخلب قط دموي ضد حزب الله، فركزت على جماعات طائفية انعزالية معروفة بعلاقاتها الوثيقة مع الكيان الصهيوني.
انطلاقاً من الطبعة الأفغانية وترجمتها في سوريا باسم جبهة النصرة، وصولاً إلى القصر الرئاسي في دمشق، كما القصر الرئاسي في كابول، وتحويل سوريا كلها إلى "بافر ستيت" طائفي مسلح، فإن الأهم هو البعد الأيديولوجي الذي لا يقتصر على محور المقاومة وثقافته وتعبيراته السياسية، بل استبدال الخطاب السنّي التاريخي، الأشعري المعتدل، بخطاب بديل مختلف كل الاختلاف من حيث تأويلاته وآلياته ومرجعياته.
وبهذا المعنى، فإن برنامج الجماعات التكفيرية لا يكتفي بالمذابح الجماعية كما حدث في الساحل السوري، بل يستهدف إزاحة وشطب الخطاب السنّي المعتدل تحضيراً لما هو أخطر وأكبر وأوسع، ما يذكر بالمواجهة الكبيرة بين علماء وشيوخ دمشق والقاهرة من أهل السنّة وبين ابن تيمية، وكانت الخلافات أعمق من الفقه الخاص بالميراث والطلاق ومسائل من هذا القبيل.
الإبراهيمية السياسية، الأداة الأخرى ضد السنّة
إضافة إلى الخطاب التكفيري بمرجعياته المختلفة، من ابن تيمية إلى الوهابية إلى البقية، تعود الإبراهيمية السياسية إلى تجارب سابقة أجرتها الاستخبارات البريطانية خلال استعمارها لآسيا الوسطى، بما في ذلك الأوساط الإسلامية في الهند الكبرى القديمة، وما زالت رواسبها موجودة في تيارات معروفة، مثل القاديانية والبهائية، إلا أنها لم تنضج كمشروع استخباري استراتيجي إلا مع الرئيس الأميركي الأسبق، كارتر، في تسويقه "كامب ديفيد"، ثم من خلال توصيف هذا الاتفاق وامتداداته باسم الاتفاقيات الإبراهيمية، والعمل على تعميمها قبل قطع الطريق عليها إثر طوفان الأقصى.
ويمكن القول إن الإبراهيمية السياسية هي العنوان الأبرز لمشروع الشرق الأوسط الجديد، الصهيوني الأطلسي، والذي يستهدف إعادة هيكلة الدول والبنى والاقتصاد في عموم المنطقة، وفق معادلة المركز الإسرائيلي والمحيط العربي والإسلامي، انطلاقاً من فكرة كارتر وتأويلها الصهيوني.
فبحسب كارتر، فإن الصراع في المنطقة ليس كما هو شائع، ويقصد عند الوطنيين بكل خلفياتهم الفكرية والسياسية (صراع مع الإمبريالية والصهيونية وامتداداتهما)، بل هو صراع بين أبناء إبراهيم، آن له أن يتوقف، وأن يدخل هؤلاء الأبناء في عقد أخوي جديد، وهو ما يعني في العقل الصهيوني عقد عبودية بين أبناء سارة (الحرّة) وأبناء هاجر (الجارية).
هكذا إذاً كان الخطاب التكفيري ينهل من المراجع اليهودية كما سنرى، ويهمّش الأئمة المكرّسين عند أهل السنّة، فإن الخطاب الإبراهيمي يذهب أبعد من ذلك في الإحالة المرجعية اليهودية نفسها.
شيء من التاريخ، الجذور الأموية للحرب على الصحابة والسنّة
- كانت البداية مع اغتيال عمر بن الخطاب وإزاحة هذه العملية عن مدبريها الحقيقيين، التي عُرفت بمنفّذها فقط (أبو لؤلؤة)، فالأصل فيها أن المغيرة بن شعبة (وكان للرسول رأي فيه وبإسلامه) هو الذي دبّر ذلك مع عدد من أمراء وقادة الجند في الكوفة، بعد أن رفض عمر تسجيل أراضي الفتح باسمهم، باعتبارها جزءاً من بيت المال يمكن التصرّف فيها تحت عنوان حق التصرّف لا حق الملكية والرقبة.
