"الغارديان": الوفيات والاعتقالات والاختفاء القسري.. لاجئون يروون فظائع الحرب في السودان
قال اللاجئون الذين فروا من دارفور وخرطوم إلى جنوب السودان إنهم كانوا يخشون تعرضهم للاستهداف من قبل كلا طرفي النزاع.
-
جمال عيسى وعائلته في مركز رنك للمرور في جنوب السودان
صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً يوثق شهادات حية عن مآسي الحرب الأهلية في السودان من خلال قصص لاجئين فرّوا إلى جنوب السودان، مركّزاً على العنف الممنهج في دارفور والانتهاكات ضد المدنيين.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
كان سوبا داف الله يبيع الخضراوات في سوق مدينة نيالا السودانية صباح أحد أيام مارس، عندما تلقّى اتصالاً مُقلقاً من شقيقته تخبره بأن والدته تريد التحدث إليه. قالت: "تعال بسرعة، هناك اشتباكات في المدينة". هكذا تذكّر كلماتها.
جمع أغراضه، وأغلق متجره، وهرع إلى المنزل بأقصى سرعة ممكنة.
كان عناصر قوات الدعم السريع، وهي مجموعة شبه عسكرية تخوض حرباً أهلية ضد الجيش السوداني منذ نيسان/أبريل 2023، قد هاجموا معسكراً عسكرياً في جنوب دارفور، وبدأوا بارتكاب أعمال عنف في الأحياء السكنية.
عندما وصل إلى منزل العائلة في حي الجير، وسط دوي الرصاص وفرار السكان، وجد جثث والدته وشقيقتيه ملقاة على الأرض وقد اخترقتها الرصاصات. قال الشاب البالغ 25 عاماً متحدثاً عن اللحظة التي رأى فيها والدته: "كانت رصاصة في قلبها".
داف الله واحد من مئات الآلاف من السودانيين الذين فرّوا إلى جنوب السودان. هو يقيم حالياً في مركز رنك المزدحم للعبور الحدودي رفقة أكثر من ألف من مواطنيه. وبعدما رأى جثث والدته وشقيقتيه، خرج إلى الخارج ليشاهد عناصر قوات الدعم السريع يقتادون شقيقته الأخرى. وعندما حاول منعهم، ضربه أحدهم بمقبض مسدسه. صرخت شقيقته باسمه وهي تُحمل إلى السيارة وتُقيّد. ركض خلفها وهو يناديها بحرقة، قبل أن ينهار من شدة الصدمة. دفن والدته وشقيقتيه بعد يومين، ثم فرّ إلى رنك، على بعد أكثر من 800 ميل، مشياً على الأقدام أو مستقلاً بعض السيارات، ولم يحمل معه سوى ملابسه.
في طريقه، في مدينة الدمازين في ولاية النيل الأزرق، شهد هجوماً آخر لقوات الدعم السريع، هذه المرة على مخيم للنازحين. أشعلوا النار في السوق وبدأوا بعمليات نهب. وسط الفوضى، رأى امرأة دهستها سيارة فيما كان أطفالها يبكون على جانب الطريق. قال: "حاولت مساعدتها لكنني لم أستطع".
أدّى الصراع في السودان إلى أزمة وصفتها الأمم المتحدة بأنها من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، فقد قُتل أكثر من 150 ألف شخص، وهُجِّر أكثر من 14 مليوناً من ديارهم، وما زال الملايين بحاجة إلى مساعدات عاجلة.
وتفاقم القتال، الذي تغذّيه قوى خارجية، في ظل غياب جهد دولي موحّد لإنهائه.
وقال ديفيد ميليباند، رئيس مجلس إدارة اللجنة الدولية لإنقاذ اللاجئين، خلال زيارة حديثة إلى السودان: "إن حجم هذه الأزمة لم يُدرك بالصورة الصحيحة على المستوى الدولي. فالإهمال يُفاقم الانقسام، والانقسام يُشعر الناس بالخوف".
وتتسم الحرب بارتكاب جرائم وحشية واسعة النطاق، بما في ذلك استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، وظهور مئات المقابر الجماعية. وقد اتُّهم طرفا النزاع بارتكاب جرائم حرب، فيما وُجّهت إلى قوات الدعم السريع اتهامات بارتكاب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم ضد الإنسانية.
وأشار تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى مقتل ما لا يقل عن 3384 مدنياً بين شهري يناير ويونيو، معظمهم في منطقة دارفور، معقل قوات الدعم السريع التي تشمل خمس ولايات في غرب وجنوب السودان. وقد شهدت المنطقة في الأشهر الأخيرة اشتباكات عنيفة، إذ تسعى قوات الدعم السريع للحفاظ على سيطرتها هناك بعد خسارتها العاصمة الخرطوم لمصلحة الجيش في مارس.
وتُعد مدينة الفاشر، آخر مدينة رئيسية في دارفور تحت سيطرة الجيش، هدفاً رئيسياً للقتال. ويُقدّر أن نحو 260 ألف شخص محاصرون منذ 16 شهراً بسبب حصار قوات الدعم السريع، الذي قطع إمدادات المساعدات الإنسانية وأدّى إلى تفاقم المجاعة.
وانتشرت ظاهرة نزوح سكان دارفور، مثل داف الله، إلى مناطق أخرى في السودان، وليس فقط إلى المناطق الحدودية مع جنوب السودان وتشاد، خوفاً من استهدافهم من الطرفين المتحاربين على خلفية انتمائهم العرقي.
