"972+": متحف اسكتلندي يُستغلّ في الدعاية الإسرائيلية

في تحليل للعشرات من مقاطع "الرسوم المتحركة" التي ينشرها "الجيش" الإسرائيلي، اكتُشف أنّ أصول هذه الفيديوهات الرقمية، ليست مستمدّةً من الاستخبارات السرّية، بل من المكتبات التجارية ومنشئي المحتوى.

  • الاحتلال استخدم رسوم وعناصر رقمية من مواقع غربية ليعرضها كمنشآت عسكرية مزعومة في غزة
    الاحتلال استخدم رسوماً وعناصر رقمية من مواقع غربية ليعرضها كمنشآت عسكرية مزعومة في غزة

مجلة "972+" الإسرائيلية تنشر تحقيقاً استقصائياً موسعاً حول استخدام "الجيش" الإسرائيلي للرسوم المتحركة ثلاثية الأبعاد كأداة دعاية حربية لتبرير هجماته على البنية التحتية المدنية في غزة وسوريا ولبنان وإيران.

أدناه نص التحقيق منقولاً إلى العربية:

في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نشر "الجيش" الإسرائيلي مقطع فيديو يدّعي الكشف عمّا يوجد تحت مستشفى الشفاء، أكبر مجمع طبي في قطاع غزّة. أظهر الأنفاق تحت الأرض، والمخابئ، وغرفة قيادة حركة "حماس" والصور كلها منتجة من خلال رسومات ثلاثية الأبعاد "أنيقة"، في حين أصرّ المستشار الأول لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو آنذاك مارك ريغيف، على أنّ "المعلومات لا يمكن دحضها، لأنّ مصدرها الاستخبارات الإسرائيلية"، خلال مقابلة في اليوم نفسه على شبكة "سي إن إن". 

وفي منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وقعت أول غارة إسرائيلية على المستشفى، لكنّ السردية كانت قد أُعدّت قبل ذلك بنحو أسبوعين فعليّاً، حيث نشر المقطع في الوقت نفسه عبر حسابات الجيش الإسرائيلي على مواقع (تيليغرام، فيسبوك، يوتيوب، إكس، إنستغرام)، وعلى ملف نتنياهو الشخصي في منصة "إكس"، وقد حقّق الفيديو عشرات الملايين من المشاهدات، بينما على مدى الأسابيع التالية، أعادت عشرات المواقع الدولية بثّه لجمهورها، مصحوباً دائماً بمزاعم "إسرائيل" بأنّ المستشفى كان بمنزلة "القاعدة الرئيسية لعمليّات حماس" في القطاع".

في الحقيقة لم تكتشف أي قاعدة من هذا القبيل. إضافة إلى أنّ غرفة القيادة المعروضة في الفيديو ليست فريدةً من نوعها، وقد ظهرت بالفعل قبل أكثر من عام في فيديو رسوم متحركة آخر نشره "الجيش" الإسرائيلي عمّا زعم أنّه نفق تحت مدرسة تابعة للوكالة الأممية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في غزّة. كذلك في فيديو مستشفى الشفاء تظهر الشوارع المحيطة وهي تفيض بواجهات ثلاثية الأبعاد لمتاجر خيالية مثل "بيتزا فابيو"، و"مخبز أندريه"، و"متجر درّاجات الثورة.

هكذا أصبح فيديو الرسوم المتحركة عن مستشفى الشفاء أحد أكثر الأمثلة شهرة على استراتيجية الدعاية الحربية الجديدة الإسرائيلية، ومثّل بداية مرحلة متسارعة من الإنتاج داخل الوحدة المتحدثة باسم "الجيش" الإسرائيلي، حيث أصدرت الوحدة خلال العامين الماضيين العشرات من مقاطع الفيديو المماثلة التي تصور مواقع "إرهابية" مزعومة في غزة ولبنان وسوريا وإيران، بينما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 نشرت الوحدة عدداً قليلاً من الفيديوهات.

