"فورين بوليسي": هل يمكن للفلسطينيين أن يثقوا بترامب؟
الضغط الأميركي وحده كفيلٌ بضمان التزام "إسرائيل" بوقف إطلاق النار في غزة.
-
"فورين بوليسي": هل يمكن للفلسطينيين أن يثقوا بترامب؟
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة في ضوء خطة السلام الأميركية التي يُشرف عليها ترامب، ويطرح الشكوك الجوهرية حول استدامة الاتفاق ومصداقيته.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
يأتي وقف إطلاق النار بعد عامين من إراقة دماء غير مسبوقة في غزّة، اتسمت بمستويات من القسوة والعنف هزت ضمير العالم. ورغم أنّ بنود الاتفاق لم تُكشف بالكامل، إلا أنّ ما أُلمح إليه، وما يُمكن استنتاجه من السياق، يثير شكوكاً جدية في أنّ الإطار المبهم المُحدد في "خطة السلام" الأميركية المُكونة من 20 نقطة والتي يجري مناقشتها سيُبلور ويُنفذ بالكامل. ولا يكمن جوهر القلق في الهوة الشاسعة التي تفصل بين مواقف الجانبين أو عدم تكافؤ قوتهما فحسب، بل أيضاً في أنّ كل شيء تقريباً يتوقف على ضمانة رجل واحد: الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
خلال مفاوضات وقف إطلاق النار السابقة، ظلت "إسرائيل" وحماس متباعدتين بشأن العديد من القضايا، بما في ذلك توقيت الانسحاب العسكري الإسرائيلي من غزة وشموليته، ونزع سلاح حماس، وطبيعة وهيكل الحكم المُستقبلي في القطاع.
في محادثات سابقة، بما في ذلك محادثات كانون الثاني/يناير من هذا العام، عالج الوسطاء المشكلة باقتراح عملية تنفيذ تدريجية، تُؤجل فيها النقاط العالقة إلى المرحلتين الثانية والثالثة، بينما يُنفّذ الجانبان تبادلاً تدريجياً للأسرى ودخول المساعدات الإنسانية. إلا أنّ هذه العملية التدريجية أتاحت للطرف الأقوى، "إسرائيل"، انتهاك وقف إطلاق النار في نهاية المرحلة الأولى من دون عقاب، بعد أن استعادت عدداً كبيراً من الأسرى، وقبل أن تضطر إلى اتخاذ خطوات لإنهاء الحرب والانسحاب.
تعود هذه الديناميكيات للعب دورها من جديد. فعلى الرغم من طرح الرئيس الأميركي اقتراحاً أوسع نطاقاً، اختار المفاوضون في مصر بوضوح اتفاقاً تدريجياً، إلا أنه هذه المرة، سيجري إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المتبقين دفعة واحدة.
لم تُعالَج النقاط العالقة الرئيسية في خطة ترامب، بما في ذلك الفجوات بين النسخة التي اتفقت عليها ثماني دول عربية وإسلامية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر، والنسخة التي راجعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقبلها في واشنطن بعد بضعة أسابيع. هذا يعني إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المتبقين من دون أي ضمانات بالتوصل إلى أي اتفاق آخر.
مع أنّ عدم اضطرار سكان غزة إلى انتظار عملية تفاوض طويلة للحصول على هدنة يائسة يُعدّ أمراً إيجابياً، إلا أنّ ديمومة وقف إطلاق النار موضع شك. وحتى لو تم التوصل إلى اتفاق أوسع، فقد يقرر نتنياهو في مرحلة ما من عملية التنفيذ أنّ من مصلحته التخلّي عن الاتفاق واستئناف حملته العسكرية أو إيجاد ترتيب آخر يناسب مصالحه.
لكن وراء كل هذا مفهوم بسيط يجعل حتى هيكل التفاوض والتنفيذ المرحلي غير ذي صلة: كل تنازل تقدمه حماس لا رجعة فيه، بينما كل تنازل تقدمه "إسرائيل" يمكن التراجع عنه.