نشأت قوات الدعم السريع من ميليشيات الجنجويد العربية التي اعتمد عليها نظام الرئيس السابق عمر البشير منذ عام 2003 لترسيخ سيطرته على دارفور وممارسة القمع الممنهج ضد الجماعات غير العربية هناك.
ويقول باحثون في منظمة "أفاز" الحقوقية إن قوات الدعم السريع وحلفاءها لا يزالون يستهدفون سكان دارفور من ذوي البشرة الداكنة والأقليات العرقية. أما الجيش وحلفاؤه، فينظرون إلى سكان دارفور الذين بقوا في المناطق الخاضعة سابقاً لسيطرة قوات الدعم السريع على أنهم متعاونون معها أو مؤيدون لها. كما يشك الجيش في سكان المناطق التي شاركت في مقاومة الحكومة والجنجويد مطلع الألفية.
وتقول شاينا لويس، المختصة بالشأن السوداني في منظمة "أفاز": "يُنظر إلى كل من يتميز ببشرة داكنة بعين الشك والريبة الشديدين".
"لا يوجد مكان آمن هنا"
كان مركز رنك للمساعدات الإنسانية مكتظاً بالناس رغم موسم الأمطار. الأطفال كانوا يقفزون في البرك المائية، فيما توجه الكبار إلى العاملين في المنظمات الإنسانية طلباً للمساعدة، أو انشغلوا ببيع بعض السلع الأساسية المعروضة على الطاولات. وعلى جانب آخر، جلس رجال على الأرض يلعبون "توك كورو"، وهي لعبة تقليدية تعتمد على وضع الحجارة الصغيرة في ثقوب محفورة في التراب.
نادر عمر، أحد سكان دارفور، خاض رحلة استمرت أسبوعين في أبريل من مسقط رأسه مدينة الدمازين وصولاً إلى رنك، حيث كان يعمل مزارعاً. أوضح أنه لم يكن أمامه خيار سوى الفرار، إذ انتشرت قوات الدعم السريع في كل مكان بالمدينة، وكان السلاح متداولاً بين المدنيين والعسكريين، فيما بدأ الجيش بتجنيد السكان قسراً. وأثناء رحلته شاهد جثثاً متناثرة على جانب الطريق في المناطق التي شهدت معارك ضارية.
بعدما فقد عمر أخاه وستة من أقاربه في قصف جوي لطائرة عسكرية استهدف سوقاً في الدمازين، ترك زوجته الحامل وأبناءه الأربعة وانتقل إلى رنك، وهو يأمل أن ينضموا إليه لاحقاً في جنوب السودان، ليواصلوا معاً رحلتهم إلى أوغندا، التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين في أفريقيا.
رافقته طوال رحلته مخاوف من الاستهداف من طرفي النزاع. وفي إحدى المراحل، اضطر هو ورفاقه إلى الاختباء بين الأغنام داخل شاحنة لتفادي رصد القوات الحكومية.
يقول عمر (35 عاماً): "إذا رفضت التجنيد، يتهمونك بالانتماء إلى قوات الدعم السريع، ويصعب عليك الدفاع عن نفسك. وإذا صادفت عناصر الدعم السريع، سيشتبهون بي أنني من الجيش. وإذا صادفت الجيش، سيظنون أنني من الدعم السريع".
كما فرّ كثير من سكان دارفور من مناطق أخرى في السودان إلى رنك خوفاً من الاضطهاد.
كان جمال عيسى، جندي متقاعد من مدينة الجنينة في ولاية جنوب دارفور، قد أقام في الخرطوم لسنوات قبل أن يغادرها في يونيو/حزيران، بعد أشهر قليلة من استعادة الجيش السيطرة على المدينة.
وقال هذا الرجل البالغ 44 عاماً إن قوات الحكومة كانت تستهدف سكان دارفور، وإنه لم يعد يشعر بالأمان. وأضاف أن مجرد الانتماء إلى دارفور كان كافياً لإثارة الشبهات حول ارتباط الشخص بحركة الدعم السريع، حتى داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش.
وقال: "إذا كنتَ من دارفور، فستُعتبر غير مرحَّبٍ بك في الخرطوم، بغض النظر عن انتمائك العرقي".
انتقل عيسى، الذي بُترت ساقه اليسرى إثر قصف طائرة مسيَّرة للجيش في سوق في الخرطوم، إلى رنك رفقة زوجته وأبنائه الأربعة. وقد فقد أخاه في قصف آخر على السوق نفسه قبل شهر. أما اثنان من أبنائه وصهره، فقد اختفوا منذ اندلاع الحرب. يقول: "أعتقد أنه لا يوجد مكان آمن للعيش في السودان".
أما داف الله، وهو ميكانيكي وعامل بناء، فكان على وشك أن يتزوج، لكن خطيبته اختفت بعد اندلاع الحرب. وكان هو المعيل الرئيسي لعائلته بعد وفاة والده؛ الجندي السوداني السابق. ويقول إن ما حدث لمنزله خلال القصف يطارده نفسياً: "أرى كوابيس في أحلامي وأصرخ باسم أمي في نومي".
يسعى داف الله للوصول إلى مدينة وائو في شمال غربي جنوب السودان، حيث تعود أصول والدته، ليقيم مع أعمامه. ويقول: "بصراحة، بعد مقتل أفراد عائلتي وتفرّق أقاربي، لم يعد لدي سبب للبقاء في السودان. حتى لو انتهت الحرب، فلن أعود إليه أبداً".
نقلته إلى العربية: بتول دياب.