"نيويورك تايمز": لا تستهينوا بقدرة "داعش"

إنّ هجوم نيو أورليانز بمثابة تذكير قاتم بأنّ الخلافة الرقمية لتنظيم "داعش"، لا تزال قادرة على تحويل الأزمات الشخصية إلى مأساة عامّة.

0:00
  • هجوم نيو اورليانز
    هجوم نيو أورليانز

صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر مقال رأي للكاتبة والباحثة جيسيكا ستيرن، ومؤلفة كتاب "داعش: دولة الإرهاب"، تحدّثت فيه عن وجود خلايا فعّالة لتنظيم "داعش" في العالم، تنشط حيث تكون هناك أرضيّة خصبة.

 

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في ليلة احتفالات رأس السنة الجديدة، قام جنديّ أميركي سابق من الساخطين والمثقلين بالديون بقيادة سيارة بسرعة صادماً حشداً من المحتفلين في ولاية نيو أورليانز، ممّا أسفر عن مقتل 14 شخصاً وإصابة 35 آخرين. وقبل أن يقوم المعتدي بهجومه بقليل أعلن عن انضمامه لتنظيم "داعش" الإرهابي، الذي سيطر فيما مضى على منطقة جغرافية واسعة في الشرق الأوسط بحجم بريطانيا.

في البداية كان تنظيم "داعش" يسوّق لنفسه على أنّه "جهاد 5 نجوم"، حيث الوعود للمجنّدين بمزيج متناقض من الأصولية الدينية والمكافآت المادّية، من السكن المجّاني إلى هوية جديدة برّاقة إلى الوصول إلى الكثير من الزوجات. فالمنظّمة الإرهابية كانت الأكثر ثراء في التاريخ بين أمثالها.

وبينما اختفت "خلافة داعش"، فلا يزال التنظيم يحتفظ بخلايا وفروع منتشرة في جميع أنحاء أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأفغانستان وسوريا، ويحافظ على حضور نشط على الإنترنت. ومع سقوط النظام في سوريا مؤخّراً، أصبح التوجّس والقلق يشكّل تحدّياً من تهديد عودة ظهور "داعش" هناك مجدّداً، في حين أعلن فرع "ولاية خراسان" للتنظيم عن مسؤوليته عن الهجوم الكبير في روسيا العام الماضي، ويعتقد أنّ هذا الفرع يقف وراء هجوم آخر وقع في إيران.

 لكنّ الوعود الطوباوية التي أغدقها التنظيم على مناصريه لم تعد موجودة. مع ذلك ما زالت أيديولوجية "داعش" المتطرّفة تروق البعض، بينما ترفضها غالبية المسلمين في العالم.

على مدى 20 عاماً درستُ قضية المجنّدين الغربيين الذين يلتحقون بالمنظّمات الإرهابية المحلّية أو العابرة للحدود الوطنية. وقد أجريت مقابلات مع "الجهاديين" والإرهابيين القوميّين البيض المحلّيين لفهم دوافعهم ومحاولة لكبح جماح العنف في المستقبل. واستنتجت أنّ الجاذبية الأكثر أهمية التي قدّمها تنظيم "داعش" للملتحقين به من الغربيين الضعفاء والمرتبكين، هو اليقين العقائدي، والهوية، والخطاب الحماسي العاطفي حول الفداء والانتقام المؤثّرة دائماً والتي يستمرّ صداها هذا بين الذين يمكن العثور عليهم عبر الإنترنت لتجنيدهم.

يعيش معظم الناس في مجتمعنا، في حالة من الارتباك الروحي وعدم اليقين. ونادراً ما نحظى بالاختيار بين الخير والشرّ، ولكننا غالباً ما نواجه خياراً محبطاً بين الأفعال التي تؤدّي إلى عواقب أفضل أو أسوأ قليلاً. والمكافآت على السلوك الجيّد غالباً ما تكون عابرة، والعقاب على القرارات السيّئة هو في الغالب من صنعنا.

وبالنسبة للبعض، قدّم تنظيم "داعش" بديلاً مغرياً لكلّ ذلك، هو اليقين الأخلاقي، المدعوم بالتطبيق الوحشي. ففي الفترة من عام 2013 إلى عام 2019، قتل تنظيم "داعش" ما يقدّر بنحو 53 ألف شخص في هجمات شنّها في العراق وسوريا، حيث التحق به نحو 10 آلاف مقاتل من 80 دولة في مناطق سيطرته، ليكونوا من ضمن ما روّجته الجماعة عن أرض الدولة الإسلامية المثالية. وتشير التقديرات إلى أنّ نحو 300 شخص من الولايات المتّحدة إمّا شقّوا طريقهم إلى الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" أو حاولوا ذلك. كما اشتهر بعض المقاتلين الأجانب بارتكاب أسوأ الفظائع التي ارتكبتها الجماعة.

وبالنسبة للمتعاطفين غير القادرين على الهجرة إلى أرض التنظيم، دعاهم آنذاك المتحدّث الرئيسي باسم "داعش" أبو محمد العدناني، في جميع أنحاء العالم إلى مهاجمة "الكفّار" في أوطانهم. وفي خطاب آخر ألقاه في العام 2014 قال العدناني، إنّه إذا لم تتمكّن من قصف العدوّ الكافر أو إطلاق النار عليه، "فاسحق رأسه بحجر، أو اذبحه بسكّين، أو أدهسه بسيّارتك". وبالفعل بدأ المتعاطفون مع التنظيم في تنفيذ مثل هذه الهجمات بالسيّارات، بما في ذلك هجوم بشاحنة في نيس بفرنسا في عام 2016، والذي أسفر عن مقتل 86 شخصاً وإصابة 450 آخرين. وتبع ذلك العديد من الهجمات الأخرى.