على سبيل المثال، إذا سحبت "إسرائيل" جيشها من غزة يوماً ما، فيمكنها العودة في اليوم التالي؛ وإذا أطلقت سراح 1000 أسير فلسطيني اليوم، فيمكنها إعادة اعتقالهم غداً. من ناحية أخرى، بمجرد أن تطلق حماس سراح الأسرى الإسرائيليين، فإنهم سيرحلون إلى الأبد. إذا قررت التخلي عن أسلحتها، فقد يتم وضع آلية لاستعادتها إذا تراجعت "إسرائيل" عن الاتفاق، ولكن سيكون من الصعب عليها القيام بذلك عملياً.
بالنسبة لحماس، تجعل هذه المعضلة الأساسية ضامن الاتفاق محورياً تماماً. وهنا يأتي دور ترامب الذي لا يُعتمد عليه. على الرغم من أنّ مسؤولي حماس زعموا مؤخراً أنّ الحركة تثق بالرئيس في الحفاظ على الاتفاق، إلا أنّ هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولسبب وجيه. عندما انتهكت "إسرائيل" وقف إطلاق النار المُبرم في كانون الثاني/يناير في آذار/مارس، في نهاية المرحلة الأولى، فعلت ذلك بمباركة ترامب. في الواقع، قوّض ترامب الاتفاق في منتصف المرحلة الأولية باقتراحه تحويل غزة إلى "ريفييرا" تحت سيطرة الولايات المتحدة وإخلائها من الفلسطينيين، وهي فكرة سخيفة جعلت الفلسطينيين يشككون جدياً في التزامه بالمبادئ الأساسية للشرعية والعدالة والأخلاق. ربما منحت هذه الفكرة المتهورة وغير المدروسة نتنياهو الغطاء السياسي للتخلي عن المرحلتين الثانية والثالثة من وقف إطلاق النار والسعي علانيةً إلى هدف التطهير العرقي في قطاع غزة. في الواقع، في كل خطوة على الطريق، ادعى نتنياهو ووزراء حكومته أنّ أفعالهم كانت وفقاً لخطة ترامب.
منذ ذلك الحين، تآكلت مصداقية ترامب. ففي حزيران/يونيو، سمح لـ "إسرائيل" بشن هجومها المفاجئ على إيران في خضم المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية، حتى أنه زعم أنه استخدم جولة محادثات وشيكة كغطاء لـ "إسرائيل". وأخيراً، تورط ترامب في هجوم "إسرائيل" على قطر في أيلول/سبتمبر، إما لأنه سمح بحدوثه أو فشل في منعه.
ومن المفارقات أنّ هذا القرار الخاطئ الذي اتخذته كل من "إسرائيل" والولايات المتحدة هو الذي مهّد الطريق على الأرجح لمفاوضات وقف إطلاق النار الحالية. وقد حفّز الهجوم دول الخليج وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، وإدراكاً منهم للتهديد الناشئ لأمنهم، التفّوا حول قطر وشكّلوا جبهة موحدة أمام ترامب، مطالبين، من بين أمور أخرى، بكبح جماح "إسرائيل" والانخراط مجدداً في خطة لإنهاء المجازر والتجويع في غزة.
وكما يتضح من اجتماع ترامب مع ثمانٍ من هذه الدول في نيويورك، والذي انبثق عنه اقتراح ترامب الأخير، يبدو أنّ هذا قد حقق النتيجة المرجوة. هذه المرة، يبدو ترامب أكثر انخراطاً شخصياً من ذي قبل، حيث أصبحت مصداقيته أمام حلفائه الإقليميين المرموقين على المحك. ومن الأمور الحاسمة أيضاً أن هذه الدول أظهرت قدرتها على العمل كقوة موازنة للنفوذ الإسرائيلي على إدارة ترامب، ما يعزز إمكانية ممارسة ترامب للضغط اللازم على نتنياهو لإنجاح المفاوضات. يبقى استمرار هذه الديناميكية بين ترامب والدول العربية سؤالاً مفتوحاً، لكن التحالف الناشئ بين تلك الدول العربية وتركيا وأوروبا يُضفي ثقلاً إضافياً على جهودهم الدبلوماسية.
