"Responsible Statecraft": ما هي التحديات التي تواجه الانسحاب الأميركي من سوريا؟
الأنظار تتجه نحو قرار ترامب سحب قوّاته من سوريا، فهل يؤدي ذلك إلى العنف والإذلال الذي حدث في حالات المغادرة الفاشلة الأخرى مثل أفغانستان؟
-
"Responsible Statecraft": ما هي التحدّيات التي تواجه الانسحاب الأميركي من سوريا؟
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر تقريراً يناقش فرص وتحدّيات انسحاب الولايات المتحدة العسكري من سوريا بطريقة تحافظ على مكاسبها، وتمنع عودة الفوضى، وتدعم ترتيبات سياسية جديدة بمشاركة الكرد والحكومة السورية الجديدة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
لقد أثار الهجوم الخاطف الذي أطاح النظام في سوريا في كانون الأول/ديسمبر الماضي، ردود أفعال سياسية وعسكرية في جميع أنحاء البلاد، كما كان له صدى إقليمي ودولي.
فحين سيطرت "هيئة تحرير الشام" فرع تنظيم "القاعدة" على دمشق، قامت "إسرائيل" على الفور بتوسيع احتلالها لأراضٍ في جنوب سوريا، كما أطلقت تركيا عمليات عسكرية جديدة تستهدف "الاتحاد العلماني متعدّد الأعراق"، بقيادة الكرد في شمال وشرق سوريا، حيث تحافظ الولايات المتحدة منذ مدة طويلة على وجود عسكري على الأرض، بحجّة مهمّتها القتالية ضدّ تنظيم "داعش".
حالياً الأمور مستقرّة، مع تقليص الولايات المتحدة وجود قواتها في سوريا إلى مستويات ما قبل سقوط النظام في دمشق، إلى نحو 1000 جندي. كما تلوح في الأفق مستجدّات، على خلفيّة الاتّفاق الذي توسّطت فيه الولايات المتحدة بين "قوّات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الكرد مع حلفائهم، والسلطات الجديدة في دمشق. وقد تضمّن الاتفاق وعداً بالاندماج التدريجي للكرد في الدولة والجيش السوري الجديدين، مع الحفاظ على قدر من الاستقلالية لشمال وشرق سوريا، ممّا عقد آمالاً غير متوقّعة في تحقيق سلام دائم في البلاد.
وقد جاء الاتّفاق بعد محادثات غير مسبوقة بين القيادة الكردية السورية ومنافسيها في إقليم كردستان العراق المجاور، وليس على خلفيّة الانفراج بين تركيا وحزب العمال الكردستاني فقط، وهي الجماعة الكردية المسلّحة التي استخدمتها أنقرة منذ مدّة طويلة كذريعة لشنّ غارات جوّية وغزوات برية تستهدف "قوّات سوريا الديمقراطية"، وتعرّض القوّات الأميركية للخطر أحياناً.
كلّ هذه العوامل تهيّئ فرصة فريدة تستطيع من خلالها الولايات المتحدة تسليم المسؤولية إلى مهمة مشتركة كردية وسورية وإقليمية لمحاربة "داعش"، مع مواصلة جهودها الحالية لدعم حلّ سياسي للصراع السوري المستمرّ منذ 14 عاماً، لكن عن بعد، ممّا يسمح بانسحاب منظّم للقوّات العسكرية الأميركية من سوريا.
يدرك كلّ من الجيش الأميركي وشركائه الكرد السوريين أنّ الأمور باتت على المحكّ. وفي فعّالية عقدت مؤخّراً لتقييم الانسحاب الأميركي المحتمل من العراق وسوريا، أقرّ الجنرال جوزيف فوتيل، القائد المتقاعد للقيادة المركزية الأميركية والمدافع المخضرم عن الوجود العسكري الأميركي في سوريا، أنّ "إدارة ترامب لا تريد أيّ تدخّل أميركي في سوريا".
