"Responsible Statecraft": طريق "أميركا أولاً" وقضايا غرينلاند وتايوان وقناة بنما
تايوان، وغرينلاند، وقناة بنما، ساحات تنافس جيوسياسية بين الدول على الموارد، وطرق التجارة والشحن، والهيمنة السياسية والعسكرية، وأصبحت محور تركيز ترامب مؤخّراً.
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً للكاتبة جوانا روزبيدوفسكي، تتحدّث فيه عن أهمية تايوان، وغرينلاند، وقناة بنما، كساحات تنافس جيوسياسية بين الدول، وكيف أصبحت محور اهتمام الرئيس الأميركي مؤخّراً.
أدناه نصّ المقال منقولاً إلى العربية:
بينما يستعدّ دونالد ترامب لدخول البيت الأبيض في الـ 20 من الشهر الجاري، بدأت إدارته بالفعل إعادة تقييم أولويّات السياسة الخارجية للولايات المتّحدة، ومعايرة أهدافها الوطنية والاستراتيجية الأوسع نطاقاً. ويرحّب دعاة الواقعية وضبط النفس بتشديد ترامب على السياسة الخارجية التي تعطي الأولوية للبراغماتية و"السلام من خلال القوّة" على الأخلاق الأيديولوجية، في حين يخشى الليبراليون من آثار سياسة "أميركا أولاً" على التحالفات المتعدّدة الأطراف.
ومع ذلك، يدرك كلا الجانبين الحاجة إلى تحوّل حكيم من المغامرات المعوّقة والشلل الفكري، إلى رؤية جريئة للسياسة الخارجية للولايات المتّحدة على جميع مسارح المنافسة المحتملة.
ومن بين مجموعة من النقاط الأمنية الساخنة العالمية، برزت 3 مواقع متفرّقة هي تايوان، وغرينلاند، وقناة بنما، كساحات تنافس جيوسياسية جادّة بين الدول على الموارد، وطرق التجارة والشحن، والهيمنة السياسية والعسكرية، لتصبح محور التركيز مؤخّراً في معظم المنشورات الصاخبة للرئيس المنتخب دونالد ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من تباعد هذه البلدان الجغرافي عن بعضها، ثمّة قاسم المشترك بينها بالنسبة للولايات المتّحدة هو الصين، التي تسرّع وتيرة أكثر عزماً لإزاحة الهيمنة السياسية الأميركية وتحدّي نفوذها الاقتصادي وتفوّقها العسكري. وكلّ هذه الدول بمثابة اختبارات لنهج السياسة الخارجية التي يزعم ترامب أنّه يريد اتّباعها.
تقع تايوان في قلب منطقة المحيطين الهندي والهادئ القيّمة للتجارة العالمية والأمن الدولي. ولا تكمن أهمّيتها الاستراتيجية في دورها كضابط ضدّ التوسّع الصيني فحسب، بل أيضاً كعقدة مهمّة في سلسلة التوريد العالمية لأشباه الموصلات المستخدمة لصنع الرقائق الدقيقة الخاصّة بالنظم العسكرية المتقدّمة للولايات المتّحدة وحلفائها. ونظراً لنفوذها الاقتصادي الكبير النابع من ثروتها من هذه الصناعة، قال ترامب في مقابلة أجراها مع صحيفة "واشنطن بوست" منذ أشهر قليلة، إنّ تايوان يجب أن تزيد إنفاقها الدفاعي من 2.6%، إلى 10% من الناتج المحلّي الإجمالي. لكن، الجزيرة متردّدة في الاستجابة لطلب ترامب على منوال الدول الأوروبية.
ولكن يتعيّن على الولايات المتّحدة أن تتوخّى الحذر من تضخيم التهديد الصيني وزيادة التوتّرات بلا داع، للتأثير أو فرض منظور غربي خاصّ وأفكار مسبقة حول العلاقات بين الصين وتايوان. ومن شأن النهج الأميركي المقيّد في التعامل مع الشؤون الثنائية بين البلدين أن يسمح للإدارة بالحفاظ على مصداقيّتها، واللجوء إلى الاستخبارات الاستراتيجية وتقييم التهديدات بحكمة، وتجنّب المواجهة العسكرية مع الصين في أسوأ الأحوال، أو الجمود الدبلوماسي المطوّل في أفضل الأحوال.
