"المونيتور": لماذا يتصدر لبنان دول العالم في ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان؟

أظهرت دراسة حديثة أنّ لبنان يشهد أسرع ارتفاع في حالات الإصابة بالسرطان والوفيات المرتبطة به في العالم.

  • يتصدر لبنان دول العالم في ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان
    يتصدر لبنان دول العالم في ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان

موقع "المونيتور" الأميركي ينشر تقريراً يتناول الارتفاع غير المسبوق في حالات السرطان في لبنان، ويقدّم تفسيراً شاملاً للأسباب والعوامل التي تقف وراء هذه الزيادة، مع عرض لنتائج دراسة لانسيت الأخيرة، إضافةً إلى مواقف الخبراء ومسؤولي الصحة اللبنانيين.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

يواجه لبنان، الذي يعاني أزمة خانقة، تحدياً جديداً يتمثل في ارتفاع حاد في حالات السرطان والوفيات المرتبطة به، والذي يقول الباحثون إنه يرتفع بوتيرة أسرع من أي مكان آخر في العالم.

أظهرت دراسة أجرتها مجلة "لانسيت" الطبية ونُشرت في أيلول/سبتمبر أنّ لبنان سجل ارتفاعاً مذهلاً بنسبة 162% في حالات السرطان الجديدة، وارتفاعاً بنسبة 80% في الوفيات المرتبطة به بين عامي 1990 و2023. وعام 2023 وحده، تم الإبلاغ عما يُقدر بـ 233.5 حالة سرطان جديدة لكل 100,000 شخص.

غطت الدراسة 47 نوعاً من السرطان في 204 دولة ومنطقة، وتتبعت الحالات والوفيات بين عامي 1990 و2023. ووفقاً لمجلة "لانسيت"، سُجِّل 18.5 مليون حالة إصابة جديدة بالسرطان و10.4 مليون حالة وفاة في العالم عام 2023. ومن المتوقع أن تستمر هذه الأرقام في الارتفاع خلال السنوات الخمس والعشرين القادمة، مع توقع تسجيل ما يُقدَّر بـ 30.5 مليون حالة إصابة جديدة وأكثر من 18.6 مليون حالة وفاة بالسرطان بحلول عام 2050.

ووفقاً للدراسة، فإن أنواع السرطان الرئيسية التي ارتفعت في جميع أنحاء العالم هي سرطان الرئة، يليه سرطان الدم وسرطان البنكرياس وسرطان الكبد. في لبنان، سجلت بيانات المرصد العالمي للسرطان (الوكالة الدولية لأبحاث السرطان) 13,034 حالة إصابة جديدة بالسرطان عام 2022. وكان سرطان الثدي الأكثر شيوعاً، إذ تم تشخيص 2,161 حالة جديدة، يليه سرطان الرئة (1,566 حالة)، وسرطان البروستاتا (1,083 حالة).

هناك عدة عوامل وراء هذه الأرقام المقلقة التي يشهدها لبنان. تشمل هذه العوامل التلوث البيئي الناجم عن الاستخدام الواسع النطاق للمولدات الخاصة التي تعمل بالديزل، والاستخدام غير المنظم للمواد الكيميائية والمبيدات الحشرية في الزراعة، وإلقاء النفايات وإحراقها في العراء قرب المناطق السكنية.

ومع ذلك، فإن الدافع الرئيسي وراء هذه الزيادة في لبنان هو التدخين، من السجائر إلى النرجيلة، وفقاً لأحد مؤلفي الدراسة.

وصرح علي مقداد، أستاذ علوم المقاييس الصحية ورئيس قسم الاستراتيجية لصحة السكان في جامعة واشنطن، والذي شارك في تأليف الدراسة، لموقع |المونيتور| في مقابلة، أنّ السبب الرئيسي هو التدخين. وقال مقداد: "العامل الرئيسي في لبنان هو التبغ، إذ يدخن أكثر من 50% من البالغين، ويتعرض الجميع تقريباً للتدخين السلبي"، في حين أنّ العديد من العوامل التي تساهم في ارتفاع حالات السرطان في لبنان موجود في أماكن أخرى من العالم، ولكن لم تشهد أي دولة مثل هذه الزيادة الكبيرة على مدى العقود الثلاثة الماضية. وحذّر قائلاً: "الفرق الوحيد هو التبغ؛ فنحن ندخن أكثر من أي شخص آخر".

يُسجّل لبنان أحد أعلى معدلات التدخين في العالم، إذ تبلغ نسبة المدخنين فيه 34.1% من سكانه البالغ عددهم 5.8 مليون نسمة، وفقاً لبيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2024.

