مجلس الأمن يفوض ترامب بتقرير مصير الشعب الفلسطيني!

نجاح ترامب في حمل مجلس الأمن على تبنّي خطته الشاملة لإنهاء الحرب في غزة، قد يساعد على تحويلها إلى خطة أممية، لكنه لن يساعد على تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.

  • ما هو الدرس الذي ينبغي على الجميع استخلاصه من
    ما هو الدرس الذي ينبغي على الجميع استخلاصه من "طوفان الأقصى"؟

عقد مجلس الأمن، مساء يوم الاثنين الماضي 17/11/2025، جلسة للتصويت على مشروع قرار مقدّم من الإدارة الأميركية لإنهاء الحرب في غزة.

ولأنّ روسيا والصين امتنعتا عن التصويت بعد أن اتخذتا قراراً بعدم استخدام الفيتو، استجابة لرغبة عدد من الدول العربية والإسلامية، فقد تمّ تبنّي المشروع الأميركي بأغلبية 13 صوتاً، ما سمح بإصدر قرار مجلس الأمن رقم 2803 لسنة 2025، وهو قرار شديد الخطورة لأنه يمنح الرئيس ترامب صلاحيات شبه مطلقة في التعامل مع القضية الفلسطينية، كأنه مفوّض من المجتمع الدولي بالانفراد بتقرير مستقبل ومصير الشعب الفلسطيني، ما يسمح لنا بالقول إنه يعدّ واحداً من سلسلة القرارات الدولية الداعمة للمشروع الصهيوني والمجحفة في حقّ الشعب الفلسطيني>

وبالتالي لا يقلّ خطورة عن قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947، الذي قضى بتقسيم فلسطين التاريخية من دون استفتاء شعبها. وعن قرار مجلس الأمن رقم 242 لسنة 1967، الذي تعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها مسألة إنسانية تتعلّق بحقوق اللاجئيين، متجاهلاً طبيعتها السياسية كقضية شعب احتلّت أرضه ويحقّ له مقاومة الاحتلال بكلّ الوسائل والسبل المتاحة، بما في ذلك استخدام القوة، والتطلّع لبناء دولته المستقلة.

تلك هي النتيجة التي خلصنا إليها بعد قراءة متأنيّة للنصّ الرسمي للقرار 2803، وهي نتيجة لا تنطوي في تقديرنا على أيّ قدر من التعسّف أو المبالغة. فهو قرار "يرحّب بخطة ترامب الشاملة لإنهاء النزاع في غزة، المؤرّخة في 29 أيلول/سبتمبر 2025، ويعتبرها جزءاً لا يتجزّأ من القرار نفسه، و"يرحّب بإعلان ترامب التاريخي من أجل السلام والازدهار الدائمين"، المؤرّخ في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2025، ويعتبره دليلاً على "دور بنّاء اضطلعت به الولايات المتحدة في تيسير وقف إطلاق النار في قطاع غزة". الأخطر من ذلك أنه لا يكتفي بالترحيب بإنشاء "مجلس السلام" المنصوص عليه في خطة ترامب، وإنما يعترف لهذا المجلس بالشخصية القانونية الدولية التي تتيح له أن يصبح صانع القرار الحقيقي في كلّ ما يتعلّق بإدارة قطاع غزة خلال المرحلة الانتقالية. ما يثير التأمّل هنا أننا إزاء مجلس لم يتمّ تشكيله بعد، فكلّ ما نعرفه عنه أنّ ترامب هو من سيتولّى رئاسته بنفسه، وأنّ توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، هو المرشّح لشغل منصب مديره التنفيذي.

تتيح الصلاحيات الممنوحة لهذا المجلس، بموجب القرار 2803، هيمنة مطلقة على جميع الأجهزة والهيئات المعنية بإدارة شؤون القطاع إبّان المرحلة الانتقالية، بما في ذلك حكومة التكنوقراط الفلسطينية وقوة الاستقرار متعدّدة الجنسيات، ما يوحي بأنّ مجلس الأمن قرّر التنصّل من واجباته تجاه القضية الفلسطينية، رغم كونها إحدى أهمّ القضايا المدرجة على جدول أعماله منذ عقود طويلة، وأن يتخلّى طواعية عن تحمّل مسؤولياته تجاه الشعب الفلسطيني، رغم تعرّض هذا الشعب المظلوم لحرب إبادة جماعية ولعمليات تطهير عرقي، وأن يعهد بهذه الواجبات والمسؤوليات إلى رئيس دولة منحاز بطبيعته للاحتلال وشريك فعلي في الجرائم التي ترتكب في حقّ الشعب الفلسطيني، خصوصاً وأنه شخص غريب الأطوار ويصعب التحكّم في سلوكه أو ضبط تصرّفاته. وتلك مفارقة تعكس طبيعة الخلل القائم حالياً في بنية وموازين القوى الإقليمية والعالمية.

