الفريضة الغائبة في خطة ترامب للسلام

لو كانت خطة ترامب تهدف حقاَ إلى تحقيق السلام في المنطقة، فعليها أن تدرك أن السلام القابل للدوام في المنطقة لن يتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي الفلسطينية.

  • تحظى منطقة الشرق الأوسط باهتمام واضح من جانب الرئيس الأميركي ترامب.
    تحظى منطقة الشرق الأوسط باهتمام واضح من جانب الرئيس الأميركي ترامب.

تحظى منطقة الشرق الأوسط باهتمام واضح من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما يوحي بأنها تحتل موقعاً متقدماً في جدول أولويات الإدارة الأميركية في المرحلة الحالية.

فقد قام ترامب، فور دخوله البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير الماضي، بتحركات واسعة النطاق أسفرت عن التوصل مؤخرا إلى اتفاق لوقف الحرب المشتعلة في غزة منذ أكثر من عامين.

ولأنه يدرك حجم الصعوبات التي ما تزال تكتنف دخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ، ويأمل في الوقت نفسه أن يؤدي تثبيت وقف إطلاق النار إلى فتح الطريق نحو تسوية شاملة للصراع في المنطقة، يبدو ترامب مصمماً على مواصلة النهج الذي بدأه حتى النهاية. فهل سيتمكن حقاً من حل هذا الصراع المزمن الذي بات يشكل تهديداً للسلم العالمي، أم أن ما يقوم به ترامب حالياً لا يعدو كونه في حقيقة الأمر أسلوباً جديداً لإدارة الصراع صُمّم كي يصب لمصلحة "إسرائيل" في نهاية المطاف؟

فمنذ عدة أسابيع، قام ترامب بإجراء مشاورات مكثفة مع "إسرائيل"، من ناحية، ومع عدد من الدول العربية والإسلامية، من ناحية أخرى، أسفرت عن اتفاق على وثيقة أميركية رسمية صدرت في 29 أيلول/ سبتمبر الماضي تحت عنوان “الخطة الشاملة لإنهاء الصراع في غزة”. وبعد ذلك بأيام قليلة، شارك ترامب في مؤتمر شرم الشيخ، الذي صدرت في ختام أعماله وثيقة ثانية حملت عنوان "إعلان ترامب للسلام الدائم والازدهار"، قام بالتوقيع عليها بنفسه إلى جانب الرئيس المصري والرئيس التركي وأمير دولة قطر.

وما إن دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ حتى قرر ترامب تحويل خطته للسلام في المنطقة إلى خطة أممية معتمدة من مجلس الأمن، ما يفسّر قيام إدارته بصياغة مشروع قرار يتوقع أن يُعرض قريباً على هذا المجلس. صحيح أن نصه الرسمي لم يُنشر بعد، غير أن ما كُشف عن مضمونه عبر تسريبات صحافية يوحي بأن هدفه الأساسي ليس إضفاء المشروعية الأممية على "قوة الاستقرار الدولية" التي تقترح خطة السلام تشكيلها لحفظ الأمن في قطاع غزة، كما أُشيع من قبل، وإنما منح ترامب شخصياً تفويضاً شاملاً لإدارة المرحلة الانتقالية بنفسه، ما يعني أنه يبحث عن غطاء قانوني يمكّنه من الانفراد بهذه الإدارة، كما سنشير فيما بعد.

تحتوي "الخطة الشاملة لإنهاء الصراع في غزة" على 20 بنداً يُفترض أن تصبح غزة، عند الانتهاء من تنفيذها، "منطقة آمنة لا تشكل تهديداً لمصر وإسرائيل"، وفقاً للنص الوارد في الخطة.