في آب/أغسطس 2011، أقرّ البرلمان اللبناني قانوناً يحظر التدخين في الأماكن العامة المغلقة وأماكن العمل ووسائل النقل العام، ويحظر الإعلان عن منتجات التبغ.

ولكن، كما هو الحال مع العديد من القوانين في البلاد، لم يُطبّق هذا الحظر، ولا يزال الناس يدخنون داخل المقاهي والمطاعم والنوادي الليلية وحتى المستشفيات.

يُلقي مقداد باللوم على ارتفاع معدلات التدخين في تزايد حالات سرطان الرئة والبنكرياس في لبنان. ووفقاً لدراسة أجرتها وزارة الصحة في البلاد عام 2023، يتم تشخيص أكثر من 1000 حالة سرطان رئة في لبنان سنوياً.

وأشار إلى أنّ "كلا هذين النوعين من السرطان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتبغ"، مضيفاً أنّ "المدخنين أكثر عرضة للإصابة بسرطان البنكرياس بمرتين إلى ثلاث مرات".

وسلط البروفيسور الضوء أيضاً على زيادة أمراض القلب والأوعية الدموية في لبنان، حيث أصبحت مشكلات القلب شائعة جداً.

أزمة الكهرباء

أبرزت الدراسة أيضاً تلوث الهواء كأحد الأسباب الرئيسية وراء الزيادة الكبيرة في حالات السرطان في هذا البلد المتوسطي الصغير، وخصوصاً في العاصمة بيروت.

ومن الأسباب الرئيسية للتلوث الاستخدام الواسع النطاق للمولدات الكهربائية الخاصة نتيجةً لأزمة الكهرباء المستمرة منذ الحرب الأهلية (1975-1990). قبل الأزمة الاقتصادية عام 2019، كانت المولدات الكهربائية الخاصة تُغطي نحو 40% من احتياجات المنازل من الكهرباء.

  • تلوث الهواء يعد أحد الأسباب الرئيسية وراء الزيادة الكبيرة في حالات السرطان في لبنان
    تلوث الهواء يعد أحد الأسباب الرئيسية وراء الزيادة الكبيرة في حالات السرطان في لبنان

وتفاقم الوضع بعد الانهيار المالي في لبنان عام 2019، الذي حرم الحكومة من استيراد الوقود لتشغيل شركة الكهرباء الحكومية، وغرقت البلاد في ظلام دامس تقريباً، وتزايد الاعتماد على المولدات الكهربائية بشكل كبير، وأصبحت المصدر الرئيسي للطاقة لغالبية السكان. وفي تقرير صدر في مارس 2023، قدرت هيومن رايتس ووتش وجود ما بين 33,000 و37,000 مولد كهربائي عامل في جميع أنحاء لبنان.

ارتفعت الانبعاثات السامة من أبخرة المولدات الكهربائية بنسبة 300% في أواخر عام 2021 مقارنة بعام 2012، وفقاً للباحثين في مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت.

عقود من الحرب والأزمات تُخلّف آثاراً

شهدت فوضى الحرب الأهلية اللبنانية إلقاء كميات هائلة من النفايات الكيميائية في لبنان، وفقاً لمقداد.

دفعت شركات أجنبية مختلفة أموالاً لميليشيات محلية للتخلص من مواد خطرة في البلاد، مستغلةً غياب الرقابة الحكومية.

دُفنت أو تُركت آلاف البراميل من النفايات السامة المستوردة من دول أوروبية في مقالع ومكبات نفايات في جميع أنحاء لبنان، بما في ذلك أكثر من 2000 طن من النفايات الصناعية الإيطالية المحظورة في أوروبا. وقد حذّرت منظمة غرينبيس مراراً وتكراراً من أن هذه النفايات تُشكّل مخاطر جسيمة على المياه الجوفية والصحة العامة.

وأشار مقداد إلى أن "الكثير من المواد الكيميائية استُخدم خلال الحرب الأهلية في لبنان، وخصوصاً خلال الحرب مع إسرائيل"، لافتاً إلى استخدام "إسرائيل" لقذائف اليورانيوم المنضب خلال حرب عام 2006 مع حزب الله في لبنان.

كررت الأطراف اللبنانية هذه الاتهامات خلال الحرب الأخيرة التي استمرت 13 شهراً مع "إسرائيل"، إذ حذرت نقابة الكيميائيين في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر 2024 من أنّ الدمار الذي أحدثته الغارات الجوية الإسرائيلية في جنوب لبنان يشير إلى أنّ "إسرائيل" ربما استخدمت اليورانيوم المنضب.

