"Unherd": "إسرائيل" تخرّب الشرق الأوسط.. ويجب الحفاظ على نظام الدولة العربية

التهديد الأكبر لمنطقة الشرق الأوسط يأتي من حرب "إسرائيل" الجامحة والمتنامية باستمرار.

  • "Unherd": "إسرائيل" تخرّب الشرق الأوسط.. ويجب الحفاظ على نظام الدولة العربية

موقع "Unherd" البريطاني ينشر مقالاً يتناول تحليلاً شاملاً لواقع الدول في الشرق الأوسط، والتهديدات التي تواجهها اليوم، بفعل سياسات إسرائيلية وأميركية متهورة قد تؤدي إلى فوضى دائمة.

يرى المقال أنّ تفكيك الدول هو أخطر تهديد لاستقرار الشرق الأوسط، ويجب على واشنطن أن تكبح "إسرائيل" وأن تتبنى استراتيجية تعيد الاعتبار إلى الدولة كإطار للحكم الشرعي والأمن الإقليمي.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

لجيل كامل، ظل الشرق الأوسط مثالاً يُحتذى به في فشل الدولة. عصفت سلسلة من الكوارث بالدول العربية خلال هذه الفترة، ما أضعف المؤسسات والأمن والحوكمة الإقليمية. بدأت الاضطرابات بالغزو الأميركي للعراق بذرائع واهية، ما دفع البلاد إلى الفوضى، ثم جاء الربيع العربي و"داعش"، واستيلاؤه على جزء كبير من بلاد الرافدين والشام، وتفكك سوريا وليبيا، والاختلال الوظيفي المتسلسل في لبنان، والحرب السعودية في اليمن، من بين مشكلات أخرى.

ومع ذلك، ورغم استمرار الصراع وعدم الاستقرار، حقق نظام الدولة العربية عودة قوية في السنوات الأخيرة، فقد وضع العراق أسس دولة فاعلة. وعلى نحو متقطع، شكّلت الأنظمة الملكية في منطقة الخليج العربي بيروقراطيات حديثة وتعاوناً أمنياً متبادلاً. الأنظمة العربية نفسها نجحت في إعادة بناء قدرات الدولة، وهو عنصر ضروري، وإن كان غير كافٍ، للاستقرار الإقليمي.

لكن الآن، ومع ذلك، أصبح ذلك البصيص من الإمكانية مهدداً بسبب الحرب الإقليمية الإسرائيلية المتصاعدة والمتطرفة، فبفضل تفويض مفتوح تقريباً من واشنطن، تحدّت "إسرائيل" قابلية بقاء الدول في جميع أنحاء المنطقة، مهددةً بتقويض نظام الدول الهشّ الذي انتعش مؤخراً في الشرق الأوسط. تُدرك إدارة ترامب أهمية الدول المستقرة، لكن ردّها يقتصر على الغضب غير المعلن أو المخفي. صرّح مسؤول في البيت الأبيض لموقع "أكسيوس" هذا الأسبوع: "تصرف بيبي كالمجنون. إنه يقصف كل شيء طوال الوقت. هذا قد يُقوّض ما يحاول ترامب فعله".

تتعلق هذه التصريحات بتدخل "إسرائيل" في سوريا، والذي نُفّذ ظاهرياً لحماية الأقلية الدرزية في البلاد. لدى الحكومة الأميركية مخاوفها الخاصة بشأن قدرة الزعيم السوري الجديد على السيطرة على قواته الأمنية أو حماية الأقليات، لكن واشنطن لا تدعم نهج "إسرائيل" في قصف الأهداف الحكومية، واحتلال الأراضي السورية، وتسليح وكلائها، تحت ستار مهمة إنسانية كما يُزعم.