ومع مرور الوقت شكّلت هذه الفيديوهات أسلوبا بصرياً مميزاً، حيث عادةً ما تبدأ بصور الأقمار الاصطناعية، تليها انتقالات إلى صور ثلاثية الأبعاد التي غالباً ما تُقدم عرضاً بالأشعّة السينية لمشهد داخلي أو تحت الأرض، تتقاطع مع مشاهد حقيقية لطائرات مسيرة في أثناء تنفيذها الغارات والضربات والقصف.

مزيج هذه العناصر يولّد انطباعاً ببساطة واقعية. لكن بدلاً من كشف الحقائق المخفية كما يصرّ المسؤولون العسكريون الإسرائيليون، وكما تُضخمها وسائل الإعلام الدولية بسهولة، فإنّ الصور تشوّش الواقع.

وفي تحقيق استمرّ لعدّة أشهر أجراه موقع "972 بلس"، و"لوكال كول"، بالتعاون مع مجموعة الأبحاث "فيو فايندر"، و"الشبكة السويسرية"، والمنصة الاستقصائية الاسكتلندية "النمس"، وتمّ تحليل 43 فيديو أنتجها "الجيش" الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ووجد أنّ العديد منها يحتوي على أخطاء خطيرة متعلقة بمكان الصور المعروضة، فهي مصنعة مسبقاً، وغير مستمدّة من معلومات استخبارية، بل من مكتبات تجارية ومنشئي المحتوى والمؤسّسات الثقافية.

تُسلّط المقابلات مع الجنود الإسرائيليين المنخرطين في إنتاج هذه الفيديوهات مزيداً من الضوء على كيفية إعطاء "الجيش" الأولوية للقيمة الجمالية على حساب دقّتها، بينما يقوم مصممو الرسوم المتحركة بشكل روتيني بحرفها من أجل التأكيد أنّها تهديد مفترض.  والنتيجة هي حملة اتصالات تحاكي رسومات إعادة البناء الجنائية سعياً إلى إضفاء الشرعية على الضربات العسكرية على البنية التحتية المدنية. وبما أنّ معظم المواقع والأماكن التي تظهرها الرسوم المتحركة الإسرائيلية غير متاحة للصحافيين والباحثين، والعديد منها قد جرى تفجيره أو هدمه، ما يتيح للمزاعم الإسرائيلية المصورة أن تمنع عمليّاً أي تحقيق.

تبدو مثيرةً ومهنيةً

معظم فيديوهات الرسوم المتحركة الإسرائيلية، إن لم يكن كلّها، تُنتج داخلياً من قبل فريق متخصص ضمن فرع الإنتاج والإعلام التابع لوحدة المتحدث باسم "الجيش" الإسرائيلي، وهو يتألف من عدد قليل من الجنود. ويطلق عليها الأعضاء السابقون اسم "خلية بعد المؤثرات"، في إشارة إلى برنامج تصميم غرافيكس شهير أنشأته شركة "أدوب" الأميركية. ويتألف الفريق من مصمّمي حركة، ونماذج ثلاثية الأبعاد، ورسوم متحركة يستخدمون بشكل أساسي برامج "أدوب"، ولكنّهم يستخدمون أيضاً برامج مفتوحة المصدر مثل "بلايندر".

رسمياً، يتم اعتماد كل فيديو تنتجه الخلية للنشر من قبل ضابط استخبارات. لكنّ الفرق بين الرسم التوضيحي والأدلة غير واضح، حيث يتم ببساطة ملء التفاصيل الناقصة، وتجمع العناصر الجاهزة والديكورات الداخلية المعاد تدويرها بسرعة في مشهد متماسك، ثم تُرفع إلى المسؤولين للموافقة عليها.