ولأن "الصراع في غزة" ليس صراعاً منفصلاً أو قائماً بذاته، وإنما هو جزء من صراع  أوسع محتدم بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ أكثر من قرن، يُفترض أن يشكل إنهاؤه خطوة تفضي إلى إنهاء الصراع الأصلي والأشمل، وإلّا تصبح المنطقة معرضة للدوران من جديد في الحلقة المفرغة نفسها التي أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم من بؤس وخراب. لذا يرى كثيرون أن الرئيس ترامب أحسن صنعاً بالذهاب إلى مجلس الأمن، إذا كان الهدف من هذه الخطوة هو إضفاء الشرعية الدولية على خطته للسلام.

غير أن عليه أن يدرك في الوقت نفسه أن مجلس الأمن هو الجهاز المسؤول عن ضبط السلم والأمن الدوليين، وفقاً لقواعد منصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فليس من حقه تفويض صلاحياته إلى دول يُفترض أنها تتصرف وفق ما تمليه عليها مصالحها الوطنية الضيقة.

لذا فإن أي قرار يصدره المجلس حول خطة ترامب ينبغي أن يضمن اتساق عمل الأجهزة والآليات التي سيُعهد إليها بمهمة تنفيذ المهام المتضمنة في هذه الخطة، مع المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، ما يستدعي أن يشرف عليها بنفسه، وأن يتأكد أن الانتهاء من تنفيذ هذه المهام سيؤدي حتماً إلى فتح الطريق نحو إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.

تقترح خطة ترامب للسلام تشكيل هيئات ثلاث تشترك معاً في إدارة قطاع غزة خلال المرحلة الانتقالية التي تعقب وقف إطلاق النار، وهذه الهيئات هي:

1- قوة متعددة الجنسيات، يُفترض أن تعمل تحت قيادة موحدة وبتنسيق مباشر بين مصر و"إسرائيل"، تتولى توفير حماية فعالة للسكان المدنيين، من ناحية، والإشراف على عمليات نزع السلاح، من ناحية أخرى.

2- هيئة مدنية، يُفترض أن تُشكّل من خبراء فنيين (تكنوقراط) لا ينتمون إلى أي من الفصائل أو التيارات السياسية، وأن تتولى مهامّ تتعلق بإدارة وتشغيل المرافق العامة وتقديم الخدمات.

3- مجلس سلام، يُفترض أن يرأسه ترامب، وأن يتولى الإشراف العام على إدارة المرحلة الانتقالية. غير أن مشروع القرار الأميركي المقدم إلى مجلس الأمن حرص على تركيز معظم السلطات والصلاحيات في يد الهيئة التي يرأسها ترامب شخصياً، ألا وهي "مجلس السلام"، وحدد لولايتها فترة زمنية زمنية لا تقل عن عامين، قابلة للتجديد.

فهذا المجلس، وفقاً لنص مشروع القرار، هو "هيئة حكم انتقالية تدير شؤون القطاع"، ويتمتع بصلاحيات واسعة تجيز له "إنشاء هيئات تنفيذية مؤقتة" تتولى مسؤولية إدارة السلطة المدنية وتقديم الخدمات العامة، ما يعني أنه الجهة التي تملك صلاحية تعيين أعضاء الحكومة المدنية الفلسطينية، وهو المسؤول عن اتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالإعمار...الخ. صحيح أن في مشروع القرار نصاً يفيد بأن هذا المجلس "سيحكم بما يتفق مع المبادئ القانونية الدولية"، لكن هذه عبارة فضفاضة لا تسمح بممارسة أي قدر من الرقابة على أعماله.

على صعيدٍ آخر، لا يشير مشروع القرار الأميركي المقدم إلى مجلس الأمن إلى وحدة الأراضي الفلسطينية، أو إلى العلاقة العضوية التي تربط بين قطاع غزة والضفة الغربية، أو إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولا حتى إلى قرارات مجلس الأمن السابقة حول المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية، وتلك هي الفريضة الغائبة عن خطة ترامب والتي يتعين تداركها والتذكير بها صراحة في أي قرار يصدره مجلس الأمن حول مستقبل قطاع غزة. وربما يكون من المفيد هنا التذكير بالقرار 2334 الذي أصدره مجلس الأمن في 23 كانون الأول/ديسمبر 2016، وينص على أن:

1- إنشاء "إسرائيل" للمستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية ويشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. وعقبة كبرى أمام تحقيق حل الدولتين ويعوق التوصل إلى سلام عادل ودائم وشامل.

