"The Conversation": تاريخ العنف السياسي في أميركا على مدى 250 عاماً
الولايات المتحدة تأسّست على العنف السياسي، الذي استمر طويلاً في شكل "ثوري" كأداة للتأثير السياسي.
-
"The Conversation": تاريخ العنف السياسي في أميركا على مدى 250 عاماً
موقع "The Conversation" الأميركي ينشر مقالاً يتناول جذور العنف السياسي في التاريخ الأميركي واستمراريته، من الثورة الأميركية وصولًا إلى العصر الحديث، ويقدّم رؤية نقدية لفكرة أن حوادث العنف السياسي "شذوذ" أو "استثناء" في الولايات المتحدة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في اليوم التالي لقتل الناشط المحافظ تشارلي كيرك بالرصاص أثناء إلقائه كلمة في جامعة يوتا فالي، كرّر المعلّقون عبارة مألوفة: "هذه ليست شخصيتنا كأميركيين". وأعرب آخرون عن آراء مماثلة، فيما قالت الممثلة ووبي غولدبرغ في برنامجها "ذا فيو" إنّ الأميركيين عادةً ما يحلون الخلافات السياسية سلمياً، و"هذه ليست الطريقة التي نقوم بها الأمور".
عند وقوع الحادث، تذكرت على الفور حوادث مروّعة أخرى، مثل اغتيال الرئيس جون كينيدي بالرصاص في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1963. وفي منتصف حزيران/يونيو الماضي، قُتلت الرئيسة الفخرية لمجلس نواب ولاية مينيسوتا، ميليسا هورتمان، في منزلها مع زوجها وكلبهما الأليف.
وباعتباري مؤرخاً، أرى أنّ النظر إلى هذا العنف من الأميركيين باعتباره "حلقات" منفصلة أمر خاطئ، لأنه يعكس نمطاً متكرّراً. لطالما صبغت السياسة الأميركية عنفها بصبغة شخصية، وتكرّر تصور أنّ التقدّم التاريخي يعتمد على إسكات أو تدمير شخصية الخصم الذي يتحول إلى عدوّ لدود.
كما أنّ المزاعم بأنّ هذه الحوادث تكشف "هويتنا" تغفل حقيقة أنّ الولايات المتحدة تأسّست على هذا النوع من العنف السياسي، الذي استمر طويلاً في شكل "ثوري" كأداة للتأثير السياسي.
العنف الثوري كمسرح سياسي
لقد كانت سنوات الثورة الأميركية مشبّعة بالعنف. ومن بين الممارسات البغيضة التي استُخدمت ضد الخصوم السياسيين كانت عملية "التغطية بالقطران والريش"، وهي عقوبة استُوردت من أوروبا وذاع صيتها على يد جماعة "أبناء الحرّية" قبل قرنين من الزمن، وهم نشطاء استعماريون قاوموا الحكم البريطاني.
وفي المدن الساحلية مثل بوسطن ونيويورك، كانت الجماهير تجرد أعداءهم السياسيين من ملابسهم، وغالباً ما كانوا من الموالين المشتبه بهم أي المؤيدين للحكم البريطاني، أو من المسؤولين الذين يمثلون الملك، ثم يدهنونهم بالقطران الساخن ويلفونهم بالريش ويطوفون بهم في الشوارع. كانت آثار هذه الأعمال على أجساد المعاقبين مدمّرة، فمع إزالة القطران يتمزق اللحم على شكل شرائح، والناجون من هذا العقاب المميت حملوا ندوباً لبقية حياتهم.
وبحلول أواخر سبعينيات القرن الثامن عشر، تحوّلت الثورة في ما يعرف بالمستعمرات الوسطى إلى حرب أهلية ضارية. ففي نيويورك ونيوجيرسي، شنّت الميليشيات الوطنية، بالإضافة إلى أنصار والجنود البريطانيين، غارات عبر حدود المقاطعات، مستهدفة المزارع والمناطق المجاورة. وعندما أسرت القوات الوطنية جنوداً غير نظاميين موالين يُطلق عليهم غالباً اسم "المحافظين" أو "اللاجئين"، عوملوا في كثير من الأحيان كخونة لا كأسرى حرب، وأعدموا بسرعة غالباً بالشنق.