أحد جنود الاحتياط الإسرائيليين من بين الذين خدموا في الوحدة خلال الحرب الحالية وافق على التحدث عن إنتاج هذه الفيديوهات شرط عدم الكشف عن هويته، أوضح أنّ الجنود "يجب عليهم توقيع اتفاقية سرّية، ثم يتلقون المعلومات، ويبدؤون في العمل. وأحياناً يتلقون نموذجاً ثلاثي الأبعاد قد أعدته الاستخبارات بالفعل، ويعملون بناء على هذا الأساس، ويُقال لهم، هذا هو المبنى، إليك صورة أو فيديو، في هذا الطابق وذاك هناك شيء ما، ثم ينشئون الرسوم المتحركة بناء على التلقين المسبق".

بينما نفى وجود ثقافة الكذب فيما يتعلق بالرسوم المتحركة للخلية، أوضح المصدر أن التزييف التجميلي أمر روتيني. وقال، "إذا أراد القائد إضافة المزيد من الآلات التي يمكن استخدامها لإنتاج الأسلحة، فسيضيفونها حتى تبدو الصورة أكثر قوة. ويُعتمد النموذج من قبل مسؤول استخباري، وهو ليس نموذجاً توضيحيّاً كاملاً، ولكن عندما تكون المعلومات مفقودة، أو لا يعرفون بالضبط ما سيكون موجوداً، ويكون الغرض منه إثبات شيء ما، فحينها يُوضّح".

وأضاف المصدر "عادة ما يعدّون النموذج قبل الغارة. وفي بعض الحالات، نظراً إلى عدم التخطيط المسبق، أو عدم إطلاع وحدة المتحدث باسم "الجيش" الإسرائيلي عن تنفيذ غارة جوية، اضطروا إلى إعداد النموذج لاحقا". كذلك يعتمد إنتاج هذه الفيديوهات على توجيه نحو الجمالية والسرعة أكثر من الدقة، حسب ما يكشف أحد رسامي الرسوم المتحركة السابقين في الوحدة المذكورة ويقول، "بعض النماذج الفيديوهات يصنعها "الجيش"، بينما تؤخذ نماذج أخرى من أماكن أخرى لعدم أهميتها الاستخبارية، إن كانت تفي بالغرض".

وقال جندي احتياطي خدم خلال الأشهر الأولى من الحرب في وحدة معنية بالتواصل مع الجهات الدولية، "تبدو النماذج جذابة واحترافية، ومن الواضح أنّ الشخص العادي لا يتعمق في التفاصيل، وهذه الفيديوهات والرسوم تجعل "الجيش" الإسرائيلي يبدو أكثر احترافية، كشركة تكنولوجيا متقدمة بمخططات وتقنيات متطورة. لذلك، كلما كانت لدينا، كنّا نعرضها لشرح سبب قيام الجيش بعمل ما".

مع ذلك بدا هذا المصدر مُتشكّكاً بشأن النتائج، ويقول، "لطالما اعتقدت أنّ الفيديوهات بدائية جداً، ولم أجدها مقنعة أبداً. وأنا متأكّد من أنّ معظم الجهات الدولية الفاعلة لم تكن دائماً مقتنعة بأنّ المعلومات الاستخبارية التي قدّمناها، تبرر قتل أعداد كبيرة من المدنيين أو تدمير مستشفى".

من موقف سيارات بورت أورتشارد إلى برج سكني شاهق الارتفاع في مدينة غزّة، يُقدّم "الجيش" الإسرائيلي هذه الفيديوهات على أنّها رسوم توضيحية مستمدة من معلومات استخبارية. لكن في الواقع، فإنّ العديد من البيئات التي تُصوَّر مستعارة، جزئياً على الأقل، من فنانين لا صلة لهم بساحات القتال.