2- يطالب "إسرائيل" بوقف فوري وكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأرض الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية.

3- يرفض الاعتراف بأي تغييرات في خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، سوى تلك التي يتم الاتفاق عليها بين الطرفين من خلال المفاوضات.

4- يدعو جميع الدول إلى التمييز في تعاملاتها بين أراضي "دولة إسرائيل" والأراضي المحتلة منذ عام 1967.

5- يشدد على ضرورة اتخاذ خطوات فورية لعكس الاتجاهات السلبية على الأرض التي تهدد حل الدولتين.

6- يدعو إلى تسريع الجهود الدولية والإقليمية لدفع عملية السلام على أساس قرارات الأمم المتحدة السابقة ومبادرة السلام العربية.

لو كانت خطة ترامب تهدف حقاً إلى تحقيق السلام في المنطقة، فعليها أن تدرك أن السلام القابل للدوام في المنطقة لن يتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي الفلسطينية التي احتُلت عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، خصوصاً أن هذه الأراضي تمثل أقل من 28% من إجمالي مساحة فلسطين التاريخية، وهو الحد الأدنى لما يمكن للشعب الفلسطيني أن يقبله لتسوية الصراع المحتدم مع المشروع الصهيوني منذ أكثر من قرن من الزمان.

ولأن هذه الرقعة المحدودة من فلسطين التاريخية ليست مجرد أرض تحتلها قوة استعمارية، وإنما هي أرض يقيم عليها حالياً أكثر من 800000 مستوطن يهودي، منهم أكثر من 200000 يقيمون في منطقة القدس، فمن الصعب تصور إمكانية وضع "حل الدولتين" موضع التطبيق، إلا في ظل حكومة إسرائيلية تقبل بتفكيك جميع المستوطنات وبترحيل جميع المستوطنين إلى خارج الضفة، بما فيها القدس الشرقية، وهو ما يستحيل تصور قبوله من جانب الحكومة الإسرائيلية الحالية، أو أي حكومة أخرى قد تتشكل في المستقبل المنظور.

كما يصعب تصور أن يكون الرئيس الأميركي الذي تجرأ على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، هو نفسه الذي يمكن أن يضغط على الحكومة الإسرائيلية للانسحاب من كل أنحاء الضفة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وفي سياق كهذا، يرجّح أن يكون الحل الذي يسعى الرئيس ترامب إلى وضعه موضع التنفيذ خلال المرحلة المقبلة مختلف تماماً عن الحل الذي يدور في أذهان المتفائلين العرب.

إذا نجح ترامب في استصدار قرار من مجلس الأمن يفوّضه التحكم في مصير غزة، من خلال رئاسته "مجلس السلام"، ويخلو من أي إشارة لقراراته السابقة، خصوصاً القرارات المتعلقة بوحدة الأراضي الفلسطينية وعدم شرعية المستوطنات اليهودية المقامة على أي جزء من الأراضي التي احتُلت عام 1967، فليس من المستبعد مطلقاً أن يكون الحل الذي يسعى إلى تحقيقه حالياً هو الحل نفسه الذي كان يفكر فيه منذ أشهر، ألا وهو:  بناء "ريفييرا شرق أوسطية" على شاطيء غزة، وتمكين "إسرائيل" من ضم معظم المستوطنات الرئيسية المقامة في الضفة، وتوسيع نطاق اتفاقيات أبراهام لتشمل السعودية، ما يعني التصفية الفعلية للقضية الفلسطينية. انتبهوا أيها السادة.