للتعرّف إلى حجم الصلاحيات التي يتمتع بها "مجلس السلام" بموجب القرار 2803، يكفي أن نشير إلى أنّ مجلس الأمن "يأذن له بالدخول في جميع الترتيبات اللازمة لتحقيق أهداف الخطة الشاملة، بما في ذلك تحديد الامتيازات والحصانات المقرّرة لأفراد قوة الاستقرار الدولية، وبإنشاء كيانات تشغيلية تتمتع، عند الاقتضاء، بشخصية قانونية دولية وبسلطات تمكّنها من تنفيذ وظائفها، بما في ذلك تشكيل إدارة حكم انتقالية تتولّى مسؤولية التسيير اليومي للخدمة المدنية والإدارة، وإعادة الإعمار وتنفيذ برامج التعافي الاقتصادي؛ وتنسيق وتقديم الخدمات العامّة والمساعدات الإنسانية واتخاذ التدابير الكفيلة بتيسير حركة الأشخاص دخولاً وخروجاً من غزة بما يتفق مع الخطة الشاملة؛ وكذلك القيام بأيّ مهام إضافية قد تكون لازمة لدعم الخطة الشاملة وتنفيذها". ويتضح من هذا النصّ أنّ لمجلس السلام الذي يقوده ترامب صلاحيات تمكّنه من الهيمنة على كلّ كبيرة وصغيرة تتعلّق بأعمال الإدارة والأمن في قطاع غزة خلال المرحلة الانتقالية.

فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أنّ القرار 2803 لا يلزم قوات الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب إلى الحدود التي كانت عليها قبل 7/10/2023، ويسمح لها "أن تحتفظ بمحيط أمني إلى حين تأمين غزة على نحوٍ كافٍ من أيّ تهديد إرهابي متجدّد"، ما يعني بقاء هذه القوات داخل أراضٍ غزاوية غير محدّدة المساحة، تمتدّ على طول الحدود الشمالية والجنوبية والشرقية، ولفترة زمنية مفتوحة.

فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أنّ قرار مجلس الأمن يربط حركة الانسحاب المجدول زمنياً بمدى انتشار وسيطرة القوة متعدّدة الجنسيات، من ناحية، وحجم النجاح المتحقّق في عمليات نزع السلاح، من ناحية أخرى، لتبيّن لنا بوضوح حجم العقبات التي تعترض طريق وضع هذا القرار موضع التطبيق، ما يكشف عن ثغرات كثيرة قد تتيح أمام الجناح الأكثر تطرّفاً في الحكومة اليمينية الإسرائيلية فرصاً لاستغلالها كمبرّر لعرقلة الانسحاب الكامل من القطاع، وربما لمحاولة استعادة السيطرة العسكرية عليه من جديد، تمهيداً لإعادة استيطانه وضمّه إلى "إسرائيل الكبرى" التي ما زال يحلم بها. 

لا شكّ أنّ لقرار مجلس الأمن رقم 2803 بعض الفوائد التي تحقّق مصالح مؤكّدة للشعب الفلسطيني وتساعد في الوقت نفسه على كبح جماح الجناح الأكثر تطرّفاً في الحكومة الإسرائيلية.

فمن شأن هذا القرار أن يهيّئ مناخاً أفضل لتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وأن يزيل بعض العقبات التي كانت تحول دون زيادة حجم المساعدات الإنسانية المقدّمة لسكان القطاع، ما يقلّل من احتمالات نجاح المحاولات الرامية لفرض التهجير القسري على السكان الفلسطينيين وتعمّد تجويعهم.