ولقد ظلّت هذه السياسة قائمة حتى استبدلها صلاح الدين الأيوبي حين وزّع الكثير من الأراضي على أولاده وإخوته باسم حق الرقبة، ما تسبّب في صراعه مع الزنكيين، حتى أنّه وقّع صلح الرملة مع الغزو الصليبي للتفرّغ لقتال الزنكيين.
- في زمن معاوية، من الذين اغتيلوا الصحابي عمار بن ياسر والصحابي حجر بن عدي الكندي ومحمد ابن الخليفة أبو بكر بأمر من والي معاوية على مصر، وقد قطعت جثته وجرى حشو دابة بها.
- في زمن يزيد بن معاوية، إضافة إلى مذبحة كربلاء، فقد كان نصيب أهل السنّة وأبناء الصحابة وأحفادهم من القتل أكبر بكثير من آل البيت، فقد قتل جيش يزيد من أبناء المدينة المنورة وبينهم أبناء وأحفاد الصحابة، العشرات بل المئات، إضافة إلى سبي الحرائر، وذلك لرفضهم مبايعته بسبب سلوكه المنافي للتربية والقيم الإسلامية، ومن الذين قتلهم جيش يزيد في الحرّة قرب المدينة:
o أبو بكر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب
o عبد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب
o سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب
o عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق
o موسى شقيق عائشة بنت ـبي بكر
o عبد الله ابن أنس بن مالك
o يحيى ابن أنس بن مالك
o سعيد بن زيد بن ثابت
o محمد بن زيد بن ثابت
o زيد ومصعب وعبد الله أبناء عبد الرحمن بن عوف
o إسماعيل بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت
o عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وابنه أبو بكر
وغيرهم الكثير...
أما الجذور النظرية لكل ذلك، فتعود إلى تداخل القبلي مع الأيديولوجي، وعدم اقتصار الملاحقة الأموية على الخصوم السياسيين، بل امتدت إلى الخصوم الأيديولوجيين لفكرة الجبر، مثل الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي والجهم بن صفوان.
المحطة التالية، الحرب على الأئمة الثلاثة لأهل السنة والجماعة
بخلاف ما هو شائع عن الاحترام الرسمي التاريخي للمرجعيات الأئمة، فقد تعرّض ثلاثة منهم للملاحقة والسجن والاضطهاد في العصرين الأموي والعباسي:
- الإمام الأعظم، النعمان بن ثابت (أبو حنيفة)، فقد تعرّض للاضطهاد في الزمن الأموي لتأييده الإمام زيد بن علي، وتعرّض للاضطهاد في الزمن العباسي لأنه رفض القضاء في بلاط أبو جعفر المنصور.
- الإمام مالك بن أنس، تعرّض للاضطهاد من المنصور أيضا لأنه اعتُبر من أنصار محمد النفس الزكية.
- الإمام محمد بن إدريس الشافعي، تعرّض للاضطهاد في زمن هارون الرشيد لأنه رفض الهجوم على التشيّع.
- كما يُشار إلى أن الإمام الرابع، أحمد بن حنبل، الذي رفض فكرة المعتزلة عن خلق القرآن في عهد المأمون والمعتصم، اعتبر علياً أحق بالخلافة من معاوية.
محطات أخرى
أياً كان الموقف من العثمانيين والمماليك وممارساتهم الطائفية، فقد أطاح العثمانيون المماليك الذين كانوا أشد تعصباً لأهل السنّة والجماعة، وأنهوا دولتهم بعد معركة مرج دابق 1516، وحولوهم إلى تبّع لهم في مصر.
