"Counterpunch": لماذا لن تخضع غزّة لـ"إسرائيل" أبداً؟

لم تُحتلّ غزّة قطّ، ولن تُحتلّ أبداً. وبموجب مبادئ القانون الدولي تظلّ أرضاً محتلّة، بغضّ النظر عن أيّ انسحاب نهائي للقوات الإسرائيلية إلى "الحدود".

0:00
  • "Counterpunch": لماذا لن تخضع غزّة لـ"إسرائيل" أبداً؟

موقع "Counterpunch" ينشر مقالاً يناقش بشكل تحليلي وسياسي وقانوني وضع قطاع غزة من حيث كونه أرضاً محتلة، رغم انسحاب "الجيش" الإسرائيلي منه عام 2005. 

ويقول إنّ غزة ليست محتلة وخاضعة في الواقع، لكنها  محتلة من الناحية القانونية، وستظل كذلك ما دامت "إسرائيل" تمارس السيطرة المباشرة أو غير المباشرة عليها، غير أنّ المقاومة الفلسطينية قادرة على تغيير المعادلة بالكامل.

أدناه نصّ المقال منقولاً إلى العربية:

إنّ غزو مكان ما يتمظهر في عملية إخضاع سكانه بالكامل، وهو أمر مختلف عن "الاحتلال" كمصطلح قانوني يحكم العلاقة بين قوّة المحتل الأجنبية، والدولة التي احتُلّت، ضمن اتّفاقية جنيف الرابعة الدولية.

وعندما اضطرت القوات الإسرائيلية إلى إعادة الانتشار والانسحاب من داخل قطاع غزّة في عام 2005، كنتيجة مباشرة للمقاومة المستمرة للسكّان الفلسطينيين، أصرّت الأمم المتحدة بحزم على أنّ يظل قطاع غزّة أرضاً محتلّة بموجب القانون الدولي، في موقف يتناقض بشكل صارخ مع موقف "إسرائيل"، التي ألفت نصوصها القانونية الخاصة، وصنّفت غزة على أنّها "كيان معاد"، وبالتّالي ليست أرضاً محتلّة.

ولإيضاح هذا اللبس في المفاهيم والتعريفات، لا بدّ من الخوض في السياق التاريخي لاحتلال "إسرائيل" لغزّة في العام 1967، وعدم قدرتها على الحفاظ على احتلالها العسكري للقطاع وانسحابها تحت مواظبة ضربات المقاومة الفلسطينية، التي جعلت من المستحيل على "إسرائيل" تطبيع احتلالها العسكري، والأهمّ من ذلك أن تجعله مربحاً، على عكس المستوطنات غير القانونية في القدس الشرقية والضفّة الغربية.

بعد عام 1967، بدأت "إسرائيل" الاستثمار في بناء كتل استيطانية غير قانونية في القطاع، وسعى "جيشها" بقيادة أرييل شارون بلا هوادة لقمع الفلسطينيين، واستخدم العنف الشديد والدمار الشامل والتطهير العرقي لإخضاع القطاع، لكنّه فشل في تحقيق أهدافه النهائية والشاملة المتمثّلة في الهزيمة الكاملة للفلسطينيين.

بعد ذلك، استثمر شارون في خطّته السيّئة السمعة "5 أصابع"، التي فشلت وقتئذ، والتي كانت تقتضي أنّ السبيل الوحيد لهزيمة سكّان غزّة هو قطع التواصل بين مدن  القطاع ونواحيه، ما يؤدّي إلى إعاقة المقاومة المنظّمة.

وفي سعيه لتحقيق هذا الهدف في تقسيم غزّة إلى ما يسمّى بالمناطق الأمنية، حيث سيتمّ بناء المستوطنات اليهودية الرئيسية، محصّنة بالحشد العسكري الضخم، مع سيطرة عسكرية إسرائيلية على الطرق الرئيسية ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى الساحل.

لكنّ هذه الخطّة لم تتحقّق، لأنّ إنشاء هذه "الأصابع" تطلب تهدئة الفلسطينيين على جانبي "المناطق الأمنية"، وهو شرط لم ينجح في الواقع الميداني أبداً. وكلّ ما حدث هو بناء كتل استيطانية معزولة أكبرها في جنوب غرب القطاع المعروفة باسم "غوش قطيف"، بالقرب من الحدود مع مصر، تليها المستوطنات الشمالية، وأخيراً مستوطنة "نتساريم" المركزية.

كانت هذه المستوطنات المزعومة التي تضم بضعة آلاف من المستوطنين، غالباً ما تتطلّب وجود عدد أكبر بكثير من الجنود المكلّفين بحمايتهم، وبناء مدن عسكرية محصّنة. ونظراً لجغرافيا غزّة المحدودة (365 كيلومتراً مربّعاً)، والمقاومة الشديدة للفلسطينيين، لم تتح للمستوطنات إلّا مساحة محدودة للتوسّع، وبالتّالي واجهت الجهود الاستعمارية الفشل ودفع تكاليف باهظة.

وحين أخلى "الجيش" الإسرائيلي آخر مستوطنة غير شرعية في غزّة عام 2005، تسلّل الجنود إلى خارج القطاع في منتصف الليل. وتبعهم آلاف الغزيّين الذين طاردوهم حتّى فرّ آخرهم في مشهدية قوية درامياً وفريدة، وكافية وحدها لتسمح بيقين لا يتزعزع أنّ غزّة لم تخضع في أيّ لحظة لسيطرة "إسرائيل" فعلاً.