تُعيد هذه الشكاوى إلى الأذهان تسريبات مستشاري بايدن التي تفيد بأن بايدن وصف بنيامين نتنياهو بـ"الأحمق"، فيما لم يفعل شيئاً لكبح جماح تهور رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلا أنّ مغامرات "إسرائيل" في عهد ترامب ازدادت تطرفاً وزعزعة للاستقرار، وناقض ترامب أحياناً قادة "إسرائيل" بشكل مباشر وأعرب عن استيائه، بل إنه في بعض الأحيان كبح جماح "إسرائيل"، وهذا أمر مفهوم؛ فالوضع الراهن مُقلق، فـ "إسرائيل" تُسبب مجاعة في غزة، وتُشعل التوترات الطائفية، وتُهاجم الحكومة في سوريا (في انتهاك مباشر لمصالح الولايات المتحدة وسياساتها في ذلك البلد)، وتُواصل سلسلة تهديدات وضربات مُستمرة ضد إيران واليمن ولبنان.

في حرب بلا حدود أو أهداف واضحة، استهدفت "إسرائيل" لبنان وسوريا واليمن والعراق، والآن إيران، مُقوّضةً في الوقت نفسه المصداقية الشعبية للملوك العرب في الخليج الذين انحازوا بهدوء إلى جانبها. إنّ هذه الصراعات المفتوحة يمكن أن تؤدي إلى النوع نفسه من الخراب الذي ألحقته أميركا بالعراق، وهو النوع من التفكك الذي يخلف وراءه مساحات من الصعب حكمها وتتميز بدول ومؤسسات ومجتمعات محطمة.

لطالما تذمّر أصحاب نظريات المؤامرة في الشرق الأوسط من المؤامرات الإسرائيلية والأميركية لإضعاف حكوماتهم وتفتيت مجتمعاتهم السياسية، وهي استراتيجية فرّق تسد مكيافيلية لإبقاء منطقة غنية بالنفط في حالة من عدم التوازن، ما يسهل التلاعب بها. غالباً ما كانت هذه الرؤى العربية المحمومة مجرد ترهيب تستخدمه النخب العربية لدرء التحديات الداخلية التي تواجه سوء حكمها، لكن في هذه الأيام، يصعب تجاهل فكرة سعي القوى الغربية، وخصوصاً "إسرائيل"، إلى الفوضى لمجرد الفوضى، باعتبارها مؤامرة.

الخطر هائل..

غالباً ما يتعامل المؤرخون وصانعو السياسات مع نظام الدولة العربية كوحدة تحليل، نظراً إلى تشابه اللغة والتجمع داخل جامعة الدول العربية. اليوم، عند تقييم الأضرار التي لحقت بالدول من جراء حروب "إسرائيل" منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، ربما يكون من الأجدى النظر إلى جغرافيا الشرق الأوسط بأكملها وتمييز الدول بحسب عمرها ووحدتها وقدرتها، بدلاً من مجموعتها اللغوية.

لقد عملت مجموعة صغيرة من الدول على هيئتها الحالية لقرون، بمجتمعات سياسية حافظت على تماسكها عبر عصور وأنظمة متعددة. تشمل هذه المجموعة إيران وتركيا ومصر. تشمل الفئة الثانية مجموعة من دول ما بعد الاستعمار، معظمها ملكيات، اكتسبت بعض القدرة على إبراز قوتها الإقليمية. وتشمل هذه الدول دول مجلس التعاون الخليجي مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. تشمل المجموعة الأخيرة بقية دول الشرق الأوسط، بعضها جمهوريات وبعضها ملكيات، لكنها جميعها معرضة للصراعات المزعزعة للاستقرار والهشاشة العامة.

لا شك في أنّ دول المنطقة، وخصوصاً الدول العربية، غالباً ما جسّدت حكماً شخصياً أو أمنياً هشاً (ما يسميه دانيال برومبرغ "الدولة الركيزة"، التي تهتم ببقاء النظام أكثر من اهتمامها بالحكم الرشيد)، لكن الحل لا يكمن في تحطيم قدرة الدولة في مثل هذه الأماكن، بل في توجيه هذه القدرة لخدمة مصالح الأمة، لا النظام.

أدرك بعض صناع القرار في الولايات المتحدة، متأخراً، أنه بدون دول فاعلة، لن يستقر الشرق الأوسط أبداً. لقد أدّى الصراع المستمر والنزوح والمعاناة الإنسانية، إلى جانب فشل الحوكمة، إلى عقود من حالة الطوارئ الدائمة: فالحروب واللاجئون والفشل في الاستجابة لتغير المناخ ليست سوى أمثلة قليلة على الأزمات المستعرّة.

