"بلومبرغ": أوروبا تتحول إلى قارة غير قابلة للحكم

يُكافح قادة أوروبا للحكم بسبب ميزانيات مُرهقة، وإدارة مُترهلة، ومعارضة مُتزايدة.

  • احتجاجات في فرنسا
    احتجاجات في فرنسا

وكالة "بلومبرغ" الأميركية تنشر تقريراً يتناول أزمة الحوكمة في أوروبا، مبرزاً مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويقارن بين أوضاع دول كبرى مثل فرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا والبرتغال، إضافة إلى بلجيكا ورومانيا وبولندا.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

قد يكون رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأكثر معاناة، لكن نظراءهم من لاهاي إلى وارسو، ومن برلين إلى مدريد، جميعهم في القارب نفسه، يديرون دولاً تزداد عجزاً عن الحكم.

تعاني معظم القارة اليوم مزيجاً خبيثاً من الميزانيات المثقلة، والإدارة المتباطئة، والتشرذم البرلماني، والمعارضة النشطة من قِبل التطرف السياسي، فضلاً عن الخلافات التي كثيراً ما تتسرب إلى الشوارع. ففي فرنسا، تسعى النقابات إلى شلّ البلاد يوم الخميس احتجاجاً على جهود خفض الإنفاق العام.

لقد أصبح العجز عن أداء المهام الرسمية هو القاعدة، وهو مأزق يزداد إثارة للقلق بعد مشاهدة الحل غير التقليدي الذي اقترحه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لمشكلة الجمود السياسي في واشنطن، والمتمثل في إصدار أوامر تنفيذية متكررة تختبر حدود الدستور الأميركي.

وبالنسبة للحكومات الأوروبية التي تتمسك بمواقف وسطية آخذة في التقلص، فإن التظاهر باستمرار العمل كالمعتاد يفسح المجال لاعتراف ضمني بأن قدراً من الشلل والاضطرابات سيستمر على الأرجح. وقد يتحول هذا إلى ذعر مع تقدم اليمين المتطرف بقوة في الانتخابات المقبلة في ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة.

تدرك أسواق السندات حجم الضغوط على باريس ولندن، مع ارتفاع عوائد الديون طويلة الأجل. وهذه المؤشرات التحذيرية تنبّه إلى أنّ صبر المستثمرين ليس بلا حدود.

لكن بعيداً عن التهديدات المالية، فإن عدم الاستقرار السياسي والجمود، وما يرافقهما من رسالة ضمنية للناخبين بأن الهياكل القائمة عاجزة عن تحقيق أهدافها، ينطويان على مخاطر كامنة.

وعلى الصعيد الداخلي، تكمن مفارقة الاضطرابات التي تُشعلها التيارات المتطرفة من اليسار واليمين في أنها تفتح الباب واسعاً أمامها للوصول إلى المناصب العليا. وفي الوقت نفسه، تزداد قارة ضعيفة عرضةً لنزوات الأنظمة العالمية ورجالها الأقوياء الذين يستغلون هذا الوهن، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ترامب، وصولاً إلى الصين بقيادة شي جين بينغ.

"أنا متشائم نوعاً ما"، يقول جيوفاني أورسينا، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة لويس بروما. "لقد تغيّر العالم، وأصبحت أوروبا وتداً مربعاً لم يعد يصلح."

لأزمة الحوكمة في أوروبا سمات مشتركة، فهي غالباً ما تعكس انهياراً في الإجماع حول كيفية توزيع عائدات النمو الاقتصادي الضعيف. وقد أجّجت ذلك حجج من أقصى اليسار وأقصى اليمين، مفادها أنّ الميسورين أو المهاجرين جزء من المشكلة.

لقد فاقمت شيخوخة السكان الضغوط على الميزانيات، وأضافت بُعداً جيلياً إلى الخلاف. ورغم أنّ الأنظار تتجه حالياً إلى فرنسا والمملكة المتحدة، فإن أي دولة تعتمد على معاشات تقاعد ممولة من القطاع العام، وعلى رأسها ألمانيا وإسبانيا، تواجه خيارات صعبة.

لا شك في أن تاريخ أوروبا يقدّم دليلاً ماثلاً على التهديدات المحدقة بها. إذ تتردد أصداء ما بين الحربين العالميتين، حين فتحت الفوضى الباب أمام الفاشية في إيطاليا وألمانيا، قبل أن تلحق بهما البرتغال وإسبانيا. وفي الوقت نفسه، ترك انهيار الجمهورية الفرنسية الثالثة، والأزمات الاقتصادية الممتدة في بريطانيا، كلا البلدين غارقين في انشغالهما الداخلي إلى درجة منعتْهما من إدراك الخطر المتنامي للنظام النازي في برلين.

أما اليوم، فتُعدّ فرنسا المثال الأبرز على عدم الاستقرار والجمود السياسي. فسيباستيان ليكورنو، خامس رئيس وزراء في غضون عامين، سيُضطر إلى تقديم تنازلات حقيقية لليسار من أجل تمرير الميزانية والبقاء في السلطة.

ومع بقاء أقل من عامين على نهاية ولاية ماكرون المتعثرة، يملك حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف ثقة حركة سياسية ترى أنّ وقتها قد اقترب.

في المقابل، يُعاني كير ستارمر في المملكة المتحدة بشدة. فقد تآكلت سلطته التي اكتسبها بعد فوزه بأغلبية برلمانية كبيرة العام الماضي، نتيجة ميزانية لم تُلبِّ احتياجات السوق، والتقلبات الاقتصادية، والاستقالات القسرية لأبرز حلفائه.

