"فورين أفيرز": كيف استعدت الصين للحرب التجارية؟

ما هو نهج بكين في مواجهتها الاقتصادية مع واشنطن؟ وما هو مستقبل العلاقة بين البلدين؟

  • "فورين أفيرز": كيف استعدّت الصين للحرب التجارية؟

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً مطوّلاً يناقش تطوّرات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، مركّزاً على الأسباب التي دفعت البلدين إلى هذا الصراع، وتداعياته الاقتصادية والسياسية، إلى جانب تحليل استراتيجيات كلا الطرفين في التعامل مع الأزمة.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:

من المهمّ إدراك الكيفية التي انزلق فيها أكبر اقتصادين في العالم نحو حرب تجارية لا يريدها أيّ منهما فعلاً، ولا يمكن لبقية العالم تحمّلها. 

بدأ التصعيد عقب احتفال الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ"يوم التحرير" في أول أيام الشهر الجاري، حين أعلن عن فرض رسوم جمركية بمستويات متفاوتة على جميع شركاء واشنطن التجاريين، ثمّ انخرطت الولايات المتحدة والصين في جولات من التصعيد المتبادل، رفعت الرسوم الجمركية بين البلدين إلى مستويات هائلة للغاية على التوالي، حيث وصلت الرسوم الأميركية على السلع الصينية إلى 145%، بينما رفعت الصين نسبة التعريفات على السلع الأميركية إلى 125%. 

وما لم يتوصّل البلدان إلى إعفاءات واسعة النطاق، فإنّ التجارة الثنائية بين البلدين بقيمة 700 مليار دولار أميركي سنوياً، قد تتقلّص بنسبة تصل إلى 80% خلال العامين المقبلين. خاصة وأنّ الأسواق العالمية استجابت سلبياً لقرع طبول الحرب التجارية التي تلوح في الأفق، بينما يكافح العديد من الاقتصاديين والمحللين لفهم ما تحاول إدارة ترامب تحقيقه.

من الواضح أنّ المواجهة الحالية بين الطرفين هي نتاج افتراضات وتصرّفات خاطئة من كلا الجانبين. في محيط ترامب، أخطأ اللاعبون والمجموعات القوية المؤثّرة، في تقدير مرونة الاقتصاد الصيني، وافترضوا خطأً أنّ الزعيم الصيني شي جين بينغ سيسارع إلى إبرام صفقة من أجل تجنّب ردّ فعل محلّي غاضب. لكن، صقور الصين في واشنطن فشلوا في توقّع مدى حزم ردّ فعل بكين على تعريفات ترامب الجمركية.

أمّا في الصين، فقد أدّى العجز في الدبلوماسية الماهرة في البلاد إلى جعلها أكثر مهارة في إبراز التحدّي من براعة صياغة النتائج. كما، لم تنجح بكين في معالجة المخاوف المشروعة للكثيرين في الولايات المتحدة وخارجها، من أن يؤدّي تجدّد زيادة الصادرات الصينية منخفضة التكلفة إلى إحداث "صدمة صينية" ثانية في الأسواق، من خلال زيادة تأكّل الأسس الصناعية للاقتصادات الأخرى.

كذلك إنّ الخطابات العدائية مثل إعلان السفارة الصينية في واشنطن في الشهر الماضي، عن أنّ بلادها "مستعدّة للقتال حتّى النهاية، في حرب تجارية أو أيّ نوع آخر من الحروب"، من شأنها أن تفشل تماماً في التعبير عن رغبة القيادة الصينية طويلة الأمد في تجنّب الصراع الخارجي، كما لا تفعل الكثير للتأثير على الرأي العامّ الدولي.

من جانبها تحاول إدارة ترامب الآن إنقاذ الاقتصاد العالمي من حالة الفوضى التي دفعته نحوها من دون تخطيط، من خلال الانتقال من إعادة صياغة كاملة للنظام الاقتصادي العالمي، إلى هجوم مباشر أكثر استهدافاً للاقتصاد الصيني، بينما لا يساور الرئيس الصيني وبقية القيادة في بكين أيّ شكّ بأنّ بلادهم قادرة على كسب حرب تجارية مع الولايات المتحدة، وهم على أهبة الاستعداد للمخاطرة بحرب قد يخسرها ترامب.