بالنسبة لإدارة ترامب، قد تكون السياسة المتجدّدة في العلاقات مع تايوان والقائمة على النشاط الدبلوماسي عوضاً عن بيعها السلاح، بمثابة رادع لأيّ هجوم صيني محتمل، وتأكيد التزام الإدارة الأميركية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
تايوان نقطة اشتعال بين المحيطين
منذ عام 1979 التزمت الولايات المتحدة بقانون العلاقات مع تايوان، بتزويد الجزيرة بالوسائل العسكرية الدفاعية. لكن، يبقى التحرّك الدقيق بين دعم الحكومة، وتحقيق التوازن بين المصالح الأميركية وإدارة علاقاتها مع الصين، يثير الجدل بشكل متزايد. على المستوى الرسمي تولّد سياسة واشنطن المعتمدة "الغموض الاستراتيجي" بشأن دفاعها عن تايوان في حالة تعرّضها لهجوم من جمهورية الصين، في حين تعلن الولايات المتحدة رسمياً أنّها ملتزمة بـ "سياسة صين واحدة"، مما يزيد الالتباس المتعمّد وعدم اليقين في موقفها المزدوج.
كذلك، على خلفيّة التوترات الأميركية المتصاعدة مع بكين حول تايوان، يدعو عدد متزايد من المسؤولين والمحللين الأميركيين، إلى إعادة التفكير في "الغموض الاستراتيجي" وعكسه إلى "الوضوح الاستراتيجي"، الذي يركّز على تسليح تايوان بدلاً من زجّ الولايات المتحدة عسكرياً في الدفاع عن الجزيرة، وهذه من التحدّيات الكثيرة التي تنتظر إدارة ترامب وتدفعه للتوجّه نحو الشرق، وحثّ الأوروبيين على الاهتمام بشؤون قارتهم.
غرينلاند مفتاح جيوسياسي لمستقبل القطب الشمالي
غرينلاند أكبر جزيرة في العالم تشكّل أحجية معقّدة ستحدّد أجندة الأمن الأميركي والعالمي، وتضمن للولايات المتّحدة إمكانية الوصول غير المشروط إلى احتياطيات هائلة غير مستغلّة من المعادن النادرة والهيدروكربونات المهمّة للتطبيقات التكنولوجية والعسكرية. ولقد لفت موقعها الجغرافي الاستراتيجي انتباه القوى العظمى منذ الحرب العالمية الثانية، كما توفّر نقاط مراقبة لا مثيل لها لعمليّات المراقبة الأمنية، ممّا يجعلها حجر الزاوية في استراتيجية واشنطن في القطب الشمالي.
في أثناء الاحتلال الألماني للدنمارك، زادت الولايات المتّحدة من وجودها في غرينلاند لمنع سيطرة العدوّ عليها. وأنشأت على أرضها قواعد عسكرية في عام 1941، واستثمرت في تعدين الكريوليت البالغ الأهمّية لإنتاج الطائرات. كذلك، في العام نفسه أصبحت الجزيرة محمية أميركية لأسطولها لخفر سواحل القطب الشمالي. وخلال الحرب الباردة زادت القيمة الاستراتيجية للجزيرة بشكل كبير، حيث أنشأت الولايات المتحدة معسكر القرن، وهو قاعدة سرّية تتضمّن رؤوساً نووية قادرة على الوصول إلى الاتحاد السوفياتي. وعلى الرغم من تراجع أهمّيتها العسكرية بعد نهاية الحرب الباردة، إِلّا أن تغيّر المناخ أعاد إحياء الاهتمام بالمنطقة.
وكانت القيمة الاستراتيجية والجيوسياسية للجزيرة، قد نمت مع الحاجة إلى الموارد الطبيعية الهائلة في القطب الشمالي وطرق الشحن، وكان ترامب قد عرض على الدنمارك شراء الجزيرة في عام 2019، وكرّر المحاولة مرّة أخرى في العام الماضي. وعلى الرغم من السخرية من الفكرة من قبل البعض باعتبارها غير تقليدية للغاية، إِلّا أنّ ما تظهره السجلات التاريخية أنّ الفكرة ليست جديدة ولا غير تقليدية تماماً. فمنذ عام 1867، قامت الولايات المتحدة بمحاولات كثيرة لشراء غرينلاند، على الرغم من أنّها تتمتّع بالحكم الذاتي ضمن مملكة الدنمارك، لكنّ معاهدة عام 1951 تمنح الولايات المتّحدة سلطة كبيرة على قواعدها العسكرية في الجزيرة، وهذا يمكّنها من اتّباع استراتيجية شاملة لتعميق العلاقات مع غرينلاند والدنمارك التي تحتفظ بالسيادة على الجزيرة.