وقد أظهر تحليلنا لرسومات "الجيش" الإسرائيلي المتحركة أنّ أكثر من نصفها احتوى على مواد ثلاثية الأبعاد مأخوذة من مصادر خارجية. وتم تحديد أكثر من 50 مادة مختلفة من مصادر خارجية، والتي نُسخت مئات المرات عبر تلك الفيديوهات لمواقع جغرافية من غزّة إلى إيران، أو موقف سيارات من ولاية واشنطن، وصور ممسوحة ضوئياً من ورشة بناء قوارب في اسكتلندا، ومجموعات واجهات متاجر تجارية من صناعة ألعاب الفيديو، كل هذه العناصر أدرجت، من دون الإشارة إلى مصدرها، في رسوم متحركة قُدمت على أنها "رسوم توضيحية" لمخابئ حركة "حماس" أو منشآت الأسلحة الإيرانية.

كذلك حصل "الجيش" على العديد من هذه النماذج ثلاثية الأبعاد من الأسواق الإلكترونية للأصول الرقمية، مثل "كيت باش ثري دي"، حيث يتم بيع حزمة أصول كاملة من المواقع العسكرية أو واجهات المتاجر بحوالي 100 إلى 200 دولار، ومن شركة "سكيتش فاب"، حيث تتوفر أصول وتراخيص مجانية. كما تم الحصول على أعمال أخرى من فنانين ثلاثيي الأبعاد مثل إيان هوبرت، الذي يشارك أعماله مع مشتركين مدفوعين في مواقع مثل "باتريون"، حيث أنتج منشئ المحتوى الأميركي المعروف مُسوحات ضوئيةً لأعمدة الكهرباء ومواقف السيارات وزوايا الشوارع في مسقط رأسه بورت أورشارد في واشنطن، إلى جانب رسومات لأنابيب وهوائيات صمّمها من الصفر وجميعها متاحة للمشتركين في موقع "باتريون" مقابل حوالى 7 دولارات شهرياً، وهم يظهرونها الآن في الرسوم المتحركة التي بثها "الجيش" الإسرائيلي لأبراج شاهقة في غزة، وأنفاق في بيروت، ومواقع نووية في إيران.

ولقد استخدم "الجيش" الإسرائيلي أيضا موارد ثلاثية الأبعاد تعود للمتحف البحري الاسكتلندي على الإنترنت بموجب رخصة المشاع الإبداعي غير المقيدة. وقد حددت طاولات عمل وخزائن وصندوق كهرباء رفعت كجزء من مشروع تصوير فوتوغرافي متعلق بورشة بناء قوارب عام 2019، وعرضها "الجيش" الإسرائيلي في رسوم متحركة على أنّها مصانع صواريخ تحت الأرض في سوريا وإيران.

وقد أفاد المتحف البحري الاسكتلندي، رداً على تحقيقنا، أنّه بمجرد تحميله نماذج رقمية مصورة على الإنترنت لأغراض مثل الحفظ والبحث، "لا يملك المتحف أي سيطرة على كيفية الوصول إلى البيانات أو تنزيلها أو استخدامها لاحقاً. وفي بعض الحالات، يتجاوز "الرسم التوضيحي" حدود الواقع، إذ تستبدل بيئات مصنعة بأماكن حقيقية. في أيلول/ سبتمبر 2024، نشر "الجيش" رسماً متحركاً يصور منازل في جنوب لبنان، وزعم أنّها تخفي صواريخ. وقد حدد تحقيقنا أنّ المنطقة التي يؤشر عليها الفيديو من صورة الأقمار الاصطناعية هي أطراف قرية ياطر. لكن كشفت زيارة للقرية في الأسبوع الماضي عن عدم وجود مثل هذه المباني أو الشوارع في هذه المنطقة، وليس بسبب تدميرها من قبل "الجيش" الإسرائيلي، الذي لم يقصف سوى عدد قليل من المواقع في قرية ياطر.