الصيغ الخاطئة 

هناك رأي شائع في واشنطن، عن أنّ الصين متلهّفة للتفاوض على اتّفاقية تجارية، لتجنّب معاناة اقتصادية قد تزعزع الاستقرار الداخلي وتهدّد احتكار "الحزب الشيوعي الصيني" للسلطة، توجّه معلن بين المتشدّدين المناهضين للصين في الولايات المتحدة، الذين يعتبر تحليلهم صحيحاً جزئياً، لكنّه دفع الكثيرين إلى استخلاص استنتاجات خاطئة.

النمو الاقتصادي الصيني اليوم أضعف ممّا كان عليه في أي وقت خلال  الـ30 سنة الماضية. لكنه ليس، كما صرّح وزير الخزانة الأميركية سكوت بيسنت مراراً وتكراراً، عن أنّ الاقتصاد الصيني في حالة "ركود حادّ، إن لم يكن في حالة كساد". وفي الواقع، فقد تباطأ النمو من معدلات سنوية ثنائية الرقم قبل عقدين، إلى معدّلات عالية في خانة الآحاد في العقد الثاني من القرن الجاري، ليصل اليوم إلى نحو 5%، مع أنّ العديد من مراقبي الصين قلّلوا النسبة إلى ما يقارب 2%، بحجّة ميل "الحزب الشيوعي الصيني" إلى المبالغة.

مع ذلك، لا يمنح تباطؤ النمو الصيني للولايات المتحدة بالضرورة أفضلية. فقد نمت الاقتصادات المتقدّمة حول العالم بمعدّل 1.7% في المتوسط ​​العام الماضي، وتصدّر الاقتصاد الأميركي القائمة بنسبة 2.8%. إلا أنّ هذا الزخم آخذ في التلاشي. إذ تتوقّع شركة الخدمات المالية "جي بي مورغان"، نموّاً سلبيّاً للاقتصاد الأميركي في النصف الثاني من العام الجاري، بينما تتوقّع انخفاض النموّ الرسمي للصين إلى معدل 4.6%.

قال وزير التجارة هوارد لوتنيك في أوائل الشهر الماضي لشبكة "أن بي سي نيوز"، إنّ دونالد ترامب، "يجلب النموّ إلى أميركا، ولا أمل للمراهنين على الركود"، حيث تساهم هذه المبالغة في ظاهرها، في تضخيم اعتقاد إدارة ترامب في احتمالات أن تجبر الرسوم الجمركية الصين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. لكنّ هذه الاستراتيجية جاءت بنتائج عكسية، ممّا قلّل بشكل كبير من إمكانية إجراء مفاوضات مباشرة قد تكون الصين مستعدّة فيها لتقديم تنازلات ذات معنى. لقد أظهرت بكين قدرة قوية على الردّ وانفتاحاً تكتيكياً على التفاوض، لكنّها لم تظهر استعداداً للخضوع.

يبدو أنّ إدارة ترامب تعتقد أنّ التوصّل إلى اتّفاق تجاري شامل يمكن أن يتمّ من خلال حوار مباشر بين قيادة البلدين. لكنّ الرئيس شي لا يتفاوض على الصفقات، ويحافظ على عزلة الإمبراطورية، ويبارك الاتّفاقيات التي يصيغها مساعدوه، ويتجنّب ضغوط الحكم اليومي، على عكس ترامب الذي، يستمدّ رصيده السياسي من جذب انتباه وسائل الإعلام، حيث يستعرض الإنجازات وينسبها لشخصه بشكل واضح وصريح، ويصوّر نفسه على أنّه المفاوض الرئيسي، الذي يقود لوحده أجندة التعريفات الجمركية.

يمثّل هذا التباين في أساليب القيادة تحدّياً لوجستياً خطيراً للدبلوماسية. فمن الصعب تصوّر ترامب يمارس ضبط النفس اللازم لتجنّب تأطير النزاع على أنّه منافسة شخصية بين زعيمين كبيرين. ومع ذلك، فإنّ هذا التأطير نفسه يعدّ لعنة على الجانب الصيني. ومن المرجّح أن يتسبّب في انسحاب بكين تماماً، لأنّها تعتقد أنّ الاجتماع بين شي وترامب من غير المرجّح أن يضمن نتائج جوهرية، وترى التفاوض على أنّه تنازل لواشنطن مع القليل من المزايا ومخاطر كبيرة.

حتّى القمّة المخطّط لها بعناية يمكن أن تضرّ بصورة شي، وبالتّالي، بمكانة الحزب. كما لا يزال المسؤولون الصينيون يتذكّرون بوضوح كيف شنّ ترامب حرباً تجارية فوراً تقريباً، بعد زيارته الرسمية الدافئة والمثمرة إلى بكين في عام 2017. 

