في ذكراهما، نصر الله وعبد الناصر

أمّتنا أنجبت في قرنها الأخير قائدين لم يتكرّرا كعنوانين ورمزين اختصرا آمالها وآلامها وأمنياتها بالخروج من عتمة لازمتها قروناً طويلة، وهما: جمال عبد الناصر وحسن نصر الله.

0:00
  • لا تتوقّف الأمم والشعوب والجماعات عن إنتاج القادة العظام والرجال الأفذاذ.
    لا تتوقّف الأمم والشعوب والجماعات عن إنتاج القادة العظام والرجال الأفذاذ.

بحسب هيكل، التاريخ ليس أبطالاً ولا أحداثاً، ولكنّ الأبطال في قلب التاريخ، ليس بوصفه سياقات موضوعية ولا زمناً بهذا المقدار أو ذاك للحركة والمادة، بل بوصفه طوع بنان هؤلاء الأبطال. 

لا تتوقّف الأمم والشعوب والجماعات عن إنتاج القادة العظام والرجال الأفذاذ، ولكن ما يلازم الأثر والذاكرة، القليل القليل من هذه الشخصيات. 

انطلاقاً مما سبق يمكن القول إن أمّتنا أنجبت في قرنها الأخير قائدين لم يتكرّرا كعنوانين ورمزين اختصرا آمالها وآلامها وأمنياتها بالخروج من عتمة لازمتها قروناً طويلة، وهما: جمال عبد الناصر وحسن نصر الله، وكان من الطبيعي جداً أن تظهر معهما أسماء عظيمة أخرى في كلّ الحقول، السياسية والثقافية وغيرهما. 

البعد الأول المشترك بينهما، هو الكاريزما، من حيث الشخصية التي تجمع بين القوة والبساطة والصدق والحضور الخطابي والتأثير الطبيعي العضوي في جمهور أوسع كثيراً من الجمهور الأيديولوجي أو السياسي، وكما هو واضح لا نتحدّث عن الكاريزما في عموميّتها ولا عن الحالات التي تحدّث عنها كولن ولسون أو لوبون، فالفرق كبير بين القادة الفاشيين والقادة الوطنيين، وبين جمهور محتقن عصابي عنصري يحتاج لحالات مثل هتلر وكالفن أو نابليون، أو محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية، وبين جمهور حالم بالقيم والحق والعدالة. 

البعد الثاني، الصفات الشخصية النادرة، مثل الصلابة، النزاهة، الإيثار، المثابرة، الأخلاق، الاتزان، الإرادة، رباطة الجأش، الحساسية الفائقة إزاء الارتهانات والنزوات والابتزازات والمساومات، وليس بلا معنى تجلّي كلّ ذلك في الزهد والحياة البسيطة، ويعلم الجميع أنّ عبد الناصر ونصر الله كانا أقرب إلى النسّاك في هذا البعد بالذات، مقابل اللصوصية والنزوات وتكديس الثروات المنهوبة عند زعماء كثيرين.

البعد الثالث، البعد النظري المشترك في تشخيص الصراع وتناقضاته من خلال عين الطائر، التي تعاين الإقليم كلّه، والربط الجدلي بين المستويات المختلفة لهذا الصراع في هذا الإقليم، المستوى السياسي والمستوى الجيوسياسي والمستوى الاقتصادي والمستوى التاريخي والبعد الأخلاقي. 

ومن اللافت للانتباه امتلاك عبد الناصر ونصر الله لقانون التناقضات، كما صاغته الماوية الماركسية (نسبة إلى مؤسس الصين الحديثة ماو تسي تونغ) أكثر من امتلاك عشرات الماركسيين لهذا المنهج، فقد حدّدا جيداً معسكر الأعداء ومعسكر الأصدقاء ومعسكر الخصوم وفقاً لهذا القانون ولا سيما ما يتعلّق بالتناقض الأساسي مع الإمبريالية عموماً، وبالتناقض الرئيس مع العدو الصهيوني فيما يخصّ منطقتنا. 

وهو التحديد الذي جنّب القائدين الخلط بين التناقضات وتغليب تناقض ثانوي على التناقضات الأساسية والرئيسة، وليس بلا معنى تلك المقاربة الذكية الاستثنائية للشهيد نصر الله حين لم يقرأ التاريخ بلغة الماضي ويتوقّف عندها، بل بلغة الحاضر وتصوير يزيد بلباس جديد، هو نتنياهو والعدو الصهيوني، وتصوير كربلاء الجديدة بالمعركة على طريق القدس، مقارنة بثقافة الاحتقانات والشحن الطائفي المعروفة.

ولعلّ هذا التحديد بنقل التناقض التناحري والمعركة مع العدو الصهيوني وداعميه الإمبرياليين، هو أحد الأسباب التي جعلته في موضع الاستهداف الدائم، مقابل أشكال من الحماقة والتواطؤ عند الذين نقلوا التناقض الأساسي إلى جبهات أخرى باسم الجبهة الشرقية.