ومع عودة مخاوف التضخم، والتمرد داخل حزب العمال الحاكم، واندلاع أكبر تظاهرة يمينية متطرفة تشهدها بريطانيا في وسط لندن، يتصدر حزب "الإصلاح" الشعبوي بقيادة نايجل فاراج استطلاعات الرأي، ويقود الزخم السياسي.

أما ألمانيا، فعلى الرغم من أن ديونها أقل بكثير من نظيرتيها، فإن ائتلاف المستشار فريدريش ميرز، الذي تشكّل عقب فوز انتخابي ضعيف في فبراير، وأجبره على تجديد التحالف مع الاشتراكيين الديمقراطيين، بدأ يُظهر تصدعات واضحة.

وبسبب هشاشة تركيبة البوندستاغ، لم يتمكن ميرز من تحقيق زيادة ضرورية في الإنفاق الدفاعي إلا عبر تخفيف قيود الديون، مستنداً إلى نواب البرلمان السابق قبل أن تتسلم المجموعة الجديدة السلطة. ومع ذلك، يبرز "حزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف كحزب المعارضة الرئيسي، ويتنافس بقوة مع الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة ميرز على الفوز في الانتخابات المقبلة.

في إسبانيا، لم يتمسّك ائتلاف رئيس الوزراء بيدرو سانشيز بقيادة الاشتراكيين بالسلطة إلا من خلال تحالف مثير للجدل مع الانفصاليين الكتالونيين. أما البرتغال المجاورة، فقد تعثرت في 3 انتخابات خلال الفترة نفسها.

من بين أكبر دول أوروبا، قد تبدو إيطاليا حالة استثنائية، حيث أصبحت جورجيا ميلوني مؤخراً أطول رئيسة وزراء بقاءً في المنصب منذ استقالة سيلفيو برلوسكوني عام 2011.

ومع ذلك، فإن يديها مكبلتان بالمطالب المتنافسة لائتلافها، وعبء ديون ضخم، ونظام سياسي مقيد بغرفتين برلمانيتين متساويتين في القوة. ويمكن القول أيضاً إن الخطر الكامن في عدم الاستقرار هو الذي فرض الانضباط داخل تحالفها.

في أماكن أخرى من أوروبا، يسود الجمود السياسي. نجا رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف من تصويت على سحب الثقة في أواخر أغسطس، لكنه يواجه انتخابات مبكرة الشهر المقبل. أما بلجيكا، فقد استغرقت أكثر من نصف عام بعد تصويتها الوطني لتشكيل ائتلاف في يناير، وهو ما يمثل تحسناً مقارنةً بفترة الانتظار التي استمرت 500 يوم في المرة السابقة.

بالتوجه شرقاً، تعطلت السنة الثانية لدونالد توسك كرئيس للوزراء بسبب الفوز المفاجئ لمرشح قومي من خارج الاتحاد الأوروبي كرئيس، والذي أصبح بإمكانه الآن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد محاولات خفض أحد أكبر عجز الموازنات في الاتحاد الأوروبي لأن أغلبية الحكومة غير كافية. أما رومانيا، فهي تخرج من أسوأ أزمة سياسية منذ انهيار الشيوعية بعد أن برز مرشح هامشي العام الماضي من الظل ليفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية وسط شكوك حول الدعم الروسي.

يمكن للكيانات الإقليمية أن تعوّض الفوضى المحلية، غالباً لأنها لا تخضع مباشرةً للناخبين. على سبيل المثال، يمكن للبنك المركزي الأوروبي أن يدّعي تحقيق بعض النجاح في استقرار الأسعار في ظلّ بيئة شديدة التقلب.

لكن الاتحاد الأوروبي، الذي ينتمي إليه، يواجه بطبيعته كمنظمة دولية تحدياته الخاصة. فبينما أسهمت قوانينه وقيوده سابقاً في تسريع عجلة النمو القاري، فإن عمليات اتخاذ القرار فيه بطيئة وغالباً ما تعتمد على الإجماع. وفي الوقت نفسه، يُعدّ الاتحاد أيضاً مصدراً لانتقادات الحركات القومية، ويتجلى ذلك في خروج المملكة المتحدة.

يُتيح العجز الجماعي الناتج عن تفكك الديمقراطيات فرصة العمر لبوتين، الذي تُؤكد هجماته الأخيرة بطائرات من دون طيار على بولندا ورومانيا رغبته في اختبار ضعف جيرانه. في غضون ذلك، تحاول الصين تفكيك الوحدة الأوروبية من خلال السعي إلى تحالفات مع دول مثل إسبانيا، بينما سلّطت اتفاقية ترامب التجارية مع الاتحاد الأوروبي الضوء على نظرته إلى القارة من منظور المعاملات، وكأنها مجرد مورد للاستغلال.

ومع استعداد السياسيين لاجتماع إقليمي في أوائل تشرين الأول/أكتوبر للمجموعة السياسية الأوروبية، يُمكن للكثيرين على الأقل أن يطمئنوا إلى أن لديهم بعض الوقت. أمام الدول الكبرى أكثر من عام قبل الانتخابات العامة، وقد يكون أمام المملكة المتحدة وألمانيا حتى عام 2029 إذا صمدت حكومتاهما. لكن زعماء هذه الدول أصبحوا بشكل متزايد أشبه بحكام دستوريين، يترأسون المراسم لكنهم محرومون من القدرة الفعلية على الحكم.

نقله إلى العربية: الميادين نت.