وكان الرئيس ترامب قد أمر بانسحاب فوضوي وغير ناجح للقوات الأميركية من سوريا في العام 2019، ممهّداً الطريق لغزو تركي فوري، حيث قتل مئات المدنيين وشرّد مئات الآلاف على يد تركيا والميليشيات المتحالفة معها، قبل أن يُلغى القرار فجأة. بالطبع ترك هذا الوضع الخاسر الولايات المتحدة في ورطة كما كانت من قبل، أضيفت إلى معاناتها من الفوضى المذلّة حين سحب سلف ترامب، جو بايدن القوّات الأميركية من أفغانستان في العام 2021.
فهل تستطيع الولايات المتحدة فعلاً تحقيق الانسحاب مع تجنّب الصورة غير المرغوب فيها، في التخلّي مجدّداً عن شركائها السابقين مثل الكرد، وتركهم في مواجهة مذبحة محتملة على يد خصومهم. أو توقّع ما هو أسوأ من ذلك، والدفع نحو فوضى أكبر تجرّ واشنطن مرّة أخرى إلى المستنقع السوري، كما حدث في العراق في عام 2014. ويبدو أنّ هذا الهدف أكثر قابلية للتحقيق من أيّ وقت مضى في أعقاب التطوّرات الأخيرة غير المتوقّعة في سوريا.
كما أنّ احتمال تفاقم الفوضى بعد سقوط لم يحرّك ترامب حتى الآن، الأمر الذي وصفه الجنرال فوتيل بـ"مستوى من الصبر" خلال أوّل 90 يوماً من تولّيه منصبه، مع أنّ الرئيس تفهّم استحالة سحب القوّات فوراً. وعلى سبيل المثال، بعد تجميد ترامب للمساعدات الأميركية عالمياً في بداية العام الجاري، تمّ تقديم تمويل طارئ على عجل إلى سوريا، ممّا سمح للقوّات التي يقودها الكرد بمواصلة إدارة المعسكرات ومراكز الاحتجاز التي يعتقل فيها أكثر من 25 ألفاً من المنتمين إلى تنظيم "داعش" وعائلاتهم منذ أكثر من 50 دولة.
ولكن على عكس هزالة حلفاء واشنطن في أفغانستان، لدى الولايات المتحدة قوّة شريكة موثوقة ومدرّبة تدريباً عالياً في سوريا، حيث يصل عديد "قوّات سوريا الديمقراطية" إلى نحو 100,000 جندي، وهو رقم أكبر بكثير في الواقع ممّا لدى الحكّام الجدد في دمشق. وفي زيارة قمت بها مؤخّراً إلى شمال شرق سوريا التقيت خلالها مع روجهيلات عفرين، القائدة العامّة لوحدات حماية المرأة، وهي القوّة الكردية المكوّنة بالكامل من النساء والتي شاركت في هزيمة تنظيم "داعش"، تقول "لو تمّت السيطرة على داعش ومنحنا ضمانات من الهجمات التركية، لما احتجنا إلى حماية خارجية، وسنكون قادرين على تقرير كلّ شيء بأنفسنا، كسوريين".
حاليّاً، لقد تراجع التهديد المباشر لتنظيم "داعش" بشكل كبير، حيث إنّ الجماعة الإرهابية غير قادرة على السيطرة على الأراضي حتّى في مرحلة ما بعد الأسد. كما أنّ "قوّات سوريا الديمقراطية" مجهّزة ومستعدّة جيداً للتعامل مع أيّ تمرّد "داعشي" مستجدّ.
يتحدّث الجنرال فوتيل عن كيف يمكن للجيش الأميركي أن يتعلّم من دروس عام 2019 ويستجيب لأمر تنفيذي جديد بسحب القوّات، وقال يجب أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية لتأمين معتقلي "داعش"، والنظر في استمرار المراقبة الجوّية وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع "قوّات سوريا الديمقراطية"، بعد خروج الولايات المتحدة، وتنفيذ انسحاب مخطّط له جيداً، ويجب أن يتميّز بالتواصل العسكري والأمني الواضح والمتسلسل بين الحليفين، ممّا يمنح "قوّات سوريا الديمقراطية" تحذيراً عادلاً بشأن خطط الانسحاب الأميركية.