مع تقدم المفاوضات، سيتعين على حماس اتخاذ بعض القرارات التي ستُشكل تحدياً جوهرياً للمنظمة. من المرجح أن يُدرك مسؤولوها في هذه المرحلة أنهم في نهاية الطريق؛ فلا أحد يأتي لإنقاذ الشعب الفلسطيني من هجوم الإبادة الجماعية الإسرائيلي. على الرغم من تزايد الزخم في الخارج، سيكون من الحماقة التمسك بالأمل في أن العقوبات الدولية وحظر الأسلحة وشيكين، وسيكونان كافيين لكبح جماح نتنياهو، بينما يستمر في تلقي الدعم الأميركي. في هذه الأثناء، تواجه حماس ضغوطاً هائلة وعزلة، حتى أن دولاً متعاطفة معها، مثل قطر وتركيا، تؤيد موقفها الداعي إلى نزع سلاحها، ولا تملك أي أوراق تُذكر سوى الرهائن - الذين يُرجّح أن يعودوا جميعاً إلى "إسرائيل" بحلول الأسبوع المقبل. ولكن إلى أي مدى ستُساوم حماس على شروط بقائها لضمان بقاء الشعب الفلسطيني في غزة؟ وإلى أي مدى ستتنازل عن مبادئها المقدسة، كحقها في حمل السلاح ومقاومة الاحتلال غير الشرعي، حتى يتم التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية؟
هناك أيضاً مسألة صياغة مسار سياسي أوسع لمعالجة حق تقرير المصير الفلسطيني، وهو أمرٌ مهم ليس فقط للجانب الفلسطيني، بل لجميع الدول التي سيكون لها دور في غزة مستقبلاً. وبينما لم تُعالج هذه النقطة بشكل متماسك في خطة نتنياهو المُعدّلة، لا ترغب أي دولة في أن تُورّط نفسها بدور حوكمة وأمني لا نهاية له في غزة، خاصةً مع استمرار "إسرائيل" في سعيها لتحقيق أهدافها التوسعية في الضفة الغربية.
يُشكّل هذا القلق أساس حماس بعض الدول العربية والأوروبية المُتجدّد للدبلوماسية سعياً لتحقيق حل الدولتين، ويجعلها أكثر حرصاً على ضمان نجاح الصفقة المُتفاوض عليها ووصولها إلى حل سياسي في نهاية المطاف. على أقل تقدير، تُطالب هذه الدول بشدة بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ما سيُعفيها جزئياً من مشاركتها المباشرة على الأرض - على الرغم من معارضة الإسرائيليين الشديدة.
يبقى السؤال مطروحاً حول إذا ما كانت "إسرائيل" تُريد اتفاقاً أوسع أم لا. فهي مُنعزلة بشدة وتفقد أصدقاءها بسرعة. القضية الأهم هي ما سيحدث إذا قرر نتنياهو الانسحاب من الصفقة بمجرد تحقيق أهدافه. هل سيستخدم ترامب نفوذه على "إسرائيل" لإجبارها على الامتثال؟ لقد أثبت نتنياهو أنه يعرف كيف يختار معاركه مع ترامب، وعندما يُجبر على التنازل، يتفوق عليه بمرور الوقت. منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وجد أيضاً أنّ شن حرب دائمة متعددة الجبهات ساحة مثالية لإدارة السياسة، مثل ويلي ونكا في مصعده الزجاجي، يضغط على الأزرار ويسحب الرافعات للذهاب في أي اتجاه يريده.
إذا تخلى نتنياهو عن الاتفاق أمام أعين العالم، فمن المرجح أن يكون هناك رد فعل عنيف واسع النطاق، مع انضمام المزيد من الدول لاتخاذ إجراءات عقابية ضد "إسرائيل". لكن التجربة تشير إلى أنّ ضغط ترامب وحده كفيل بإجباره، وهذا الضغط غير مضمون.
نقلته إلى العربية: بتول دياب.