ومن مفارقات ذلك أن السلطان العثماني، سليم الأول، اعتبر نفسه منقذا للإسلام الصحيح من المماليك (الكفّار)، وهو ما حاول نابليون تكراره بعد غزو مصر، بتقديم نفسه كنصير ومنقذ للمسلمين من المماليك.
البعد الخارجي – اليهودي والأنجلوسكسوني
عند العودة إلى العقل الاستشراقي الاستخباري الأطلسي، ودفع التكفيريين إلى مواجهة الجميع، عبر محاولة استحواذهم على الخطاب والوعي الجمعي (السنّي) ومصادرته، لا بد من استذكار العوامل الخارجية، اليهودية في كل مرة، والأنجلوسكسونية في الأزمنة الحديثة، وكيف حوّلوا تأويلات الحديث الشريف إلى (دين جديد):
- إضافة إلى محطات سابقة عابرة مثل دور يهود بغداد في التحريض على الحلاج وصلبه وقتله، يمكن اعتبار حالة ابن ميمون من الحالات التأسيسية لابن تيمية وغيره، فتحت ظروف غير معروفة تماماً، وجد الفيلسوف والطبيب اليهودي، ابن ميمون، مكاناً أساسيا له في بلاط صلاح الدين الأيوبي، وكان ابن ميمون هارباً من الأندلس بعد سيطرة الموحدين الأمازيغ عليها، ويقال إنه وراء قرار صلاح الدين السماح لليهود بدخول القدس بعد تحريرها إثر معركة حطين، بيد أن اللافت للانتباه، كان دوره في تحريض صلاح الدين على الدولة الزيدية في اليمن.
وسنرى لاحقاً أن جانباً مهماً من أفكار ابن ميمون، ولا سيما حول اللاهوت والحاكمية، سينعكس بقوة في كل الأيديولوجيات اللاحقة للجماعات التكفيرية، وليس بلا معنى، كما سنرى اهتمام فيلسوف اللاهوت اليهودي المحدث والمضمر، شتراوس بالأفكار المذكورة.
- لم تصل أي من جماعات التكفير السابقة لابن تيمية، إلى ما بلغه من فقه تفكيري تأسيسي بنكهة يهودية، ولم يكن ذلك بسبب التقاعس العام في مواجهة المغول والحملات الصليبية، فلا أحد تصدّى لهما كما تصدّى المماليك، الذين كانوا يسيطرون على مصر وبلاد الشام، فلماذا ظهر ابن تيمية في تلك المرحلة، وسُجن من قبل فقهاء المماليك أكثر من مرة، ولماذا اشتبك مع كل التيارات الإسلامية، من تلاميذ الغزالي إلى تلاميذ الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة، مالك، والشافعي)، ناهيك عن الفلسفة والفلاسفة والمتصوفة.
في بعض الأجوبة الفلسفية، ما يحيله إلى ثقافة حرّان التي وُلد في بيئتها، وكانت حافلة بالنقاشات بين كل التيارات، من الصابئة إلى الفلسفة الإغريقية، وخاصة الأفلاطونية والأفلوطينية، وهذا ما يحيلنا إلى القديس أوغسطين وأفكاره حول الصفاتية والعلاقة بين مدينة الله والمدينة الأرضية (تساوي الحاكمية)، التي أعاد ابن تيمية إنتاجها ونسبها لنفسه، كما نسب إليه العديد من أفكار أوغسطين، من دحض القياس الأرسطي وصولاً إلى فكرة العلة والسبب الأفلوطينية، واستبدال الوجوب باللزوم الاقتراني.
أما البعد الخارجي الأبرز والذي سيطر على مجمل مشروع ابن تيمية، فهو البعد اليهودي الذي يتجاوز جانبا من حياته قريباً من حي اليهود في دمشق، إلى أفكاره التأسيسية التي أصبحت المرجعية المتداولة لدى تلامذته الكبار، ونقصد على وجه التحديد تأثره الكبير واعترافه بذلك، بالفيلسوف والطبيب اليهودي الذي أعلن إسلامه باسم (أبو البركات البغدادي) ولم يجمع علماء المسلمين على حقيقة وحسن إسلامه.
