جردة حساب أولية لما فات ومحاولة لاستشراف ما هو آت

كشفت هذه الجولة من الصراع عن الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، وعرّت أهدافه التوسعية تجاه العديد من الدول العربية، وأكدت نواياه الحقيقية المضمرة لإبادة الشعب الفلسطيني.

  • ما مصير المنطقة بعد طوفان الأقصى؟
    ما مصير المنطقة بعد طوفان الأقصى؟

في نهايات الأعوام المدبرة تزداد الحاجة إلى إلقاء نظرة على ما فات، أملاً في تقييم ما جرى، وفي بدايات الأعوام المقبلة تزداد الحاجة إلى استشراف ما هو آت، تحسباً لما قد يخبئه المستقبل من مفاجآت.

ولأن ما جرى منذ وقوع "طوفان الأقصى" كان ضخماً إلى الدرجة التي يصعب معها إنكار حجم تأثيراته المتوقعة على مستقبل المنطقة، فمن الطبيعي أن يثور الخلاف بين المراقبين ليس حول حقيقة ما جرى فحسب، ولكن أيضاً حول قياس تأثيراته المحتملة على مستقبل المنطقة.

يرى فريق من المراقبين لما يجري في المنطقة أن الجولة الحالية من الصراع المسلح مع الكيان الصهيوني، والتي بدأت عقب إقدام حماس على إطلاق "طوفان الأقصى"، ثم راحت تتسع لتشمل جميع أطراف "محور المقاومة"، قد انتهت وحسمت بالفعل لصالح الكيان الصهيوني الذي يستعد الآن لإملاء شروطه على الجميع.

فعلى الصعيد الفلسطيني، تمكّن الكيان من تدمير قطاع غزة، وبات في حاجة إلى سنوات طويلة لإعادة إعماره وتأهيله للحياة من جديد، ونجح في توجيه ضربات قاسية إلى فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة و تمكّن من إخراجها جميعاً من المعادلة العسكرية للصراع، وباتت في وضع لا يسمح لها بأن تكون طرفاً سياسياً فاعلاً أو مشاركاً في صنع المستقبل الفلسطيني.

وعلى الصعيد اللبناني، تمكّن الكيان من إلحاق الأذى بحزب الله، مركز الثقل الأساسي في محور المقاومة، ونجح في تدمير معظم مدن وقرى الجنوب حيث حاضنته الشعبية.

فبعد أن فقد الحزب أهم قياداته العسكرية والسياسية، بمن فيهم أمينه العام السيد حسن نصر الله الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، أجبر على قبول وقف إطلاق النار، واضطر إلى فك الارتباط مع قطاع غزة، وقبل بفكرة سحب قواته ومعداته إلى ما وراء نهر الليطاني.

وعلى الصعيد السوري، لعب الكيان دوراً محورياً في إسقاط نظام الأسد الذي أدى انهياره إلى إخراج سوريا نهائياً من حلبة الصراع مع الكيان. ولأن سوريا كانت تشكل حلقة الوصل الرئيسية بين إيران وحزب الله، يعتقد على نطاق واسع أن قدرة حزب الله على إعادة تسليح نفسه والعودة إلى مستوى الجهوزية التي كان عليها قبل اندلاع الطوفان أصبحت محدودة للغاية، وربما معدومة.

وعلى الصعيد الإيراني، تمكّن الكيان ليس من تسديد ضربات موجعة لإيران فحسب، وإنما من عزلها أيضاً عن معظم أطراف "محور المقاومة" الذي تقوده بنفسها. صحيح أن التفاعلات الناجمة عن "طوفان الأقصى" دفعت إيران إلى الاشتباك العسكري المباشر مع الكيان لأول مرة في تاريخها، غير أن قدرتها على الرد على الاستفزازات الإسرائيلية التي لم تنقطع أصبحت الآن محدودة. لذا، يعتقد الفريق الذي يروّج لمثل هذه الأفكار أن الكيان في طريقه الآن للخروج منتصراً من جولة الصراع الحالية وأصبح بمقدوره فرض إرادته وشروطه على جميع خصومه.

