"Unherd": نهاية الهيمنة الأميركية.. الرسوم الجمركية قد تقتل الدولار
إنّ سياسات ترامب سوف تؤدي إلى تأكّل طويل الأمد ليس للقوة العالمية لأميركا، بل لقدرتها على استخدام الإكراه الاقتصادي لجعل بقية العالم يمتثل لأولوياتها.
-
"Unherd": نهاية الهيمنة الأميركية.. الرسوم الجمركية قد تقتل الدولار
موقع "Unherd" البريطاني ينشر مقالاً للكاتب الألماني فولفغانغ مونشاو، يتحدّث فيه عن تأثير سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاقتصادية على هيمنة الدولار وقيمته.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
كان فاليري جيسكار ديستان، الرئيس الفرنسي السابق، هو من صاغ تعبير "الامتياز الباهظ" في ستينيات القرن العشرين. وكان وزير مالية فرنسا آنذاك يشير إلى قوة الدولار الأميركي باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، وهو ما يمنح الولايات المتحدة هيمنتها الاقتصادية الحالية.
وتمتد هذه القوة إلى ما هو أبعد من ضفاف أميركا، وحتى ضفاف أقرب حلفائها. ولا تكتسب هذه القوة من خلال كونها كبيرة أو غنية أو ناجحة. ولا علاقة لها بالزعامة التكنولوجية، أو حجم جيشها، بل إنها مرتبطة بشكل مباشر بدور الدولار في النظام المالي العالمي.
تتلخّص الهيمنة الاقتصادية في قدرتك على استخدام قوتك الاقتصادية وعملتك ونظامك المالي لفرض إرادتك على الآخرين، أي الإكراه في الأساس. على سبيل المثال، يخاطر أي بنك لا يزال يتعامل مع روسيا بالانقطاع عن أسواق الدولار الأميركي. ونظراً لأهمية الدولار في النظام المالي العالمي، لا تُمنح البلدان أيّ خيار سوى الامتثال للسياسات الأميركية. وعلى هذا فإنّ العديد من خبراء الاقتصاد متفائلون بشأن مستقبل الهيمنة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة. ولكنني لا أتفق معهم. فأنا أعتقد أنّ السياسة الاقتصادية التي ينتهجها ترامب سوف تؤدي إلى تضاؤل الامتياز الباهظ الذي تتمتع به أميركا.
لقد ذكر بين برنانكي، محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق، ذات مرة أربع خدمات يقدّمها الدولار للاقتصاد العالمي: استقرار القيمة، والسيولة، والأمان، ودور الولايات المتحدة كمقرض والملاذ الأخير. وكان برنانكي نفسه فعّالاً في دعم الاقتصاد العالمي أثناء الأزمة المالية العالمية، وبالتالي دعم امتيازه الباهظ. ويتذكّر برنانكي بعد ما يقرب من عقد من الزمان منذ اندلاع الأزمة: "لقد عمل بنك الاحتياطي الفيدرالي كمزوّد احتياطي للدولارات أثناء الأزمة المالية من خلال تأسيس مقايضات العملات مع أربعة عشر بنكاً مركزياً، بما في ذلك أربعة في الأسواق الناشئة".
لم يتولَّ الدولار الأميركي دوره كعملة عالمية رائدة إلّا بعد الحرب العالمية الثانية، باعتباره مرساة لنظام "بريتون وودز" المالي الذي أُنشئ في عام 1944. وكان الاتفاق يقضي بأن يعتمد بقية العالم أسعار صرف ثابتة مقابل الدولار، الذي كان مربوطاً بالذهب. وبدأ النظام يتفكّك في الستينيات، وجاء موته على مراحل. ففي عام 1971، أنهى ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. وفي عام 1973، أُلغيت أسعار الصرف الثابتة. وانتهى نظام "بريتون وودز" رسمياً في عام 1976.