وعلى الرغم من أنّ "إسرائيل" سحبت وجودها العسكري الدائم من المراكز السكانية الرئيسية في القطاع، فإنّها استمرّت في العمل داخل ما يسمّى المناطق العازلة، التي غالباً ما كانت توغّلات كبيرة في الأراضي الفلسطينية، بعيداً من خطّ الهدنة. كما فرضت حصاراً محكماً على غزّة، وهو ما يفسّر بشكل واضح مأساة غالبية سكّان غزّة المحرومين من أن تخطو أقدامهم خطوة إلى الخارج.

كما أنّ سيطرة "إسرائيل" على المجال الجوّي والمياه الإقليمية والموارد الطبيعية من ضمنها حقول الغاز على الشاطئ الفلسطيني، سهّلت من مهمّة الأمم المتحدة وقادتها إلى استنتاجها الفوري، بأنّ غزّة لا تزال أرضاً محتلّة.

لا تثير الدهشة معارضة "إسرائيل" بشدّة هذا الواقع، إذ إن رغبتها الحقيقية هي السيطرة المطلقة على غزّة، مبرّرة ذلك من خلال تصنيف القطاع بأنّه معاد دائم. وبهذا المنطق الملتوي، يبرر "الجيش" الإسرائيلي بذريعة قابلة للاستغلال بشكل لا نهائي لبدء حروب مدمّرة ضدّ القطاع المحاصر والفقير أصلاً كلّما رأى ذلك مناسباً له.

وهذه الممارسة الوحشية المخيفة معروفة في المعجم العسكري الإسرائيلي باسم "جز العشب"، وهو تعبير ملطف لا إنساني، يتعمّد تدهور القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية دوريّاً، في محاولة لضمان ألّا تتمكّن غزّة أبداً من تحدّي سَجّانِيها الإِسْرائِيلِيِّينَ بِشَكْلٍ فَعّال، أو التحرّر من سجنها في الهواء الطلق.

لقد أنهت عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، تلك الأسطورة عن القوة العسكرية الإسرائيلية التي "لا تهزم"، حين استولى مقاومو القطاع على ما يسمى بمنطقة غلاف غزة بساعات (المنطقة التي كانت مقرّ القيادة الجنوبية لشارون)، ونظّموا في ظلّ أقسى الظروف الاقتصادية والعسكرية، وأعدّوا لهزيمة "إسرائيل" في تحوّل ميداني صادم لم يكن متوقّعاً.

وبينما يعترف الفلسطينيون بتصنيف الأمم المتحدة لغزّة كأرض محتلّة، لكنّهم احتفلوا بتحريرها في عام 2005، باعتبار أنّ إعادة انتشار "الجيش" الإسرائيلي على أسوار القطاع كانت نتيجة مباشرة لمقاومتهم. كما هي محاولات "إسرائيل" الحالية لهزيمة الفلسطينيين في غزّة، تفشل لهذا السبب الأساسي المتجذّر في تاريخ النضال الفلسطيني.

وحين انسحبت القوّات الإسرائيلية خلسة من القطاع قبل عقدين من الزمن تحت جنح الليل، كان مقاتلو المقاومة الفلسطينية يمتلكون أسلحة بدائية، أقرب إلى الألعاب النارية من الأدوات العسكرية الفعّالة.

لقد تغيّر مشهد المقاومة بشكل جذريّ منذ ذلك الحين، وانقلب هذا الواقع الطويل الأمد رأساً على عقب في الأشهر الأخيرة، إذ تشير كلّ التقديرات الإسرائيلية إلى أنّ عشرات الآلاف من الجنود قتلوا أو جرحوا أو أصيبوا بإعاقات نفسية منذ بداية الحرب على غزّة. وبما أنّ "إسرائيل" فشلت في إخضاع سكّان القطاع على مدار عقدين بلا هوادة، فليس من غير المحتمل فحسب، بل من السخف الصريح توقّع أن ينجح الاحتلال الآن في إخضاع غزّة والسيطرة عليها.

كذلك تدرك "إسرائيل" تماماً هذه المفارقة المتأصّلة، ومن هنا خيارها الفوري والوحشي، في ارتكاب إبادة جماعية، وهو عمل مروّع يهدف إلى تمهيد الطريق للتطهير العرقي للناجين المتبقّين. لقد تمّ تحقيق الأوّل بكفاءة عالية ووصمة عار لضمير عالم وقف مكتوف الأيدي إلى حدّ كبير. ومع ذلك، لا يزال الهدف الثاني خيالاً غير قابل للتحقيق، ومبنياً على فكرة وهمية مفادها أن سكّان غزّة سيختارون عن طيب خاطر التخلّي عن وطن أجدادهم.

لم تحتلّ غزّة قطّ، ولن تحتلّ أبداً. وبموجب مبادئ القانون الدولي تظلّ أرضاً محتلّة، بغضّ النظر عن أيّ انسحاب نهائي للقوات الإسرائيلية إلى "الحدود"، وهو الانسحاب الذي لا يمكن لحرب نتنياهو المدمّرة وغير المجدية أن تؤجّله إلى أجل غير محدّد. وعندما تحدث إعادة الانتشار الحتمية هذه، ستتغيّر العلاقة بين غزّة و"إسرائيل" بشكل لا رجعة فيه، حيث الحيوية الدائمة والروح الكفاحية للشعب الفلسطيني الذي لا يقهر.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.