وفي الواقع، المنازل الظاهرة في الفيديو مصنّعة بالكامل، وتحتوي على هوائيات مستمدة من ثلاثة نماذج فريدة على الأقل من حزمة أدوات " مجموعة الهوائيات" الخاصة بهيوبرت، والتي نُشرت على موقعه "باتريون" في العام 2021. كذلك، نشر "الجيش" الإسرائيلي نموذجا ثلاثي الأبعاد مشابهاً في بداية هجومه على إيران في حزيران/ يونيو الماضي، حيث يُصور موقع تخصيب اليورانيوم في نطنز. ومع اندفاع وسائل الإعلام الدولية لتغطية الحدث، أعاد العشرات من المواقع الإعلامية وغيرها نشر الرسوم المتحركة جزئياً أو كلياً، من ضمنهم "بي بي سي"، و"سي إن إن"، و"سكاي نيوز". 

ويتضمن الفيديو الجزء الداخلي للمنشأة في الرسوم المتحركة معظمها من أصول هوبرت ثلاثية الأبعاد، والتي نسخت مجتمعة أكثر من 150 مرة. ومؤخّراً، نشر "الجيش" رسوماً متحركة ثلاثية الأبعاد تصور الجزء الداخلي من برج مشتهى في مدينة غزّة بعد وقت قصير من قصفه في أوائل أيلول/ سبتمبر الماضي كجزء من التدمير المنهجي للمباني الشاهقة في المدينة. وقد احتوى الرسم المتحرك على العديد من المواد من جهات خارجية، بما في ذلك جزء من مسح ثلاثي الأبعاد لورشة بناء القوارب في المتحف البحري الاسكتلندي، إضافة إلى مواد إضافية من منصة "باتريون" التابعة لهيوبرت، كنموذج عداد كهربائي من بورت أورشارد، و3 مسوحات ضوئية منفصلة لمواقف السيارات على ما يبدو من ولاية واشنطن أيضاً.

يبتعد الجزء الأخير من الفيديو عن برج مشتهى كي يُظهر مساحة أوسع من مدينة غزّة وعمارتها الحضرية، ويستخدم طبقة أساسية من صورة أقمار اصطناعية من العام الماضي، يمكن تمييزها من خلال نقش نجمة داوود في تربة ساحة الكتيبة الخضراء المجاورة بواسطة جندي يستخدم جرافة كاتربيلر. وبالتأكيد بحلول وقت نشر الرسوم المتحركة في الشهر الماضي، كان الحي قد دُمّر بفعل الغارات الجوية والذخائر المتفجرة. ومع ذلك، يُظهر الرسم التوضيحي ثلاثي الأبعاد للجيش مشهداً حضرياً لما قبل العام 2023، حيث لا تزال معظم المباني المحيطة بالبرج قائمة، لإخفاء حجم الدمار المستمر.

نزع الشرعية والارتباك

تكمن قوة هذه الرسوم المتحركة في كيفية انتشارها بالتزامن مع الرسائل العامة الإسرائيلية، حيث أحياناً تُستخدم بعد الغارة، أو قبلها مباشرةً، وغالباً للإشارة استباقياً إلى احتمال استهداف منطقة ما. وعادة ما ينشر المقطع عبر قنوات "الجيش" في منصات "تيليغرام"، و"يوتيوب"، و"فيسبوك"، و"إكس"، و"إنستغرام"، وقد يصاحبه مؤتمر صحافي للمتحدث باسم "الجيش" الإسرائيلي.

وفي مواجهة التطورات العاجلة ونقص الصور الموثّقة، تلجأ وسائل الإعلام الدولية حتماً إلى استخدام هذه الصور الجاهزة، وفي كثير من الأحيان تُضخّمها من دون تمحيص. فهي تملأ وقت البث، وتوحي بأنها عمليات معقدة، وتعطي انطباعا بمعرفة من الداخل.

وتحتوي جميع الرسوم المتحركة التي ينشرها "الجيش" الإسرائيلي على كلمة "رسوم توضيحية" في الزاوية السفلية. إلا أنّ معنى هذه العلامة مبهم عمداً، حيث تتناول وسائل الإعلام هذا التوصيف بطرق مختلفة، فبعضها يُشدّد على التشكيك بصحته، بينما تتجاهل وسائل أخرى الأمر تماما. وفي بيان يرد على هذا التحقيق، قالت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، نحن نستخدم رسومات من جهات خارجية مع نسبها للمصدر. و"في هذه الحالة أوضحنا أنّ الرسوم المتحركة صادرة عن الجيش الإسرائيلي".