بالعودة إلى البغدادي المذكور (النسخة التالية من ابن ميمون القاهري)، فهو نفسه لا ينكر اطلاعه على أفكار أفلوطين وتلميذه اليهودي المصري (فيلون)، والتي تصطدم مع الخطاب الإسلامي السنّي التقليدي الأشعري، ومع الغزالي كذلك، ولا سيما حول الصفات والتجليات الإلهية.
ومن اللافت للانتباه هنا أن حماسة تيار ابن تيمية للجهاد ضد الصليبيين تزامنت مع حماسة اليهود الذين كانوا هدفاً مباشراً للحملات الصليبية الأولى قبل (الزواج الكاثوليكي) بين اليهودية والمسيحية بعد الثورة البروتستنتية واكتشاف الرأسمالية جذورها في الربا اليهودي.
إضافة إلى ذلك، معروف أن التأصيل الأيديولوجي للتحريض على (الرافضة) يعود لابن تيمية المتهود فلسفياً، رغم أن التشيّع حينذاك لم يشكل أي خطر على (أهل السنّة)، حيث كانت تتوالى حملات المغول والصليبيين.
وإذا تذكرنا أن من ظواهر التشيّع حينها (الإسماعيلية) وخاصة الفرقة النزارية التي أسسها الحسن الصباح وكانت الأشجع في مواجهة الصليبيين والمغول والسلاجقة معاً، وقتلت العديد من قادتهم وملوكهم، وإذا كانت قد قتلت الوزير السلجوقي، نظام الملك، فقد قتل من الملوك والأمراء الصليبيين: كونراد، وريموند، وبوهيموند.
الجماعات التكفيرية والبعد اليهودي الأنجلوسكسوني في الأزمنة الحديثة
- مع بدايات تفسخ الإمبراطورية العثمانية وهزائمها المتتالية أمام روسيا القيصرية الصاعدة، برزت المسألة الشرقية وعنوانها (الرجل التركي المريض)، ما شجّع الإمبريالية البريطانية الصاعدة أيضاً على استكمال سيطرتها على شبه القارة الهندية، بالسيطرة على أملاك الإمبراطورية العثمانية، وصاغت استراتيجية لذلك بدت للوهلة الأولى كاستراتيجية متضاربة.
فمن جهة كانت تقف إلى جانب تركيا الهابطة مقابل روسيا الصاعدة، ومن جهة كانت تسعى لتصفية الرجل التركي المريض لوراثته.
في هذا السياق أخذ قلم الاستخبارات في شركة الهند الشرقية البريطانية يراقب الحالات الأيديولوجية المتناثرة في الوسط الإسلامي المحيط بالحالة التركية، وكان من بين هذه الحالات المرشحة للتعاون، مجموعة في البصرة بزعامة شاب قادم من الدرعية في نجد، هو محمد بن عبد الوهاب، وتمكن قلم الاستخبارات البريطانية من إقامة علاقة وثيقة معه، سرعان ما تحولت إلى علاقة استراتيجية على المستوى الإقليمي، خاصة بعد أن تشكل حلف قبلي – مذهبي خارج الثقافة السنّية التقليدية، بين آل عبد الوهاب (آل الشيخ) وبين آل سعود، صار أهم ركيزة للمشروع البريطاني في المنطقة آنذاك.
وقد أظهرت مذكرات عدد من رجال الاستخبارات البريطانية، أن العلاقة تخطّت القضايا الصغيرة إلى مشروع كبير لاستبدال السيطرة العثمانية بسيطرة وهابية – سعودية تجتاح المنطقة كلها بدعم الإمبريالية البريطانية، ومن هذه المذكرات، مذكرات الكابتن شكسبير، ومذكرات عالم الآثار السويسري الشهير بيركهات الذي جندته الاستخبارات البريطانية باسم الشيخ عبد الله اللوزاني.