على مدار العقد الماضي، شجّعت الإدارات الأميركية المتعاقبة على إحياء ضروري للدولة، فقد ساعدت في رأب الصدع بين دول مجلس التعاون الخليجي، ووفّرت شريان حياة اقتصادياً للأردن ومصر، وساعدت في دفع رواتب الجيش اللبناني عندما أفلست الدولة، واتخذت قرارات حاسمة لدعم انتقال سوريا من بشار الأسد، واعترفت بالحكومة الجديدة، ورفعت بعض العقوبات، واستثمرت في الدولة العراقية الإشكالية والطائفية، وإن كانت ناشئة، وتفاوضت مع إيران بشأن برنامج طهران النووي.

تكمن المشكلة في الجانب الآخر، الذي يُفسد أحياناً عمل الأول. في إدارته الأولى، انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، وأفسح المجال لعشاق تغيير الأنظمة، وأطلق بايدن يد "إسرائيل" لتدمير غزة وتعزيز خطواتها لضم الضفة الغربية. وفي ولايته الثانية، انضم ترامب مباشرةً إلى حروب "إسرائيل" في إيران واليمن، ودعم الحملات العسكرية الإسرائيلية التي تُهدد بقاء الدولة في سوريا ولبنان (حتى مع تذمّر مسؤولي الإدارة من مغامرات بيبي أمام الصحافة).

لقد أعلنت "إسرائيل" بوضوح عن هدفها الاستراتيجي، وهو إبقاء الدول المنافسة ضعيفة إلى درجة تمنعها من تهديد "إسرائيل" استراتيجياً. يُظهر التاريخ الحديث مدى عبثية هذا النهج. تُولّد فراغات السلطة والدول الضعيفة تهديدات أمنية أكبر بكثير لجميع الأطراف المعنية، بما في ذلك شعوبها، و"إسرائيل"، والولايات المتحدة، والمجتمع الدولي. تزدهر جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتنظيم القاعدة في المناطق النائية غير الخاضعة للحكم.

لكن الإسرائيليين، الذين شجعهم ما يرونه سلسلة متواصلة من الانتصارات العسكرية بعد هجوم حماس الإرهابي في 7 أكتوبر/تشرين الأول، تبنوا استراتيجية تسعى إلى توسيع مناطق الفوضى في الشرق الأوسط، واثقين بأنهم استمالوا جيرانهم العرب أو أضعفوهم بشكل لا رجعة فيه، فهم الآن يزرعون الفوضى الدائمة في حلقة أوسع: اليمن والعراق وسوريا، والأهم من ذلك كله، إيران. يحلم بعض قادة "إسرائيل"، إلى جانب عدد من المسؤولين الأميركيين ذوي التوجهات المماثلة، بحرب لتغيير النظام ضد الجمهورية الإسلامية، لكنهم أعربوا عن رضاهم بالقدر نفسه عن مجرد إعاقة الدولة الإيرانية، ما يجعل شعبها يعاني وحكومتها تعاني. قال مسؤول أميركي لموقع "أكسيوس"، متحدثاً عن الإسرائيليين: "قد يكونون أكثر ارتياحاً لتدمير البلاد منا".

ما الذي يمكن أو ينبغي لواشنطن فعله رداً على ذلك؟ الولايات المتحدة متضاربة بشأن مدى رغبتها في التدخل في الشرق الأوسط. في بعض الحالات، يبدو القادة الأميركيون مصممين على البقاء بعيداً عن النزاعات الإقليمية وتجنب حروب جديدة. وفي الوقت نفسه، لا تزال القوات الأميركية منتشرة في العديد من الحروب المعلنة وغير المعلنة، وتعمل واشنطن بشكل مستمر على تمكين "إسرائيل" من تنفيذ عمليات قصف إقليمية غزيرة.

عندما تتدخل الولايات المتحدة، كما فعل ترامب بقصف المنشآت النووية الإيرانية، فإنها تُصرّ على البقاء على مسافة، داخل وخارج في آنٍ واحد. لا توجد هيمنة إقليمية أو نظام جماعي فعّال بما يكفي لتهدئة الأوضاع المتأججة. أقوى الدول في المنطقة هي "إسرائيل" وإيران ودول الخليج وتركيا. مصر أضعف من أن تؤدي دوراً يُذكر في تحقيق الاستقرار. في ظل هذه الخلفية، تكمن المصلحة الأميركية القصوى في ضمان الاستقرار والتوازن في هذا النظام.