كما اتُهمت "إسرائيل" بإلقاء قنابل الفوسفور الأبيض في جنوب لبنان. في حزيران/يونيو 2024، وثقت "هيومن رايتس ووتش" استخدام القوات الإسرائيلية ذخائر الفوسفور الأبيض في 17 بلدة على الأقل في جميع أنحاء الجنوب منذ بدء الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023.

تحظر اتفاقية عام 1980 بشأن بعض الأسلحة التقليدية استخدام قنابل الفوسفور الأبيض، وهي شديدة السمية وتسبب حروقاً شديدة، في المناطق المدنية.

ومن القضايا المثيرة للقلق الأخرى انفجار مرفأ بيروت عام 2020، الذي أطلق كميات كبيرة من الغازات السامة، بما في ذلك أكاسيد النيتروجين والأمونيا، وفقاً للدراسات. وقع الانفجار نتيجة حريق في أحد مستودعات المرفأ، حيث خُزّن ما يقارب 3000 طن من نترات الأمونيوم شديدة الانفجار بشكل غير سليم منذ عام 2014.

وأوضح مقداد أنّ هناك فترة زمنية بين التعرض وظهور السرطان. وقال: "قد يستغرق ظهور السرطان خمس سنوات، بحسب المواد الكيميائية التي يتعرض لها الشخص. لذا، يُمكن إرجاع جزء بسيط من ارتفاع حالات السرطان إلى انفجار المرفأ". وحذّر قائلاً: "نتوقع المزيد من حالات السرطان ومشكلات الرئة في المستقبل، وخصوصاً في بيروت، بين الأشخاص الذين تعرضوا للانفجار".

نظام صحي متهالك

يبدو أنّ الوضع قد تفاقم في أعقاب الانهيار المالي في لبنان عام 2019، ما أدى إلى نقص في الأدوية وزيادة في تكاليف المستشفيات، ما أعاق الكشف المبكر عن السرطان.

وأوضح مقداد أنّ العديد من أنواع السرطان التي كانت تودي بحياة الناس قبل نحو 40 عاماً يمكن الوقاية منها الآن إذا تم اكتشافها مبكراً وتوفير الرعاية الطبية الكافية.

وقال: "يتمتع لبنان بجودة رعاية طبية ممتازة. لدينا أطباء أكفاء في لبنان، تلقوا تدريبهم في الخارج، وحتى في لبنان، وهم يقومون بعمل جيد. لكن للأسف، منعت الأزمة الاقتصادية الكثيرين من طلب الرعاية الطبية والعلاج الكيميائي الذي يحتاجونه".

هل يمكن وقف هذا التوجه؟

في حين يُقر مسؤولو الصحة اللبنانيون بأن لبنان شهد زيادة في حالات السرطان، إلا أنهم يعتقدون أن نتائج الدراسة ربما تكون "مبالغاً فيها".

قال وزير الصحة اللبناني، راكان نصر الدين، في بيان صحافي صدر في 30 أيلول/سبتمبر إنّ "البيانات الواردة في الدراسة تستند إلى افتراضات ونماذج مُعدّة مسبقاً، وليست مبنية على أرقام واقعية متاحة". وأضاف: "حتى الآن، لا توجد بيانات موثوقة متاحة عن وفيات السرطان في لبنان. قد تكون توقعات مجلة لانسيت مبالغاً فيها أو غير دقيقة تماماً".

توقف السجل الوطني للسرطان التابع لوزارة الصحة، والذي يوثّق حالات السرطان في لبنان، عن نشر أرقام الحالات في عام 2016، عندما تم الإبلاغ عن 11,392 حالة، وهي زيادة كبيرة عن 7,406 حالات تم الإبلاغ عنها عام 2005، عندما بدأ السجل.

ومع ذلك، أشار نصر الدين إلى أنّ النتائج يجب أن تحث مسؤولي الصحة في البلاد على اتخاذ إجراءات.

وقال مقداد إنّ معالجة عوامل الخطر، بما في ذلك التلوث، تستغرق وقتاً. على سبيل المثال، من أجل تقليل الاعتماد على المولدات الخاصة، يجب حل أزمة الكهرباء.

ويعتقد أنّ القضية الأكثر إلحاحاً هي معالجة ما وصفه بـ"جائحة التبغ" في البلاد، ويذكر أنّ "التبغ هو شيء يمكننا أن نتخذ إجراءً بشأنه على الفور من خلال الوقاية والتثقيف الصحي، وذلك بإخبار الناس أن التبغ يقتل أحباءهم، وخصوصاً أطفالهم الذين تعرضوا للتبغ في سن مبكرة للغاية".

نقلته إلى العربية: بتول دياب.