كذلك لا تريد بكين المخاطرة بحدوث صدام مثل الذي حدث عندما زار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي البيت الأبيض منذ نحو شهرين.

لعبة شي الطويلة

تميّزت مسيرة الرئيس شي السياسية بمحورين أساسيين، في مقاومة الإكراه الخارجي، والسيطرة على صراعات السلطة الداخلية. كما أنّ رسالة شي السياسية الجوهرية، تتجسّد في مفهوم " تشي كو"، أو "تذوّق المرارة"، إلى المواطنين الصينيين وخاصة الشباب، ويدعوهم إلى تحمّل المشقّة في سبيل تجديد حيوية الأمة.

على الرغم من أنّ سياسات ترامب التجارية العدائية مصمّمة لإضعاف نفوذ بكين، إلا أنّها عزّزت على نحو متناقض سردية الرئيس الصيني. كما يوفّر التهديد الخارجي للصين غطاء لإعادة التوجيه الاقتصادي الجارية في البلاد، حيث يبرّر "الحزب الشيوعي الصيني" ذلك بسعي الدولة نحو المزيد من الاعتماد على الذات.

يقوم النظام السياسي الصيني على احتكار "الحزب الشيوعي" للسلطة في البلاد، وعلى شبه احتكار لرئيس البلاد السلطة داخل الحزب نفسه. ممّا يتيح من خلال هذه المركزية للزعيم الصيني اتّخاذ قرارات سياسية شاملة من دون أيّ اعتراض، وعكس المسارات بالسرعة ذاتها. ونتيجة لسيطرة الحزب على البيانات المتعلّقة بالشؤون الخارجية، يمكن اعتبار أيّ لقاء مع إدارة ترامب في الداخل الصيني، كجزء من موقف الرئيس شي الحازم في وجه التنمّر الخارجي.

على هذا يتكشّف أنّ ردّ فعل الصين على الرسوم الجمركية الأميركية، ليس لحفظ ماء الوجه بقدر ما هو تنفيذ لاستراتيجية مدروسة بعناية. وعلى عكس حلفاء الولايات المتحدة الذين فاجأت تكتيكات ترامب معظمهم، أمضت بكين سنوات في الاستعداد للمواجهة. ومنذ العام 2018، صمدت الصين في وجه حرب تجارية محدودة، واكتسبت خبرة في إدارة التنافس المتفاقم مع الولايات المتحدة، وتعلّمت كيفية الالتفاف على القيود الاقتصادية التي تفرضها واشنطن.

كذلك بإطار ردّها على الولايات المتحدة، حثّت بكين المسؤولين المحلّيين والشركات المملوكة للدولة إلى تعزيز مرونة سلسلة التوريد وتنمية الأسواق الخارجية. ولتخفيف وطأة الأزمة التي تتعرّض لها الشركات الصغيرة ودرء البطالة، كشفت النقاب عن تدابير مالية ونقدية محدّدة لدعم هذه الشركات وسط حالة القلق السائدة. 

وفي المؤتمر الوطني لنواب الشعب في الشهر الماضي، شدّد الزعماء الصينيون على أهمّية تعزيز الطلب المحلّي، باعتباره مفتاح النموّ المستقبلي، مع وضع سياسات جديدة لتعزيز الإنفاق الاستهلاكي وتحسين بيئة الأعمال الوطنية. كما روّجت للاستخدام الدولي لأنظمة الدفع القائمة على الرنمينبي للحدّ من تعرّضها للعقوبات المالية الأميركية القسرية.

كما أصدرت الصين مجموعة من القوانين الجديدة، منها قانون مكافحة العقوبات الأجنبية، وقانون مراقبة الصادرات، ولوائح مكافحة التجسّس، وكلّها تهدف لتقنين التدابير الانتقامية، وتضع الشركات الدولية في مأزق صعب للغاية، حيث إنّها واقعة بين انتهاك العقوبات الأميركية أو المخاطرة بانتهاك القانون الصيني، والعكس صحيح أيضاً.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، سعت الصين إلى كبح جماح الحمائية الغربية من خلال تعميق العلاقات الإقليمية. كما سرّعت المفاوضات لعقد اتّفاقية تجارة حرّة مع الدول العربية الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. وفيما يتعلّق بالاتحاد الأوروبي، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي بعد الاجتماع مع نظيره الفرنسي جان نويل بارو في الشهر الماضي، بأنّ الصين وفرنسا تخطّطان لإجراء 3 حوارات رفيعة المستوى هذا العام.