في العام 1779، أُلقي القبض على ستة موالين قرب نيوجيرسي وشنّقوا دون محاكمة على يد ميليشيات وطنية. وفي الفترة نفسها أُعدم رميا بالرصاص شخصان يشتبه بتجسّسهما لصالح المحافظين، وبرّرت الميليشيات إعدامهما كعقاب على خيانتهما. بالنسبة للوطنيين، كانت هذه المجازر بمثابة ردع، أما بالنسبة للموالين، فكانت قتلاً متعمداً. وفي كلتا الحالتين، كانت هذه الجرائم ذات دوافع سياسية واضحة، إذ قضت على "أعداء كانت جريمتهم" هي الولاء للجانب الخطأ.
مسدّسات عند الفجر: المبارزة كسياسة
حتى بعد الاستقلال، ظلّت آليات العمل السياسي في الولايات المتحدة ترتكز على منطق العنف تجاه الخصوم. وبالنسبة للقادة الوطنيين، لم تكن المبارزة بالمسدّس مجرد مسألة شرف، بل جزءاً من ثقافة سياسية ترى في إطلاق النار وسيلةً ضمن "النقاش". وكانت المبارزة الأشهر بطبيعة الحال تلك التي جرت عام 1804 بين آرون بور وألكسندر هاملتون، والتي انتهت بمقتل الأخير، بينما وقعت عشرات المواجهات الأخرى الأقل شهرة في العقد الذي سبقها.
في عام 1798، قتل هنري بروكهولست ليفينغستون، الذي أصبح لاحقاً قاضياً في المحكمة العليا الأميركية، جيمس جونز في مبارزة. وبدلاً من أن تُشوَّه سمعته، اعتُبر تصرّفه مشرّفاً. ففي بدايات الجمهورية، كان من الممكن دمج جرائم القتل في الممارسة السياسية وإخفاؤها ضمن هذه الطقوس. والمفارقة أنّ ليفينغستون نفسه نجا عام 1785 من محاولة اغتيال.
وفي عام 1802، شهدت نيويورك حادثة مخزية أخرى، حين تواجه ديويت كلينتون وجون سوارتووت، وأطلقا أكثر من خمس طلقات قبل أن يتدخل مساعدوهما، مما أسفر عن إصابة الرجلين. واللافت أنّ الاشتباك لم يكن ذا صلة بمبدأ سياسي، إذ كان الرجلان من "الجمهوريين". فقد كان شجارهما حول المحسوبية، ومع ذلك انتهى إلى تبادل إطلاق النار، في تجسيد واضح لتطبيع العنف المسلح في الحياة السياسية الأميركية الناشئة.
ثقافة السلاح وتوسّعها
من المغري اعتبار العنف السياسي مجرد مخلّف من مراحل "بدائية" أو "حداثية" من التاريخ الأميركي، حين كان يُفترض أن السياسيين وأنصارهم يفتقرون إلى ضبط النفس أو إلى معايير أخلاقية عليا. لكن هذا التصوّر غير صحيح.
فمنذ ما قبل الثورة الأميركية فصاعداً، كان العقاب البدني أو حتى القتل وسيلة لفرض الانتماء، ورسم الحدود بين الداخل والخارج، وتحديد من يملك الحق في الحكم. لم يكن العنف يوماً تشويهاً للسياسة الأميركية، بل سمة متكرّرة من سماتها، لا انحرافاً بل قوة دؤوبة ومدمّرة، لكنها قادرة بشكل غريب على ابتكار حدود وأنظمة جديدة.
وقد تعمّقت هذه الديناميكية مع اتساع نطاق امتلاك الأسلحة. ففي القرن التاسع عشر، أدّى الإنتاج الصناعي للأسلحة والعقود الفيدرالية العدوانية إلى زيادة انتشار السلاح. وتجلّت طقوس معاقبة المعارضين بالمسدسات المصنّعة بكميات ضخمة، ثم بالبندقية الآلية لاحقاً.
ولم تصبح هذه الأسلحة النارية الحديثة أدوات عملية للحرب والجريمة والدفاع عن النفس فحسب، بل تحوّلت أيضاً إلى أدوات رمزية بحد ذاتها: فهي جسّدت السلطة، وحملت دلالات ثقافية، ومنحت حامليها شعوراً بإمكانية المطالبة بالشرعية من خلال فوهة البندقية.
لهذا السبب تبدو عبارة "هذا ليس من طبعنا" زائفة. فقد كان العنف السياسي دائماً جزءاً لا يتجزأ من تاريخ أميركا، لا شذوذاً عابراً أو حلقة استثنائية. وإنكاره يترك الأميركيين بلا حماية. وحدها مواجهة هذا التاريخ وجهاً لوجه قد تفتح الباب أمام تصوّر سياسة لا تحددها فوهات البنادق.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.