وكانت الولايات المتّحدة قد أعربت عن مخاوفها بشأن تركيز الصين المتزايد على منطقة القطب الشمالي، ومن إعادة تنشيط العسكرة الروسية وتعزيز هيمنتها على القطب الشمالي، وهي تكافح الآن بتبنّي سياسات تهدف إلى إعادة تأسيس النفوذ الأميركي في المنطقة. ويمكن للاستثمارات الأميركية في البنية التحتية والبحث العلمي والتنمية الاقتصادية أن تعزّز من نفوذها لمواجهة الجهود الصينية والروسية، وأيضاً يمكن لواشنطن توسيع موطئ قدمها في القطب الشمالي من خلال الأبحاث والمنشآت ذات الاستخدام المزدوج.
يتردّد صدى استراتيجية القطب الشمالي الأميركية القوية داخل دوائر ترامب وخارجها، وفي فضاء الأمن القومي الاقتصادية وأمن الموارد. وعلى الرغم من أنّ فكرة شراء غرينلاند تقاومها كوبنهاغن بشكل كبير، إلّا أنّها في حدّ ذاتها لا تستحقّ السخرية غير المدروسة التي تلقّتها حتّى الآن.
قناة بنما بوابة التجارة العابرة للقارّات
لطالما كانت قناة بنما شرياناً مهمّاً للتجارة العالمية، والاستراتيجية البحرية للولايات المتّحدة كذلك. وهي من الأصول الأساسية في الاستقرار الاقتصادي للمنطقة. ومنذ عام 2017 زاد نفوذ الصين على القناة عبر الاستثمارات المكثّفة التي قامت بها في مشاريع البنية التحتية في نصف الكرة الغربي بشكل مطّرِد، من خلال الاستحواذ على جزيرة مارغريتا بقيمة 900 مليون دولار التي فيها أكبر ميناء للحاويات في بنما، وعقد بقيمة مليار و400 مليون دولار لبناء جسر رابع لقناة بنما الرئيسية ومنافذها على المحيطين الهادئ والأطلسي. كذلك تستثمر بكين في مرافق الطاقة مثل محطّات الغاز الطبيعي، وتطلق مبادرات في قطاعات مختلفة من شأنها أن تعمّق موطئ قدمها في بنما، واضعة نفسها كشريك اقتصادي استراتيجي في المنطقة.
إنّ معاهدة الحياد المبرمة بين الولايات المتّحدة وبنما في العام 1977، تضمّنت الوصول العادل إلى قناة الجزيرة للجميع باعتبارها ممرّاً ومعبّراً مائيّاً دوليّاً. كما تحظر المعاهدة الوجود العسكري الأجنبي فوق أراضي بنما. ومع ذلك، احتفظت الولايات المتّحدة بالحقّ في استخدام القوّة العسكرية للدفاع عن حياد القناة. وبالتالي، أيّ تهديد صيني حقيقي أو متصوّر للوضع الراهن من شأنه أن يستفزّ بشكل معقول ردّ فعل من جانب الولايات المتحدة.
ولكنّ إدارة ترامب لا تحتاج إلى أن تكون عسكرية أو عدوانية على نحو صريح في استعادة النفوذ الاستراتيجي على قناة بنما، وتستطيع إدارة ترامب تعزيز أمن طرق الشحن، التي من شأنها أن تؤكّد دور الولايات المتّحدة كضامن ومستفيد من الاستقرار في نصف الكرة الأرضية.
وعلى الرغم من اختلاف سياساتها وتباينها في كثير من الأحيان، تشترك تايوان وغرينلاند وقناة بنما في خصائص حاسمة تجعلها عناصر حيوية وقوية ومرنة في السياسة الخارجية والاستراتيجية الأميركية. وهي مواقع تشكّل نقاط اختناق رئيسية للتجارة والتنقّل العسكري، وبالتالي ينبغي لها أن تكون جزءاً من أيّ تخطيط سياسي مستقبلي من قبل البنتاغون ووزارة الخارجية.
نقله إلى العربية: حسين قطايا