صحيح أنّ "إسرائيل" لا تزال تواصل انتهاكاتها لاتفاق وقف إطلاق النار، وصحيح أيضاً أنّ قوافل المساعدات الإنسانية التي تسمح "إسرائيل" بعبورها بعد التوقيع على هذا الاتفاق لا تمثّل سوى نسبة ضئيلة من عدد القوافل المنصوص عليها في الاتفاق، تقدّرها المصادر المحايدة بأنها تقلّ عن 25% من النسبة المتفق عليها، ورغم ذلك يمكن القول إنّ معدّل الخسائر البشرية اليومية في صفوف الفلسطينيين باتت أقلّ كثيراً مما كان سائداً في زمن الحرب المفتوحة.

كما انخفضت في الوقت نفسه بعض المظاهر الدالة على حرب التجويع التي لم تكن "إسرائيل" تتردّد في شنّها على السكان الفلسطينيين، وفي استخدامها كوسيلة لدفعهم نحو الهجرة القسرية، وأيضاً لتصعيد الضغوط النفسية على فصائل المقاومة المسلحة.

غير أنّ هذه المظاهر الإيجابية لا ينبغي أن تحجب أنظارنا عن حقيقة أساسية، مفادها أنّ إدارة ترامب لن تتردّد في بذل كلّ ما في وسعها لتمكين "إسرائيل"، حليفتها الأهمّ في المنطقة، من الحصول بالوسائل السياسية على ما عجزت عن تحقيقه بالوسائل العسكرية، خصوصاً ما يتعلّق منه بهدف تجريد كلّ فصائل المقاومة الفلسطينية من سلاحها وتدمير شبكة الأنفاق التي مكّنت المقاومين، رغم ضآلة إمكاناتهم المادية ومستوى تسليحهم، من خوض أطول معركة عسكرية في تاريخ الصراع وتكبيد "إسرائيل" خسائر تتجاوز بكثير حجم ما تكبّدته في أيّ من جولات المواجهة السابقة، وعلى المستويات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والإعلامية كافة.

بقي أن نشير إلى أنّ قرار مجلس الأمن رقم 2803 يتضمّن نصوصاً صريحة تؤكّد أنّ قطاع غزة "سيكون منطقة منزوعة التطرّف وخالية من الإرهاب، لا تشكّل تهديداً لجيرانها"، وأنّ "البنية التحتية للفصائل المسلحة كافة يجب أن تزال وأن تتخذ الوسائل الكفيلة بالحيلولة دون إعادة تسليحها من جديد"، لكنه لا يشير إلى الإرهاب الذي يمارسه المستوطنون في الضفة الغربية، تحت حماية ورعاية بل وتحريض "الجيش" الإسرائيلي نفسه، ولا إلى جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي يرتكبها "جيش" الاحتلال كلّ يوم في الضفة والقطاع، بل إنه لا يشير إلى الضفة الغربية من قريب أو بعيد، كأنها ليست جزءاً لا يتجزّأ من أرضٍ فلسطينية احتلّت عام 1967 وينصّ قرار مجلس الأمن رقم 242 على عدم جواز احتلالها بالقوة. صحيح أنه تمّ تضمين هذا القرار النصّ الآتي:

"بعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية على نحو أمين وتقدّم أعمال إعادة تطوير غزة، قد تتوافر الشروط لبلورة مسار موثوق نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية"، وهناك نصّ آخر يشير إلى أنّ الولايات المتحدة "ستُطلق حواراً بين "إسرائيل" والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي للتعايش السلمي والمزدهر"، غير أنّ هذه مجرّد عبارات رنّانة لكنها جوفاء في الوقت نفسه ولا تسمح برسم خارطة طريق نحو إقامة دولة فلسطينية حقيقية، والأرجح أنها أدرجت في القرار لتزويد بعض الأنظمة العربية بورقة التوت التي تحتاجها لستر عوراتها عند الانضمام إلى قوافل "الاتفاقات الإبراهيمية" التي تصرّ إدارة ترامب على توسيع نطاقها من دون أن تلزم نفسها بكبح الأطماع الإسرائيلية.

نجاح ترامب في حمل مجلس الأمن على تبنّي خطّته الشاملة لإنهاء الحرب في غزة، قد يساعد على تحويلها إلى خطة أممية، لكنه لن يساعد على تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. فالاستقرار في هذه المنطقة لن يتحقّق بنزع سلاح فصائل المقاومة ولكن بقيام دولة فلسطينية مستقلة. وهذا هو الدرس الذي ينبغي على الجميع استخلاصه من "طوفان الأقصى".