عند هذه النقطة، انتقل العالم إلى أسعار الصرف المرنة. وتبيّن أنّ هذا لم يؤدِّ إلّا إلى تعزيز الهيمنة الاقتصادية الأميركية. وكان ذلك قائماً على ميثاق "فاوستي" بين البلدان التي تعتمد على الصادرات، مثل الصين وألمانيا، والولايات المتحدة التي كانت على استعداد لامتصاص العجز. وعلى سبيل المثال، إذا باعت الصين المزيد من أجهزة الفيديو للولايات المتحدة، وباعت ألمانيا المزيد من السيارات، فإنّ كلّاً منهما ينتهي به الأمر إلى كسب الدولارات التي يستثمرونها بعد ذلك في الولايات المتحدة. والعجز التجاري الأسطوري في أميركا، الذي يكرهه ترامب بشدة، مرتبط بشكل مباشر بهذه التدفّقات من الدولارات في النظام المالي.
كانت هذه الاختلالات في التجارة والادخار بمثابة محرّكات العولمة. ويحب خبراء الاقتصاد الكلي، وخبراء الاقتصاد التجاري بشكل خاص، هذه الأشياء لأنها تتوافق مع أيديولوجية أساسية تقول إنّ التجارة العالمية الحرّة مفيدة للجميع، في كلّ وقت وفي كلّ مكان. ولكنّ العيب الكبير هو أنّها تفيد بعض الناس أكثر من غيرهم. وفي النهاية، قرّر الناخبون، وصوّتوا لصالح ترامب وسياساته التجارية، ولم يستمعوا إلى خبراء الاقتصاد، بل تدخّلت السياسة.
كما تدخّلت الجغرافيا السياسية. فخلال عصر العولمة المتفشّية، جعلت ألمانيا نفسها تعتمد على الغاز الرخيص من روسيا، وعلى الصادرات من الصين، وعلى الدفاع من الولايات المتحدة. لقد أدّى هذا التفتّت إلى تدمير النموذج الاقتصادي الألماني، الذي كان يعتمد تقليدياً على الصناعة، مما جعله غير متوازن وعرضة للخطر بشكل كبير.
وقد تأتي تغييرات أكبر قريباً. لقد أعطتنا رئاسة ترامب الأولى إشارة إلى أنّ عصر العولمة العالمية الواحدة يقترب من نهايته. ولكن في ذلك الوقت، لم يكن مركّزاً كما يبدو الآن، وإذا نجح في القضاء على العجز التجاري الثنائي الكبير لأميركا، ضد المكسيك وكندا والصين والاتحاد الأوروبي، فقد تتغيّر ديناميكيات التجارة العالمية والتمويل بشكل أساسي. وبما أنّ البلدان التي اعتمدت كثيراً على قدرتها على التصدير إلى الولايات المتحدة مضطرة إلى زيادة التجارة مع بعضها البعض، فسوف تكون هناك حاجة أقلّ لاستخدام الدولار في المعاملات الدولية، وبالتالي، من المحتّم أن يتراجع الامتياز الباهظ.
إنّ الامتيازات تتراجع أيضاً كلما مارست المزيد من القوة. فبعد غزو روسيا لأوكرانيا، قامت الولايات المتحدة وحكومات الاتحاد الأوروبي بتجميد الأصول الاحتياطية الروسية المستثمرة هناك. والآن بدأ المستثمرون الأجانب يتساءلون عما إذا كانت أموالهم الأميركية المستثمرة في أوكرانيا لا تزال آمنة. ومن المؤكّد أنّ ادّعاء برنانكي بأنّ الدولار يقدّم خدمة "الأمان" و"السيولة" لا يتوافق مع تجربة روسيا، ولن يتمّ الاحتفاظ بأموالها في أميركا وأوروبا عندما تنتهي الحرب. وفي الوقت نفسه، تراقب البلدان التي لم تتخذ أيّ موقف العقوبات الغربية بقلق. فقد بدأت الصين، على سبيل المثال، في الحدّ من تعاملها مع الأسواق الأميركية.