معروف أيضاً أن حاكم مصر القوي، محمد علي، وجيوشه بقيادة ابنه إبراهيم باشا، تمكن من هزيمة التحالف الوهابي – السعودي وإحراق الدرعية نفسها بقرار من السلطان العثماني، قبل أن ينقلب محمد علي على السلطنة العثمانية ويفتك بجيوشها ويحاصر إسطنبول نفسها، قبل أن يتراجع عن ذلك عام 1840 تحت ضغط مفارقة أخرى، هي حشد بريطانيا وروسيا القيصرية قواتهما بتمويل اليهودي، روتشيلد، لطرد محمد علي من سوريا وإنهاء محاولة لتوحيد مصر وبلاد الشام واستبدال المركز العثماني بمركز عربي مصري سوري.
- البعد الخارجي الثاني لصناعة الجماعات التكفيرية وتوظيفها، تمثل في عمل بريطاني – يهودي ضد الهند، فبعد أن أدركت بريطانيا أن الهند الموحدة بقيادة غاندي ونهرو في طريقها إلى الاستقلال وإنهاء السيطرة البريطانية، تبنّت التيار الانشقاقي داخل رابطة العالم الإسلامي الهندية، والذي يدعو إلى الاستقلال باسم (الباكستان) مقابل تيار اللامركزية في إطار الهند الكبرى.
ومن الذين أسهموا في قيادة وتغذية هذا التيار، صحافي نمساوي يهودي كان يعمل لمصلحة الاستخبارات البريطانية في الهند كمراسل حربي لصحيفة لندنية، هو ليوبولد فايس، الذي أعلن إسلامه وتحوّل إلى (الشيخ محمد أسد)، تماماً كما فعل بيركهارت (الشيخ عبد الله).
إلى جانب هذه الظاهرة وبرعاية بريطانية أيضا صعدت في الهند الكبرى ظاهرة إسلامية متطرفة غير مألوفة عند الجماعية السنّية التقليدية، وكان من عناوينها الشيخ أبو الأعلى المودودي، الذي لم ينضم مباشرة إلى فكرة استقلال الباكستان، ولم يتردد بعد التحاقه بالاستقلال في تأييد أيوب خان (الرئيس المعتدل لباكستان) ثم معارضته لاحقاً، ما يذكّر بسلوك سيد قطب وانتقاله من تأييد عبد الناصر إلى الانقلاب عليه وتكفيره.
يُعتبر المودودي لدى أوساط إسلامية واستشراقية بمنزلة واحد من الآباء المؤسسين للفكر التكفيري عبر التاريخ، مثل ابن تيمية وابن عبد الوهاب، ومثل تلميذه اللاحق سيد قطب، ومن أبرز أفكاره على هذا الصعيد (الحاكمية) المستمدة، شأن ابن تيمية وابن عبد الوهاب، من فكرة الأب أوغسطين، المدينة الأرضية كظلال لمدينة السماء.
- المحطة التالية، هي المحطة التي مثلها التيار القطبي ضد جمال عبد الناصر، قائد المشروع العربي للتحرر في خمسينات وستينات القرن الماضي، وقد تزامن صعود هذا التيار مع الاستراتيجية التي وضعتها الاستخبارات الأميركية في عهد إدارة أيزنهاور، وعهد بها إلى مدير الاستخبارات، دالاس، الذي لاحظ أن الجمهور العربي (السنّي والشيعي والمسيحي) بات تحت تأثير جمال عبد الناصر، وأن التجارب السابقة تجعل من التيارات التكفيرية أفضل حليف لواشنطن.
ومن المفارقات ذات الدلالة أن الجمهور السنّي الواسع العادي الذي كان ناصرياً بالفطرة، راح يتعرّض لحملة غسل دماغ واسعة في سياق السعي الأميركي – الصهيوني لاستئصال الإرث السياسي الوطني الناصري.