إنّ الشرق الأوسط في حالة حرب وفوضى لا تصب في مصلحة أحد، حتى لو اعتقد القادة الإسرائيليون خطأً أنّ مثل هذه الفوضى سيفيد أمن "إسرائيل". من المؤكد أنّ حقبة أخرى من الصراع الإقليمي تُلحق الضرر بالمصالح الأميركية. يميل قادة أميركا بشكل متزايد إلى الشعبوية والانعزالية، ولكن كقوة عظمى عالمية، تجد حكومة الولايات المتحدة مراراً وتكراراً أنها لا تستطيع تجاهل الصراعات العالمية، وخصوصاً في الشرق الأوسط، الذي أثبت أنه ذو أهمية استراتيجية دائمة. لقد أصرت سلسلة من الرؤساء الأميركيين على أنهم يبتعدون عن الشرق الأوسط، قبل أن يوجهوا حتماً الجزء الأكبر من نطاق سياساتهم إلى المنطقة.

الدول الفاعلة وحدها هي القادرة على توفير أساسيات الحكم، وصون الحقوق، وحماية شعوبها، وهي المقومات الأساسية للاستقرار. يحتاج الشرق الأوسط إلى دول تتمتع بالكفاءة الأساسية: مؤسسات فاعلة، وبعض السلطة على الميليشيات، وخطة اقتصادية، وإمكانية الحصول على الدعم الدولي. حتى الدول الضعيفة أو الغامضة التي تتمتع ببعض القدرات أفضل من الفوضى وفراغ السلطة.

هناك بعض المؤشرات المشجعة، فقد تجنبت قوى الخليج أي انقسامات جديدة، على الرغم من اختلافاتها الكبيرة حول كيفية التعامل مع "إسرائيل" واليمن وإيران. وعلى الرغم من الضغوط الداخلية من الميليشيات والضغوط الخارجية من "إسرائيل" وإيران ودول أخرى، حافظ العراق على نظامه، وبنى بعض المؤسسات الفعالة، وبنى علاقات مستقرة مع القوى الإقليمية في الشرق الأوسط التي كانت بغداد بعيدة عنها تاريخياً.

لكن تُلقي مخاطر جسيمة بظلالها على كل احتمال ضئيل للخير في المنطقة. والتهديد الأكبر للمنطقة في الوقت الراهن يأتي من حرب "إسرائيل" الجامحة والمتنامية باستمرار. لا تستند عمليات القصف الإسرائيلية القريبة والبعيدة إلى أي منطق استراتيجي سوى زرع الفوضى وإضعاف السلطة. قد تُقوّض الضربات على سوريا عملية الانتقال هناك، لكنها لا تُسهم في تحقيق الأمن أو الحكم الرشيد للسوريين. لن تُفضي الحرب على إيران إلى تغيير النظام، لكنها بالفعل قد خربت الدبلوماسية - التي كانت ناجحة - ويبدو من شبه المؤكد أنها ستُسرّع من وتيرة التشرذم والفوضى. الإرهاب والحرب بالوكالة والعديد من أسوأ آفات الشرق الأوسط هي أسلحة الضعفاء التي يزرعها أصحاب الأيديولوجيات، والتي تتسارع في الدول الضعيفة أو الفاشلة من النوع الذي تسعى إليه تل أبيب.

من المرجح أن تكون مكاسب "إسرائيل" من دوامة الحرب وهمية، أو في أحسن الأحوال، قصيرة الأمد. لكن الحملة الرامية إلى تقويض الدول ونظام الدول في المنطقة ستُلحق ضرراً دائماً بالشرق الأوسط، وبالمصالح الأميركية. إنّ الدرس الأشد إيلاماً من التدخلات الأميركية الفاشلة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر هو أنّ هدم الدولة أسهل بكثير من بنائها. وبدون دول فاعلة، تواجه الولايات المتحدة جيلاً آخر من إهمال ازدهارها وأمنها، فيما تُدير الصراع في الشرق الأوسط.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.