في الساعات القليلة الماضية قبل هجومه الانتحاري في نيو أورليانز، نشر المهاجم شمس الدين جبار، مخطّطه الإجرامي على منصة فيسبوك الاجتماعية. ولعلّ التسجيل الأكثر دلالة كان اعترافه بأنّه فكّر في إيذاء عائلته، وقال لهم "لا أريدكم أن تعتقدوا أنّني أنقذتكم طوعاً". ولكنّ السيّد جبار كان قلقاً على ما يبدو من أنّهُ إذا آذى عائلته فقط، فقد لا تركّز عناوين الأخبار على "الحرب بين المؤمنين والكافرين" التي يعتقد أنّها جارية الآن.

خلال دراستي، وجدت أنّ الإرهابيين الذين يجنّدون أنفسهم والذين يعملون بمفردهم غالباً ما يكون دافعهم المظالم الشخصية التي تعرّضوا لها، بقدر ما هو دافعهم إلى المثل العليا التي يزعمونها. ويقول العديد من المتطرّفين العنيفين السابقين إنّ الضائقة الاجتماعية والعاطفية الكامنة كانت عاملاً قويّاً في تجنيدهم مثل التمسّك بالأفكار والعقائد المتطرّفة. وذكر معظمهم أنّ لديهم تاريخاً من مشكلات الصحّة العقلية، مثل الاكتئاب، والأفكار الانتحارية تجول في خواطرهم. كذلك أنّ أغلب الأشخاص الذين يعانون أزمة نفسيّة لا يتحوّلون إلى إرهابيين منفردين. ولكن هناك في كثير من الأحيان قدر كبير من الضيق لدى الأفراد الذين ينفّذون الهجمات بمفردهم لدرجة أنّه من المعقول، أن نفكّر في الإرهاب المنفرد باعتباره جريمة يأس.

لا يوجد مسار واحد للتطرّف العنيف، ولكنّ العديد من عوامل الخطر التي لاحظتها في بحثي تبدو وكأنّها تنطبق على مهاجم نيو أورليانز، فهو كان من المحاربين القدامى الذين بدا أنّهم يواجهون صعوبة في التكيّف مع الحياة المدنية. كان مطلّقاً للمرّة الثالثة، ولديه مشكلات مع القانون. ربّما كان يعاني ضائقة شديدة بسبب أعبائه المالية. ويبدو أنّ الانتقام من عائلته والعالم الذي خيّب أمله كان جزءاً كبيراً من دوافعه الأساسية، لذلك وفّر له ولاؤه لتنظيم "داعش" بريقاً روحيّاً منحرفاً.

كانت الجاذبية المستمرّة لتنظيم "داعش" في أميركا واضحة في سلسلة مزعجة من المؤامرات المزعومة. وفي الشهر الماضي اعتُقل رجل أفغاني في أوكلاهوما بتهمة التآمر لارتكاب هجوم في يوم الانتخابات. كذلك حذّر مكتب التحقيقات الفيدرالي والمركز الوطني لمكافحة الإرهاب ووزارة الأمن الداخلي أجهزة إنفاذ القانون من أنّ الرسائل المؤيّدة لتنظيم "داعش" تدعو إلى شنّ هجمات في أماكن التجمّعات الكبيرة خلال الأعياد، مشيرين إلى الاستخدام السابق للمركبات لصدم الضحايا.

بعد سنوات ذروته أظهر تنظيم "داعش" قدرة ملحوظة على التكيّف كمنظّمة، تستطيع إيجاد طرق النموّ والقوّّة. وبعد هزيمته الإقليمية في عام 2019، تحوّلت الاستراتيجية العسكرية الأميركية المعلنة من مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط إلى ساحات التنافس مع خصومها الدوليين ولا سيّما الصين وروسيا. لكنّ الظروف الأساسية التي مكّنت "داعش" من الصعود في المنطقة لا تزال قائمة، ولا تزال الدول ضعيفة والحكومات غير مستقرّة، وعدد العاطلين عن العمل بتزايد مستمرّ، إلى جانب الصراعات الدينية والعرقية، وكلّ ذلك يولّد أرضاً خصبة للتطرّف.

لا يوجد حلّ واحد لمنع الهجمات الإرهابية. ولكن يمكن اتّخاذ إجراءات للحدّ من تأثيرها، وكذلك تواترها. في حالات مثل نيو أورليانز، الوقاية أمر بالغ الأهمّية.

غالباً ما يسرّب مرتكبو العنف المستهدف نواياهم مسبقاً للعائلة والأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي وحتّى للسلطات، ممّا يخلق الفرصة للمجتمعات للتدخّل لمساعدة الأشخاص المعرّضين للخطر.

إنّ هجوم نيو أورليانز بمثابة تذكير قاتم بأنّ (الخلافة الرقمية) لتنظيم "داعش"، لا تزال قادرة على تحويل الأزمات الشخصية إلى مأساة عامّة. والحقيقة المؤلمة أنّ العديد من الناس ما زالوا عرضة لمسار مماثل من التطرّف.

نقله إلى العربية: حسين قطايا