"الغارديان": غزة الجائعة.. شهادات فلسطينيين على مجاعة من صنع "إسرائيل"

لعدة أشهر، أبقت "إسرائيل" شحنات الغذاء التي تدخل إلى غزة أقل بكثير من المطلوب. والآن، يرتفع عدد الضحايا بسرعة من جرّاء المجاعة.

0:00
  • محمد، سبع سنوات، وزينة، عشر سنوات. تقول والدتهما إنّ العائلة
    محمد، سبع سنوات، وزينة، عشر سنوات. تقول والدتهما إنّ العائلة "تسد جوعنا بالماء".

صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر تقريراً يتناول مأساة المجاعة المتفاقمة في قطاع غزة، مسلطاً الضوء على الوضع الإنساني الكارثي الذي يعيشه السكان، لا سيما الأطفال، في ظل حصار إسرائيلي خانق، ونقص حاد في المواد الغذائية والمساعدات الطبية، مستشهداً بقصص فلسطينيين في القطاع.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

في عمر 7 أشهر وبالكاد وزنه 4 كيلوغرامات يدخل للمرّة الثانية إلى المستشفى للعلاج. وجهه هزيل، وأضلاعه وعظم أطرافه بارزة بشكل مؤلم يغطّيها جلد مترهّل. وكما يعاني هذا الطفل يعاني أشقّاؤه أيضاً من جوع شديد، وفي بعض الأيّام ينامون من دون أن يأكلوا شيئاً. تقول جدّته فايزة عبد الرحمن التي تعاني من دوار مستمرّ بسبب نقص الطعام: "أكبر مخاوفي الآن هو فقدان حفيدي بسبب نقص الغذاء". وهي لم تأكل سوى قطعة خبز صغيرة في اليومين الماضيين وثمنها 15 شيكلاً ما يعادل نحو 5 دولارات أميركية.

وكان الطفل محمد قد ولد بصحّة جيدة، لكنّ والدته كانت تعاني سوء التغذية الشديد، ولم تتمكّن من إرضاعه بسبب جفاف الحليب، ولم تستطع الأسرة من الحصول إِلّا على علبتين من حليب الأطفال منذ ذلك الحين.

ويكتظّ جناح مستشفى جمعية أصدقاء المريض الخيرية بأطفال يعانون هشاشة شديدة بسبب تناقص أوزانهم وهم يفترشون 12 سريراً الأخيرة المتبقّية في المستشفى الذي لا يوجد فيه سوى قلّة من أطبّاء الأطفال الكثر الذين يأتون إلى المستشفى طلباً للعلاج، ويصل عددهم إلى 200 طفل يوميّاً، حيث يقضي الدكتور مصعب فروانة أيّامه محاولاً إنقاذهم، ولكنّه غالباً ما يفشل، ثمّ يعود إلى منزله ليشارك عائلته الجائعة وجبة قليلة جداً.

ومن الواضح أنّ كلّ أفراد العائلة يفقدون أوزانهم بسرعة، لأنّ راتبه لا يشتري أيّ شيء تقريباً، وهو لا يريد المخاطرة بالسباق المميت للحصول على الإمدادات التي توزّعها "مؤسّسة غزّة الإنسانية" بعد مقتل زميله الدكتور رمزي حجاج في أثناء محاولته الحصول على الطعام في أحد المواقع.

لم تشهد غزّة يوماً جوعاً كهذا، رغم التحذيرات المتكرّرة من مجاعة وشيكة على مدار ما يقرب من عامين من الحرب. وعلى مدار 3 أيّام فقط هذا الأسبوع سجّل مسؤولو الصحّة العامّة 43 وفاة بسبب الجوع، بينما كان العدد الإجمالي 68 ضحية قبل ذلك.

