"الغارديان": كيف تواجه لغات الأقليات في أوروبا المستقبل الرقمي؟

ما معنى أن نفقد لغة؟ وما هو المطلوب لإنقاذها؟ هذه أهم الأسئلة المهمة التي طُرحت في برشلونة مؤخراً.

0:00
  • "الغارديان": كيف تواجه لغات الأقليات في أوروبا المستقبل الرقمي؟

صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً يتناول قضية تراجع لغات الأقليات في أوروبا، والأسباب التي تهدّد استمرارها، والجهود المبذولة لإحيائها، مع تقديم نماذج من لغات نجحت في الصمود وأخرى تواجه خطر الاندثار.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

هناك مثل إيرلندي شهير يقول: "بلد بلا لغة هو بلد بلا روح". مؤخراً، اجتمع ممثّلون عن بعض لغات الأقليات الأوروبية، التي يُقدّر عددها بنحو 60 لغة، في برشلونة لمناقشة ما يعنيه فقدان لغة وما يتطلّبه الأمر لإنقاذها.

يُعدّ التنوّع اللغوي بمثابة تنوّع بيولوجي، وهو مؤشّر على الرفاه الاجتماعي، إلا أنّ بعض لغات أوروبا تتجه نحو الإهمال. فاللغة البريتونية، على سبيل المثال، تندثر بسبب اختفاء متحدّثيها، ويُشكّل الحفاظ على حيوية اللغات بين الشباب تحدّياً كبيراً في عالم رقميّ يصبح أحادي اللغة بشكل مطرد.

واللغة الكتالونية، التي يتحدّث بها نحو 10 ملايين شخص، هي خير مثال على نجاح اللغات التي تنتمي إلى أقليات. وبفضل عقود من الانغماس اللغوي في التعليم العام، من الحضانة إلى الجامعة، يستطيع نحو 93.4% من السكان التحدّث بالكتالونية أو فهمها، إضافة إلى الإسبانية. وكلتاهما لغتان رسميتان في كتالونيا، والنتيجة ثقافة ثنائية اللغة بشكل كامل ومن دون وعي.

مع ذلك، تُظهر أحدث الأرقام أنّ 32.6% فقط من البالغين يعتبرون الكتالونية لغتهم المُعتادة، وأنّ هذه النسبة آخذة في الانخفاض، ولا سيما بين الشباب. وليس من قبيل الصدفة أن يرى الكثير من الكتالونيين أنّ لغتهم مُعرّضة لخطر دائم من أن تبتلعها الإسبانية (واللغة الإنكليزية بشكل متزايد أيضاً). ومن عواقب هذا القلق الميل إلى اعتبار الكتالونية إرثاً ثقافياً مقدّساً لا يتغيّر أكثر منها لغة حيّة. 

إضافة إلى المحرّرين الفرعيين المنتظمين، تُوظّف وسائل الإعلام الكتالونية "مصحّحين" - وهم بمثابة شرطة لغوية، يقومون بإزالة أي شوائب أو تلاعب بالألفاظ أو مصطلحات جديدة من الناتج المُذاع أو المنشور. وبالتالي، قد تبدو اللغة جامدة وغير جذابة، وهو ما يُفسّر جزئياً تراجع استخدامها بين الشباب.

وفي هذا السياق، قالت بلانكا ترول أرمينغول، من الشبكة الأوروبية للمساواة اللغوية (ELEN)، المسؤولة عن تنظيم مؤتمر برشلونة: "أتحدّث اللهجة الفالنسية من اللغة الكتالونية، ويزعجني أن يصحّح لي الناس، كما لو كان علينا جميعاً التحدّث بنسخة مثالية من هذه اللغة. إنها لغة حيّة، ومجرّد إدخالنا كلمات من لغات أخرى لا ينبغي اعتباره نوعاً من التطفّل".

اللغة الفريزية هي اللغة الأم لميريام فيلينغا، ولنحو 500 ألف شخص في شمال هولندا. وهي من أشدّ المؤيّدين للسماح للناس بالتعبير عن إبداعهم باللغة، بدلاً من الخضوع لمبدأ متشدّد. وفي هذا السياق، تقول: "إذا كان ذلك يعني إدخال بعض المصطلحات والتعابير الهولندية أو الإنكليزية، فلا بأس بذلك. نحن لا نريد وضعها في متحف. وعندما نفقد لغة، نفقد أسلوب وجودنا وارتباطنا بأسلافنا. وعندما تُقمع لغة الناس، نرى المزيد من الاكتئاب وسوء الصحة لأننا سُلبنا جزءاً من هويتنا". وأشارت فيلينغا إلى أنه في عالم تهيمن عليه سياسات الهوية بشكلٍ متزايد، يرى بعض الشباب أنّ التحدّث باللغة الفريزية علامة على الرقي. "هناك فرق روك تغني باللغة الفريزية، لكن للأسف ليس لدينا فرقة نيكاب. نحن نغار منها قليلاً". 