إنّ الاضطرابات كلّها معقّدة بسبب التناقض الداخلي في السياسات الاقتصادية لترامب: فهو يريد سدّ العجز التجاري، ولكنه يريد أيضاً أن يظلّ الدولار الأميركي العملة الأكثر أهمية. ويتولّى سكوت بيسنت، وزير الخزانة في إدارة ترامب، إدارة هذه الأهداف المتضاربة، وربما تكون أصعب وظيفة في إدارة ترامب الآن. كان بيسنت مستثمراً لامعاً، وأحد العقول المدبّرة وراء الرهان المذهل الذي قام به جورج سوروس ضد بنك إنكلترا في عام 1992، والذي انتهى بخروج الجنيه الإسترليني من آلية سعر الصرف الأوروبية. ولكن حتى هو سوف يكافح من أجل تحقيق الأهداف المتضاربة منطقياً التي حدّدها ترامب لسياساته الاقتصادية: خفض العجز التجاري الأميركي، فضلاً عن عجز الميزانية، وعودة الاقتصاد إلى وضع أكثر توازناً، من دون إنهاء دور الدولار كعملة عالمية رائدة. هذه التحوّلات تستغرق وقتاً. ولكنها سوف تضع الكرة في الدوران.
وهناك مشكلة أخرى. فالتكنولوجيا تغيّر الموارد. وربما لا يكون المنافس المستقبلي الأكثر ترجيحاً للدولار كعملة معاملات عالمية هو اليورو، أو الرنمينبي، أو أيّ عملة ورقية أخرى. بل قد يكون البيتكوين. كما أنّ إدارة ترامب مشغولة بتحرير صناعة التشفير لأنّ الرئيس أعلن أنه يريد أن تكون جميع عملات البيتكوين في الولايات المتحدة. إلا أنّ البيتكوين ليس مثل الأسهم أو السندات، وإضفاء الطابع الأميركي على هذه الفكرة لن يكون أكثر جدوى من محاولة إدخال شبكة الإنترنت بالكامل إلى قريتك.
إنّ التناقض في أهداف السياسة الاقتصادية التي ينتهجها ترامب لا يمرّ من دون أن يلاحظه أحد. فبعض المستثمرين الأذكياء الذين أعرفهم يستثمرون حالياً قدراً كبيراً من ثرواتهم في الذهب والبيتكوين. ومثلي، فإنهم يشكّكون في قدرة الغرب على السيطرة على التضخّم. ولست متأكّداً أيضاً من أنّ ترامب يهتم حقاً بالتضخّم بقدر ما تظاهر أثناء الحملة الانتخابية. ولكنني أعتقد أنّه جاد بشأن التعريفات الجمركية. وبالتالي فإنّ المستثمر الذكي سوف يدرك أنّ هذه الاستراتيجية ستكون إيجابية للغاية للاستثمارات البديلة مثل البيتكوين والذهب، وسيئة للغاية للاستثمارات التي تزدهر في بيئات مستقرة ومنخفضة التضخّم، مثل السندات الحكومية.
ولكن كيف ستسير الأمور؟ أعتقد أنّ التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب سوف تأتي بنتائج، وسوف ينخفض العجز التجاري الأميركي، وسوف يحدث حجم متزايد من التجارة العالمية خارج الولايات المتحدة، وسوف يعاود الاتحاد الأوروبي الاتصال بحذر مع الصين. وسوف يظلّ الدولار العملة العالمية الرائدة لفترة من الوقت، بالتأكيد طيلة فترة رئاسة ترامب. ولكنه سوف يبدأ في فقدان هيمنته، وعند هذه النقطة سوف يتجه المزيد من الناس إلى البيتكوين. وسوف يكون البيتكوين بالنسبة للدولار مثل وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة لوسائل الإعلام التقليدية. ففي البداية كان موضع سخرية. ثم فجأة أصبح تهديداً وجودياً، ثم تصبح وسائل الإعلام التقليدية إرثاً ونظاماً قديماً.
إنّ سياسات ترامب سوف تؤدي إلى تأكّل طويل الأمد ليس للقوة العالمية لأميركا، بل لقدرتها على استخدام الإكراه الاقتصادي لجعل بقية العالم يمتثل لأولوياتها. لقد كان الامتياز الباهظ الذي تتمتّع به أميركا مصحوباً بثمن، فقد قبل بقية العالم الزعامة العالمية للولايات المتحدة ليس من باب الاحترام، بل لأنها كانت صفقة جيدة للجميع تقريباً. ومع ترامب، لن يكون هذا هو الحال بعد الآن. وسوف يجد الأميركيون أنهم ما زالوا قادرين على العيش حياة مريحة من دون الامتياز الباهظ، ولكن السياسة الخارجية سوف تصبح أكثر صعوبة.
نقلته إلى العربية: بتول دياب.