تضيف فايزة عبد الرحمن التي عاشت في مدينة غزّة طوال الحرب، إنّه حتّى في أشدّ فترات الرقابة على دخول الموادّ الغذائية إلى شمال غزّة في العام الماضي لم تكن بهذا السوء، وقد "واجهنا جوعاً من قبل لكن ليس كما هو اليوم، فهذه أصعب مرحلة مررنا بها مطلقاً".

وتكشف شهادات السكّان المحلّيين والأطبّاء، وبيانات الحكومة الإسرائيلية و"مؤسسة غزّة الإنسانية" والأمم المتحدة والمنظّمات الإنسانية، أنّ الغذاء ينفد في القطاع، بينما لا مال ولا مسؤولين قادرين على حماية الفلسطينيين من المجاعة. وقد حذّرت أكثر من 100 منظّمة إغاثة عاملة في غزّةَ، منها أطبّاء بلا حدود، وإنقاذ الطفولة، وأوكسفام، في بيان مشترك هذا الأسبوع من أنّ "زملاءهم في المنظّمات الإنسانية في غزّة ينازعون أمامهم".

وقالت نقابة الصحفيين في وكالة "فرانس برس" أوّل الأسبوع، إنّها تخاطر لأوّل مرّة في تاريخها بفقدان زميل لها بسبب الجوع. وقال رئيس منظّمة الصحّة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس منتصف الأسبوع الجاري، إنّ "نسبة كبيرة من سكّان غزّة يتضوّرون جوعاً، ولا أعرف ماذا يمكن أن نسمّي الواقع بخلاف أنّه تجويع جماعي من صنع الإنسان".

ولأشهر عدة خنقت "إسرائيل" شحنات الموادّ الغذائية. ويقلّ إجمالي الكمّيات المسموح بها منذ بداية آذار/مارس عن حصص التجويع لعدد سكّانها البالغ 2.1 مليون نسمة، حيث يبقى الفلسطينيون جائعين.

كذلك منذ ما يقرب من عامين، عانى الأطفال هنا من المجاعة. حتّى لو شعروا بالشبع في بعض الأيام، فإنّ الأمر لا يتعلّق فقط بالشبع، بل يتعلّق بتلقّي العناصر الغذائية التي يحتاجها الجسم وهذا غائب تماماً. وهذه السنوات من سوء التغذية تجعلهم أكثر عرضة للإصابة بأمراض أخرى، ويتفاقم انخفاض مناعتهم بسبب النقص الحادّ في الإمدادات الطبّية الأساسية، التي منعت "إسرائيل" دخولها أيضاً كما الطعام.

يضيف الطبيب فراونة: "كثيراً ما أشعر بألم القهر، لأنّنا ببساطة عاجزون عن تقديم المساعدة لطفل يحتاجها للبقاء على قيد الحياة. وكان قد توفّي 3 مرضى يعانون سوء تغذية حادّاً في العناية المركّزة هذا الأسبوع، بينهم فتاة كانت ستنجو على الأرجح لو تمكّن الأطبّاء من إعطائها البوتاسيوم عن طريق الوريد، وهو دواء أساسي عادة، والآن أصبح من المستحيل الحصول عليه في غزّة.

يقول فراونة: "حاولنا أن نعطيها بدائل فموية، ولكن بسبب سوء التغذية والمضاعفات الناتجة عنه، كان امتصاص جسمها للدواء ضعيفاً. هذه الحالات تؤرّقني، ولا تفارقني. كان بإمكان هذه الطفلة أن تعود إلى عائلتها، وتعيش حياة طبيعية. لكن لسبب بسيط، لم يكن متاحاً لها لم تنج".

لقد فرضت "إسرائيل" حصاراً شاملاً على غزّة منذ 2 آذار/مارس، وحين زعمت الحكومة الإسرائيلية أنّها رفعته في 19 أيار/مايو، وأنّها تعمل على "منع" أزمة مجاعة، كان ذلك بسبب أنّ بعضاً من أشدّ حلفاء "إسرائيل" أبلغوها أنّهم لن يتسامحوا مع صور المجاعة.