رغم استناد هذا الفريق إلى بعض الحقائق التي يصعب على أي مراقب موضوعي دحضها أو التشكيك في صحتها، فإن الرؤية التي يتبناها غير قادرة على الإلمام بمختلف أبعاد الصراع في المنطقة ومعطياته، كما تبدو استنتاجاته قاصرة ومتعجلة وربما منحازة أيضاً لوجهة النظر التي ترى في إيران مصدر التهديد الرئيسي للمنطقة. ويجري التدليل على هذا القصور بحجج عديدة أهمها:

أولاً: أن الجولة الحالية للصراع العسكري مع "إسرائيل" لم تحسم نهائياً بعد. فعلى الصعيد الفلسطيني، ما تزال حماس، ومعها بقية الفصائل الفلسطينية المسلحة، تقاوم العدوان وتلحق يومياً خسائر فادحة في صفوف "جيش" الكيان الذي عجز حتى الآن عن تحرير أسراه أو السيطرة الفعلية والدائمة على أي جزء من أراضي القطاع، وما زال الشعب الفلسطيني صامداً بطريقة أسطورية في مواجهة محاولات الإبادة والتهجير القسري والتطهير العرقي.

وعلى الصعيد اللبناني، ليس صحيحاً أن حزب الله انكسر أو انهار، فقد استطاع أن يستعيد توازنه بسرعة رغم الضربات القاسية التي تلقاها، وتؤكد مصادر محايدة عديدة أنه ما زال يحتفظ بمعظم قدراته القتالية.

وقد وافق على وقف إطلاق النار وعلى فك الارتباط مع قطاع غزة حرصاً على سلامة الجبهة الداخلية، وفي وقت كان ما يزال صامداً وقادراً على مواصلة القتال وعلى إلحاق خسائر فادحة في صفوف "جيش" الكيان الذي لم يستطع التغلغل في الأراضي اللبنانية إلا بعد دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.

وعلى صعيد اليمن، فمن الواضح لكل ذي عينين أن جماعة أنصار الله، والتي جاءت مشاركتها في هذه الجولة من الصراع بمنزلة مفاجأة كبرى، باتت تشكل تحدياً وتهديداً جدياً لكيان يبعد عن حدودها ما لا يقل عن ألفي كيلومتر، الأمر الذي لم يكن بمقدور أحد أن يتصور حدوثه على الإطلاق. وأخيراً، يمكن القول إن إيران ما تزال تحتفظ بكامل طاقاتها وقدراتها العسكرية رغم ادعاءات الكيان بأنه استطاع تدمير معظم دفاعاتها الجوية في إحدى غاراته.

ثانياً: أن الجيوش النظامية العربية غابت تماماً عن هذه الجولة من الصراع ولم تشارك فيها من قريب أو بعيد، بل إن بعض الدول العربية التي تنتمي إليها هذه الجيوش قدمت مساندة مباشرة أو غير مباشرة للكيان الذي أجبر في هذه الجولة من الصراع على خوض أطول حرب في تاريخة، تكبد خلالها خسائر بشرية ومادية لم تلحق به في أي حروب سابقة، ما يؤكد من جديد أن حرب العصابات هي السبيل الأمثل لإلحاق الهزيمة به.

ثالثاً: كشفت هذه الجولة من الصراع عن الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، وعرّت أهدافه التوسعية تجاه العديد من الدول العربية، وأكدت نواياه الحقيقية المضمرة لإبادة الشعب الفلسطيني أو دفعه إلى الرحيل عن وطنه قسراً.

فقد أثبتت التظاهرات الطلابية التي اندلعت في معظم الجامعات أن العالم كله بدأ يدرك أن الكيان الصهيوني لم يكن في أي يوم من الأيام واحة للديمقراطية يحيط بها بحر واسع من الاستبداد، أو بلداً صغيراً مسالماً يحاصره طوق عربي يسعى لخنقه وتحطيمه، مثلما كان يروّج من قبل، بل هو جسد عنصري توسعي يحتل أراضي الغير ويتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ويمارس بحقه الإبادة الجماعية الممنهجة والتهجير القسري والتطهير العرقي.