يُعدّ مغنّو فرقة "نيكاب" جزءاً أساسياً في سبب بروز اللغة الإيرلندية، مع زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين يختارون دراسة هذه اللغة في جميع مراحل تعليمهم. ويقول كونشور أو موداغ، من جمعية اللغة الإيرلندية "كونراد نا غايلي": "إنّ موسيقى "نيكاب" متأصلة في واقع الشباب وتعكس حياتهم وتنوّعهم من خلال اللغة الإيرلندية. وهي ليست لغة أكاديمية، لكنها تجذب آلاف الشباب لأصالتها". 

في الجمهورية، يتحدّث نحو 1.9 مليون شخص اللغة الإيرلندية، ويستخدمها نحو 624 ألف شخص يومياً. وقد حظيت اللغة بدفعة قوية غير متوقّعة خلال الاضطرابات في إيرلندا الشمالية عندما بدأ السجناء الجمهوريون بتعلّمها، في ما عُرف لاحقاً باسم "جايلتاخت"، وهو مصطلح مُشتق من مصطلح "غيلتاخت"، أي المناطق الناطقة بالإيرلندية في إيرلندا.  

عندما أُطلق سراح السجناء بموجب اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998، اتجه الكثيرون منهم إلى التعليم والنشاط المجتمعي، وبدأت اللغة الإيرلندية تزدهر شمالي الحدود، بعد أن كانت شبه منقرضة. أما في منطقة غيلتاخت غربي إيرلندا، فإنّ اللغة آخذة في التراجع، ويعود ذلك جزئياً إلى الارتفاع الهائل في الطلب على بيوت العطلات، ما أجبر الشباب على المغادرة.

وتؤيّد هذا الرأي رئيسة الشبكة الأوروبية للمساواة اللغوية (ELEN)، إيلين هاف غروفيد جونز، التي تشير إلى أنّ انخفاض عدد السكان في المناطق الريفية يؤدي إلى تراجع اللغة الويلزية في بعض أجزاء البلاد. وتقول جونز: "إذا لم يكن هناك استثمار مناسب، فستشهد انخفاضاً في عدد السكان، وسيُهاجر الشباب، وفي حال اشترى آخرون يملكون رؤوس أموال أكبر منازل ثانية، فسيحدث تفاوت كبير. ما نراه هو أنّ انعدام المساواة في الثروة يُعادل انعدام المساواة في اللغة". 

ومن بين قصص النجاح صعود اللغة الباسكية، أوسكارا، التي تعرّضت للقمع في ظلّ دكتاتورية فرانكو، مثل اللغة الكتالونية. وفي إقليم الباسك الإسباني، يمكن للآباء الاختيار بين 3 نماذج تعليمية: النموذج الإسباني 100%، النموذج الإسباني 50% ونموذج أوسكارا 50% أو نموذج أوسكارا 100%. ويختار نحو 90% من السكان نموذج أوسكارا الكامل.

وتُعدّ لغة الأوسكارا لغة قديمة، ولا علاقة لها بأيّ من اللغات الهندو-أوروبية التي يبلغ عددها 100 تقريباً، ولا يزال اللغويون يحاولون معرفة أصولها. مع ذلك، يرى مانيكس مانتشولا أوراتي، من جمعية لغة الأوسكارا "كونتسيلوا"، أنّ هذا ليس هو المهم. ويقول: "بالنسبة لنا، لا يكمن اللغز في مصدرها أو زمانها، بل في كيفيّة وصولها إلى ما هي عليه اليوم، على الرغم من هيمنة الدولتين الفرنسية والإسبانية، والإجابة تكمن في الشعور الراسخ بالانتماء للمجتمع. ما نحتاج إلى حمايته هو أنفسنا، فنحن في خطر. ولسنا مضطرين لإنقاذ اللغة، لأنها هي من سينقذنا". 

من الواضح أنّ اللغات التي يتحدّث بها نحو 10 ملايين شخص لا تزال نابضة بالحياة، وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "يوروباروميتر" (Eurobarometer) العام الماضي أنّ 84% من الأوروبيين يدعمون لغات الأقليات في الاتحاد الأوروبي. وإذا كان لهذه اللغات أن تستمر في التطوّر، فإنّ تأثير فرقة "نيكاب" يشير إلى أنّ حماة اللغة المُعيّنين للحفاظ على نقائها يحتاجون إلى إرخاء قبضتهم، والسماح لهذه اللغات بالانتعاش قليلاً.

نقلته إلى العربية: زينب منعم.