لا شكّ في أنّ هناك تهديداً حقيقياً يشكّله جيش معتقلي "داعش" المتطرّفين، والذين لن يختفوا بين عشية وضحاها. ومع ذلك، يمكن للولايات المتحدة الضغط على حلفائها ليتّبعوا خطى واشنطن في إعادة مواطنيهم الذين انتمّوا إلى التنظيم إلى بلدانهم ومحاكمتهم بدلاً من تركهم يثيرون الفوضى في سوريا، بحسب ما قال سيباستيان غوركا رئيس مكافحة الإرهاب في إدارة دونالد ترامب، حين حثّ المملكة المتحدة هذا العام على فعل ذلك. وإذا لم يتحقّق هذا المراد، يمكن للولايات المتحدة عندها على الأقلّ دفع حلفائها إلى المساهمة بتمويل استمرار احتجاز مواطنيهم لدى الكرد، بما يتماشى مع رسالة ترامب الأوسع نطاقاً تجاه أوروبا.
رغم الحديث المستمرّ عن "داعش"، إلا أنّ الوجود الأميركي خدم غرضاً ثانوياً رئيسياً، وهو موطئ قدم استراتيجي في بلد كان خاضعاً سابقاً لسيطرة حلفاء الأسد الإيرانيين والروس. يقول المسؤول الرفيع في الإدارة الكردية لشمال وشرق سوريا حسن كوغر، إنّ "أميركا موجودة في سوريا لمصلحتها الخاصة، وليس لمصلحتنا كسوريين".
المسألة الثانية التي أثارتها القائدة عفرين، هي التهديد الحقيقي الذي تشكّله تركيا ويعرقل الولايات المتحدة في تحقيق انسحاب ناجح لجنودها، كما حدث في عام 2019. كذلك أشار الجنرال فوتيل إلى الحاجة إلى استمرار الجهود الدبلوماسية لدعم الحوار بين "قوّات سوريا الديمقراطية" و"هيئة تحرير الشام" وتركيا، على المثال الذي أوقف حاليّاً الأعمال العدائية للجيش التركي، لكنّ فوتيل أكّد مرّة أخرى أنّ هذا النشاط السياسي يجب ألّا يكون مرتبطاً بوجود عسكري أميركي مادّي، و"يمكن حلّ هذه المشكلات بطريقة سياسية وليست عسكرية، وللتحالف بقيادة الولايات المتحدة دور في ضمان فهم ذلك".
كما يبدو أنّ الحكّام الجدد في دمشق مستعدّون عملياً لتجنّب الصراع المباشر مع الكرد، وهو نهج يمكن للولايات المتحدة تشجيعه وتأمينه عن بعد بوسائل غير عسكرية، مثل إضافة استقلالية وأمن شمال شرقي سوريا إلى قائمة شروطها المسبقة لتخفيف العقوبات عن سوريا. ومن شأن محادثات الوحدة الكردية الجارية بين الفصائل الكردية التقدّمية والمحافظة والمتعارضة تاريخياً في سوريا والعراق، أن تخفّف من حدّة مخاوف تركيا المزعومة بشأن "قوّات سوريا الديمقراطية"، نظراً لعلاقاتها الجيدة مع كرد العراق.
أخيراً، قد يشكّل التحالف التركي الجديد المُقترح ضدّ تنظيم "داعش"، الذي يضمّ العراق والأردن والحكومة السورية المؤقّتة، دافعاً لسياسة مجدّدة ضد الإرهاب. ولكن على الولايات المتحدة إلزام هذه الدول التعاون مع القوات الكردية السورية والعراقية المدرّبة أميركياً، ومع قوى إقليمية أخرى مثل السعودية، وهذا من شأنه أن يثبّط تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي، ممّا يساعد أيضاً في تعويض النقص في جهود مكافحة التنظيم الإرهابي.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.