وفي الحقيقة أنّ ما قامت به الحكومة الإسرائيلية هو تغيير مسارها لإطالة أمد أزمة المجاعة، ولم تسمح إلّا بدخول سوى كمّيات ضئيلة من المساعدات، الأمر الذي أدّى إلى تباطؤ انحدار غزّة نحو المجاعة.

وأعلنت الحكومة الإسرائيلية عن خططها لتوجيه المساعدات كلّها عبر منظّمة مجهولة مدعومة من الولايات المتحدة تدير أربع نقاط توزيع عسكرية. حيث قُتل مئات الفلسطينيين في أثناء محاولتهم الحصول على الطعام في المواقع التي يصفها الفلسطينيون أنّها "فخاخ الموت"، والتي وزّعت الإمدادات التي لا تلبّي إلّا جزءاً ضئيلاً من احتياجات غزّة.

وبحلول تمّوز/يوليو كان صندوق الإغاثة الإنسانية العالمي يعمل منذ 58 يوماً، ولكنّ الغذاء الذي جلبته المؤسسة لن يكفي سكان غزّة لأكثر من أسبوعين، حتّى لو وزّع بالتساوي.

كانت أمّ يوسف الخالدي تستعدّ لتجربة حظّها في مركز توزيع مساعدات لأوّل مرّة، لأنّ أصغر أطفالها بعمر عامين وأكبرهم 13 عاماً، وزوجها مشلول ويجلس على كرسي متحرّك، قالت: "لقد واجهنا جوعنا بالماء. خوفي على عائلتي أكبر من خوفي على نفسي. أخشى أن يصيبني مكروه، فأتركهم بلا رعاية".

لكنّ عائلتها بقيت بلا طعام لمدّة أربعة أيّام في الأسبوع الماضي، وحين حصلوا على بعضها اضطرّوا وعددهم 8  إلى تقاسم كيس من الأرزّ وقطعتين من البطاطس أعطاهم إِيّاه أحد المارّة. لقد كان أطفالها طلاباً متفوّقين قبل الحرب، وكانوا دائماً يحصلون على منح دراسية. أمّا الآن، فيقضون أيّامهم جالسين على حافّة الشارع تحت مسجد مقصف في حيّ الوحدة بمدينة غزّة، حيث تحاول الفتيات بيع الأساور بدلاً من مجرّد التسوّل، حيث يشفق البعض أحياناً على هؤلاء الأطفال النحيفين والأوساخ تغزو وجوههم وملابسهم الممزّقة.

تضيف الخالدي: لقد "أصبح أطفالي جلداً وعظماً، وأدنى جهد يقومون به يصيبهم بالدوار، فهم بحاجة إلى الغذاء، وليس لدي ما أقدّمه لهم، ولا أستطيع أن أكذب وأقول إني سأحضر لهم شيئاً، وأنا أعلم أنني لن أستطيع. لذلك، قرّرت أنّه في ظلّ الحسابات القاسية للمخاطر التي تواجهها أسرتي، فإنّ الأمل في الحصول على القليل من الطعام يفوق في النهاية خطر فقدان الشخص البالغ الذي يحافظ على حياتهم متماسكة".

وكان قد سرق هاتف زوجها في وقت سابق من الحرب، لذا لن يكون لديهما وسيلة للتواصل خلال الساعات الطويلة التي ستقضيها في رحلة شاقّة إلى موقع توزيع المساعدات، ثمّ التسابق للحصول على الطعام، والعودة سيراً على الأقدام حيث لم يكن أمام العائلة سوى الانتظار والأمل. تقول: "ليس لديّ من أرسله، ومن المؤلم أن أشاهدهم يعانون، وصحّتهم تتدهور يوماً بعد يوم من دون طعام".

نقله إلى العربية: حسين قطايا.