البعد الرابع، البعد السياسي والمتمثّل في بيئة مثل الشرق الأوسط (النفط والغاز والممرات الاستراتيجية)، ومن ثم الاستهداف المباشر اليومي من قبل التحالف ـــــ الإمبريالي ـــــ الصهيوني ـــــ الرجعي وأدواته المحلية، إضافة إلى الأساطيل والقواعد الأطلسية. 

وهي أيضاً بيئة محلية ودولية معقّدة شابتها مفارقات أخرى، فمقابل تحالف قوي متماسك للأعداء من الإمبرياليين والصهاينة ومحميات النفط والغاز المسال والأدوات الأخرى، سواء من الأصوليات التكفيرية أو جماعات الثورة الملوّنة والمضادة، افتقدت الفضاءات السياسية حول عبد الناصر ونصر الله إلى مثل هذا التماسك، بما في ذلك اللحظات الصعبة. 

ونذكر على سبيل المثال كيف تردّدت موسكو في إسناد عبد الناصر بعد الانفصال السوري ولحظة عدوان حزيران 1967 وقامت بنصيحته بألّا يقوم بالضربة الأولى فكانت الطامة الكبرى، كما ظلّ نصر الله متقدّماً بخطوات على الجميع، مما سمح للعدو باستغلال ذلك أكثر من مرة فكانت النتائج مريرة على التحالف كلّه، ناهيك بالثمن الذي دفعه الرجلان والأمة معهما وأدى إلى الاستشهاد الفاجعة للقائد الكبير نصر الله، وربما إلى وفاة مدبّرة لعبد الناصر، وفقاً لروايات هيكل. 

إذا كان حزب الله تدارك نفسه بمزيج من الصلابة والمرونة وبوفاء مدرسته وقادته وتحالفاته الاستراتيجية لخط القتال والمقاومة، فقد سقطت مصر برحيل عبد الناصر وسيطرة الساداتية على مقاليد الحكم هناك والانقلاب على الخط الناصري وسياساته وتحالفاته، وفتح مصر للقواعد الأميركية ورجال البنك الدولي وللتغلغل الصهيوني.

ولا بدّ من الإشارة كذلك إلى بعد كان يحتاج إلى اهتمام أكثر، وهو إيلاء الاهتمام الكافي للبعد الطبقي بمعناه الاجتماعي واشتقاقاته الفكرية والسياسية، فهذا البعد مكوّن أساسي من تصوّرات ومشاريع التحرّر الوطني في المرحلة الإمبريالية للرأسمالية المتوحّشة وله علاقة وطيدة بالصراعات الطبقية وتموضع القوى المختلفة داخل هذه الصراعات، بل إنّ المعركة ضدّ البنك وصندوق النقد الدوليين ومشروعهما لتحطيم الطبقة الوسطى وتجويعها جزء لا ينفصل عن المعركة الوطنية. 

البعد الخامس، البعد الراهن لما مثّله هذان القائدان الكبيران من تكامل أساسي وحاسم لنهوض الأمة وتعظيم القواسم المشتركة لقواها الحية في إطار برنامج حركة التحرّر الوطني.

ولطالما أدرك التحالف المعادي، الأطلسي ـــــ الصهيوني ــــــ النفطي خطورة وتأثير الدلالات الاستراتيجية لهذين القائدين ومشروعهما التاريخي على مصالح هذا التحالف: 

- عروبة عبد الناصر كبرنامج عمل لتحرير العرب ووضعهم في قلب التاريخ، مقابل العروبة التي تصنع اليوم كعروبة نفطية متصهينة في مواجهة المحور وفي خدمة التحالف المذكور. 

- كربلائية السيد في وجه يزيد العصر ممثّلاً بالكيان الصهيوني وداعميه من الإمبرياليّين ومحميات النفط والغاز المسال. 

أخيراً، البعد الأسطوري، مستدركين أنّ الأسطورة غير الخرافة وتمتلك تجلّيات ثقافية برسم الاستحضار التاريخي بعيداً أيضاً عن المعالجات النظرية الصرفة كما قاربتها مارسيا الياد وأفكارها حول التكرار الطقوسي.

نعرف أنّ الأيام التي تتخذ من شهر تموز بؤرة لحضورها الزمني مرتبطة بالثورات كما الخصب التموزي في الأساطير (الثورة الفرنسية، الثورة المصرية 1952، الثورة العراقية 1958، وهكذا)، ونعرف أنّ الأيام التي تتخذ من شهر أيلول بؤرة لحضور زمني آخر مرتبط بالفجائع وبينها رحيل التموزيين الكبار مثل نصر الله وعبد الناصر، ونعرف أيضاً أنّ هذه الدورة لا تكتمل إلا بانبعاثات اليوم الثالث بين النيروز ونيسان، لكنها أبداً ليست انبعاثات ميكانيكية وفق تكرارات حتمية عمياء، بل تحتاج إلى أشكال من الحثّ والعمل والاندماج في الحالة حتى الاستجابة والتجلّي، ومن ثمّ استحضار الأمطار والدماء أيضاً، فما من أقحوان ولا أبطال يستعادون من دون ذلك.