وفي الأيام التي سبقت إعلان إدارة ترامب عن زيادة التعريفات الجمركية، استأنف وزراء من الصين واليابان وكوريا الجنوبية حوارهم الاقتصادي والتجاري بعد انقطاع دام 5 سنوات، واتفقوا على بحث اتفاقية تجارة حرّة أكثر شمولاً بين الدول الثلاث، والتعاون في إصلاحات منظّمة التجارة العالمية، والترحيب بأعضاء جدد في اتّفاقية التجارة الحرة الإقليمية. وفي وقت سابق من هذا الشهر، زار الرئيس شي جنوب شرق آسيا للمرّة الثانية في أقلّ من عامين، لتعزيز العلاقات مع فيتنام وغيرها من الدول المجاورة الرئيسية التي أصبحت مراكز شحن للبضائع الصينية.

لا شكّ في أنّ الرسوم الجمركية المرتفعة ستؤدي إلى تأكّل قدرة وصول المصدّرين الصينيين إلى السوق الأميركية. ولكن من وجهة نظر القيادة الصينية، فإنّ الاقتصاد الصيني في وضع أفضل من أيّ وقت مضى لتحمّل الألم. وبالمقارنة مع صدمات عمليات الإغلاق بسبب كوفيد 19، فإنّ انقطاع التجارة مع الولايات المتحدة سيكون اضطراباً محتملاً. وقد أظهرت عمليات الإغلاق تلك إلى أيّ مدى يمكن للحزب الحاكم فرض صعوبات على شعبه من دون زعزعة استقرار السيطرة الاجتماعية.

والأهمّ من ذلك، أنّ مقياس الرئيس شي للتجديد الوطني ليس الناتج المحلّي الإجمالي، بل هو التطوّر العلمي والتكنولوجي. كما هي أجندة سياسة ترامب "أميركا أولاً" تقوم فقط بتعزيز توجيه شي للصينيين نحو الابتكار وزيادة الاعتماد على الذات. وعلى عكس ما حدث خلال إدارة ترامب الأولى، فإنّ الصين الآن، إذا لزم الأمر، مستعدّة للانفصال عن الولايات المتحدة.

لا رهانات مؤكّدة

بغضّ النظر عن مخاوف التضخّم على المدى القريب، يبقى العامل الأبرز الذي يشكّل سلاسل التوريد العالمية اليوم يتمحور حول إمكان الاعتماد على الولايات المتحدة كشريك اقتصادي مستقر طويل الأمد.

في الواقع، لم يمرّ هذا الشكّ بين شركاء الولايات المتحدة التقليديين مرور الكرام في بكين، حيث استغل المسؤولون بسرعة تحوّل الاهتمام الدولي عن مركزية شي جين بينغ للسلطة وتخلّيه عن رؤية (دنغ شياو بينغ للإصلاح والانفتاح).

مؤخّراً دعت "صحيفة الشعب" الناطقة باسم الحزب الحاكم، المستثمرين الأجانب إلى "استغلال حالة اليقين في الصين للتحوّط من حالة عدم اليقين في أميركا".

إنّ الرسوم الجمركية المستمرة لن توقف التوسّع التجاري العالمي للصين. فقد دفعت الطاقة الإنتاجية الفائضة المحلّية والمنافسة الداخلية الشرسة الشركات الصينية إلى التوسّع خارجيّاً بحثاً عن هوامش ربح. وقد تعزّز هذا التوجّه بدعم حكومي من خلال حوافز مالية، وتبسيط الإجراءات التنظيمية، والإعفاءات الضريبية، وتسهيل الوصول إلى الأسواق الخارجية وسلاسل التوريد.

ومن المرجّح أن نطاق الاتّفاق بين واشنطن وبكين، والتنازلات التي يمكن لترامب انتزاعها من شي قد تقلّصت خلال الشهر الماضي. وإذا أراد ترامب التوصّل إلى اتّفاق، فقد يضطرّ للانضمام إلى الشعب الصيني في "تجرّع المرارة" وقبول بعض التنازلات الصعبة. لكن مع إعادة تقييم استراتيجيته الدبلوماسية، لا يزال بإمكانه تحقيق بعض الانتصارات الصغيرة، وتجنّب الخسائر الفادحة المحتملة التي تواجهها الولايات المتحدة الآن.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.