في مقطع فيديو باللغة العبرية نُشر على حساب "الجيش" في تطبيق "تيك توك" بعد هجوم حزيران/ يونيو الماضي على إيران، يصف جنود الوحدة عملهم لمدة شهر تقريباً تحت ما يسمونه "كتيبة رئيس الوزراء" لإنتاج رسوم توضيحية لتبرير الغارات الجوية، حيث استدعي عالم نووي لشرح كيفية عمل أجهزة الطرد المركزي حتى يتمكّن الرسامون من إعادة إنتاجها بتقنية ثلاثية الأبعاد. وبحلول وقت إصدار أمر الضربة، كانت الرسوم المتحركة قد اكتملت بالفعل.

يوضح أحد الجنود، "قالوا لنا ببساطة، من المرجح أن يكون هناك هجوم على إيران، وعلينا أن نكون مستعدين، وأنتم مسؤولون عن إعداد رسائل الفيديو. بسطوا كل شيء، ما الذي سيحدث، من سيهاجم، من الذي يهاجم، ولماذا".

يروي جندي آخر، "عبر تيك توك كنّا نتصرف بسرّية تامة كل يوم كما لو أنّ الهجوم سيحدث غداً. وعندما أخبرونا أخيراً، 'سنهاجم إيران اليوم، أدركنا حجم الأمر. وبعد 30 ساعة، انتشرت منتجاتنا في كل مكان، ترجمنا كل شيء إلى لغات مختلفة، وبثّت شبكة سي إن إن وغيرها من القنوات المؤثرة في الولايات المتحدة ما صنعناه.

وقد قارن الخبراء بين جماليات حملة الرسوم المتحركة الناشئة للجيش ومجالات التحقيقات البصرية والمفتوحة المصدر، والتي أصبحت تحظى بشعبية متزايدة لتغطية المناطق التي قد يكون من الصعب فيها إعداد التقارير التقليدية. تقول إليزابيث برينر رئيسة البرامج في مركز أبحاث الهندسة المعمارية الجنائية بجامعة غولدسميث في لندن، "أعتقد أن المصطلحات البصرية للتحقيقات مفتوحة المصدر قد استغلها الإسرائيليون كوسيلة لنزع الشرعية عنها وإرباكها". كما أنّ هذه الصور تعلن صراحة عن وضعها كشيء بين الواقع والخيال، لكنّ الضرر الحقيقي يكمن في أنّها تلتصق بذاكرة الناس إلى ما بعد المرحلة التي قد يكون قد دُحض فيها كل شيء ما بعدها عملياً".

يقول إياد عليان الأكاديمي الفلسطيني في جامعة روبرت غوردون الاسكتلندية والمتخصص في الذكاء الاصطناعي والنمذجة ثلاثية الأبعاد، إنّه "منزعج بشدة" لمعرفة أنّ "إسرائيل" تستخدم موارد اسكتلندية في أفلامها الدعائية المتحركة. وأضاف، "هذا يتماشى مع تاريخها الطويل وجيشها، في استغلال موارد الآخرين واستخدام كل الوسائل الممكنة لترويج مزاعم لا أساس لها".

لكنّ ما يثير القلق على نحو خاص هو كيف تقبل وسائل الإعلام الرئيسية بتقديم هذا المحتوى الملفّق من دون فحص، وتضخّمه، بينما جزء كبير من هذه المواد أكاذيب صريحة، مثل الرسوم المتحركة التي انتشرت على نطاق واسع والتي تزعم أنّ "حماس" تدير مركز قيادة تحت مستشفى الشفاء، حيث لم يعثر على أي منشأة من هذا القبيل، ولكنّ هذا الادعاء استخدم لتدمير نظام الرعاية الصحية بأكمله تقريبا في غزّة.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.