يدرك نتنياهو أن الجولة الحالية من الصراع المسلح، وهي الأطول في تاريخ الكيان، لم تحسم بعد. صحيح أنه حقق خلالها إنجازات تكتيكية عديدة، لكنه يدرك في الوقت نفسه أنه لن يكون بمقدور الكيان تحقيق أي إنجاز استراتيجي إلا إذا تمكّن من إلحاق الهزيمة بإيران التي يعدّها "رأس الأفعى".

ولأن ترامب هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي تجرأ على نقل السفارة الأميركية إلى القدس التي اعترف بها عاصمة موحدة وأبدية للكيان، وعلى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية، وكان أكثر الرؤساء الأميركيين تشدداً في مواجهة إيران، بدليل إقدامه على إنهاء الارتباط الأميركي بالاتفاق المبرم حول برنامجها النووي وقيامه بفرض أقسى وأشمل العقوبات عليها، يعتقد نتنياهو أنه الوحيد القادر على مساعدته في التغلب على المعضلة أو العقدة الإيرانية، ولذا ينتظر بفارغ الصبر دخوله إلى البيت الأبيض كي يبدأ التنسيق معه على الفور حول كيفية التعامل مع إيران في المرحلة القادمة.

يأمل نتنياهو أن يتمكن من إقناع ترامب بضرورة قيام الولايات المتحدة بتشديد العقوبات على إيران إلى أقصى درجة ممكنة، وذلك في مرحلة أولى تستهدف تضييق الخناق عليها ومحاصرتها وإضعافها على جميع المستويات، تمهيداً لضربها والعمل على إسقاط نظامها في مرحلة تالية.

غير أن احتمالات نجاحه في إقناع ترامب باتباع هذا النهج تبدو محدودة، بسبب ما تنطوي عليه مغامرة من هذا النوع من عواقب يصعب على الدولة الأميركية العميقة أن تخاطر بقبولها.

ولأن ترامب لديه حساسية شديدة تجاه كل ما يمس الأمن الإسرائيلي، فليس من المستبعد في هذه الحالة أن يجرب استراتيجيات بديلة، نعتقد أنها تتواءم أكثر مع عقليته ومع طريقته المعتادة في التعامل مع الصراعات الممتدة والمعقدة.

من هذه الاستراتيجيات، على سبيل المثال لا الحصر، أن يسعى لعزل إيران وإضعافها من خلال فرض أقسى العقوبات الممكنة عليها، مع الشروع في الضغط على السعودية في الوقت نفسه لتطبيع العلاقات مع الكيان، في مقابل انسحاب "الجيش" الإسرائيلي من قطاع غزة الذي سيحاول إخضاعه مؤقتاً لإدارة عربية فلسطينية مشتركة، أي لإدارة تشارك فيها دول عربية بعينها إلى جانب السلطة الفلسطينية، وذلك بالتوازي مع تمكين الكيان من ضم معظم المستوطنات المقامة في الضفة الغربية، وربما كل الأراضي الواقعة في المنطقة ج، وذلك لإرضاء الجناح الأكثر تطرفاً في حكومة نتنياهو.

قد يتحقق فعلاً وقف فوري لإطلاق النار فور دخول ترامب إلى البيت الأبيض، وربما قبيل دخوله، لكن آفاق التسوية في عهد هذا الرئيس المقاول والمغرور تبدو محفوفة بكل أنواع المخاطر.

لذا، على العالم العربي، شعوباً وحكومات، أن يكون على أعلى درجة من اليقظة والحذر والتنبه لما سيحاك للمنطقة من مخططات خلال الشهور القليلة القادمة. فمن الواضح تماماً أن الهدف الرئيسي لهذه المخططات سيكون التصفية التامة والنهائية للقضية الفلسطينية وتمكين الكيان الصهيوني، الحليف الموثوق به للولايات المتحدة، من السيطرة المنفردة على منطقة الشرق الأوسط بأسرها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.