وقد تزامن هذا السعي مع الطفرة النفطية والثقافة الوهابية والسلفية التي اقتحمت فضاء هذا الجمهور، وحاولتالأجهزة الأميركية والرجعية التقاط بيئات منها لتكون حواضن للجماعات التكفيرية، التي جرى تصنيعها منذ سبعينات القرن الماضي.
- أما المحطة الأخطر في تاريخ التكفير الإرهابي الإجرامي، كبديل للخطاب السنّي وعلاقته بالأجندة الخارجية، فهي التي وُلدت في بيئة الانقلاب الساداتي على الناصرية، وكان من ضمن سلسلة من الانقلابات والتحولات التي أُوكلت إلى جنرالات الخيارات الأميركية في البداية، وبدأت بانقلاب سوهارتو في إندونيسيا وبناء ميليشيات تكفيرية أبادت مليون فلاح وعامل وطالب بذريعة محاربة الاشتراكية، مروراً بانقلاب السادات في مصر والنميري في السودان والشاذلي في الجزائر، وكان من عناوينها الخصخصة وفلسفة السوق والأمركة وتوظيف الإسلام الأميركي.
في هذه البيئة وُلدت المناخات التكفيرية التي كثيراً ما لدغت رعاتها المحليين، من اغتيال السادات، إلى العشرية السوداء في الجزائر، إلى إغراق السودان في الحروب حتى اليوم، ذلك أن أقلام الاستخبارات الغربية التي وجدت أن الإسلام السياسي التقليدي عاجز عن ترجمة السياسات الأميركية، راحت تركز على الجماعات التكفيرية وتدفع الإسلام السنّي المتسامح إلى الخلف.
وكانت التجربة المدوّية على هذا الصعيد هي التجربة الأفغانية، التي تراجع فيها الإسلام السنّي التقليدي إلى الخلف كثيراً، مقابل السيطرة شبه الكاملة للجماعات التكفيرية وخطابها المعروف، وذلك على إيقاع الاستراتيجية الأميركية في مواجهة موسكو والمشروع الروسي الأوراسي، وقد برهنت هذه الجماعات قدرتها كما هو معوّل عليها من قبل الإمبرياليين، وتعدّت أفغانستان إلى مناطق واسعة في مواجهة المقاومة وخطاب التحرر، إضافة إلى دورها كبديل للإسلام السنّي التقليدي، ولا يُذكر ذلك بطبيعة الحال من دون استذكار مرجعياتها اليهودية التي لم تغب عن المحطات السابقة المماثلة.
في المسألة الأفغانية كما في مسألة الانبعاث العثماني من واشنطن، كان المؤرخ اليهودي الأميركي من أصل بريطاني، برنارد لويس، حاضراً بقوة إلى جانب أكثر من استراتيجي أميركي يهودي مثل شتراوس وفريدمان.
فبخلاف الاعتقاد الواسع في الوسط السنّي المعتدل بأن الإسلام لم يعرف شكلاً دينياً مطابقاً للدولة والسياسة، بدلالة وثيقة المدينة التي كتبها الرسول نفسه، أكّد لويس في كتابه (لغة السياسة في الإسلام) ومثله شتراوس في مقارنته بين الفارابي وابن ميمون، أن الإسلام والسياسة والدولة منظومة واحدة، تماماً كما هو الخطاب التكفيري حول الحاكمية.
وهو المصطلح الذي ربطه الخطاب التكفيري بآية السيف، أي بسلطة سياسية برسم التوظيف بدءاً من مواجهة الناصرية والاشتراكية، مروراً بمواجهة الشيعة السياسية، وانتهاء بإزاحة الخطاب السنّي المعتدل والأشعري وأخذ مكانه وفق التجربة السورية الحالية.
يُشار أخيراً إلى الجامعة الإسلامية في تل أبيب، التي لا تقتصر على إعداد الإسلاميين المستعربين، بل تنتج تصورات وأفكاراً وجماعات برسم الطلب في كل حالة ومرحلة.