"الغارديان": كيف استطاع ترامب إتقان لغة جذب الانتباه؟

بات الأشخاص الذين يصرخون بأعلى الأصوات يحظون بأكبر قدر من الاهتمام، وهذا ما حصل مع دونالد ترامب، صاحب أعلى مكبّر صوت والرجل الأكثر استماتة لجذب الانتباه في تاريخ الولايات المتحدة الذي وصل إلى السلطة. 

  • "الغارديان": بات الأشخاص الذين يصرخون بأعلى الأصوات يحظون بأكبر قدر من الاهتمام، تماماً كما ترامب

صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً تشرح فيه كيف يجذب الرئيس الأميركي دونالد ترامب اهتمام الأميركيين والعالم، لتحقيق أهدافه.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية: 

تتمثل الخطوة الأولى للفوز في أي نقاش عام في جذب الانتباه إلى موضوع رسالتك، إلا أنّ ذلك في حد ذاته لا يكفي. فجذب الانتباه يُعدّ وسيلة وليس غاية، لأن الغاية هي الإقناع. وبمجرد أن تحظى باهتمام الناس، يمكنك محاولة إقناعهم بالأدلة والحجج. لكنّ هذا النموذج التقليدي للتواصل قد تداعى، وأينما نظرت الآن، لن تجد أي مجموعة رسمية من المؤسسات التي تجذب انتباه الجمهور إلى موضوع ما، ولا قواعد أساسية تحدد من سيتحدث ومتى ومن سيستمع. وفي الوقت الراهن، بات الصراخ أسهل من أي وقت مضى، وسماعه أصعب من أي وقت مضى.

لقد استغرق هذا التحوّل وقتاً طويلاً. فقبل العصر الرقمي، كان هناك عصر التلفزيون، وكانت الوسائط المطبوعة تنظّم الخطاب العام والمؤسسات الديمقراطية ككل. بعد ذلك، ظهر التلفزيون ليدمّر كل ذلك، واستبدل ثقافتنا المكتوبة بثقافة الصور التي كانت بلا معنى. فأصبح الناس يتبادلون الصور بدلاً من الأفكار، ويتناقشون حول المظهر الجميل والمشاهير والإعلانات التجارية بدلاً من مناقشة المقترحات.

أمّا الأسلوب السائد للتواصل السياسي، فكان عبارة عن إعلان مدته دقيقة واحدة. وبعد ذلك، جذب عصر الإنترنت بالفعل أصواتاً جديدة إلى الخطاب الوطني الذي كان لفترة طويلة جداً خاضعاً لسيطرة مجموعة ضيقة جداً (بيضاء جداً، وذكورية جداً، وثرية جداً). فاتخذ الخطاب شكلاً جديداً عبارة عن مزيج من الكلمة والصورة. وبات الأشخاص الذين يصرخون بأعلى الأصوات يحظون بأكبر قدر من الاهتمام. وهذا ما حصل مع دونالد ترامب، صاحب أعلى مكبّر صوت والرجل الأكثر استماتة لجذب الانتباه في تاريخ الولايات المتحدة الذي وصل إلى السلطة. 

ويؤسفني أنني في هذه المرحلة مضطر للحديث مطولاً عن دونالد ترامب. إذ لا يمكنك ببساطة أن تكتب عن الكيفية التي بدأ بها عصر جذب الانتباه، باعتباره المورد الأكثر قيمة الذي أدى إلى تغيير سياساتنا، من دون الكتابة عن ترامب. فهو شخصية سياسية استغلت القواعد الجديدة لعصر جذب الانتباه بشكل كامل. وهذا لا ينطبق عادة على السياسيين. نعم، هم بحاجة إلى جذب الانتباه ليصبحوا أسماءً معروفة، ولكن هذه مجرد خطوة أولى. والسياسي يحتاج إلى جذب الانتباه كوسيلة لجعل الناس يحبونه ويصوّتون له. 

إنّ النهج الذي اتّبعه ترامب في التعامل مع السياسة منذ صيف عام 2015، عندما دخل السباق الرئاسي، يعادل الركض عارياً في الحي: منفّر ولكنه مثير للذهول. وقد وجد منافسوه المشهد برمّته مثيراً للغضب. وبصرف النظر عمّا فعلوه، من كشف النقاب عن خطة جديدة للسياسة الضريبية أو إلقاء خطاب حول الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في العالم، فإنّ الأسئلة التي واجهوها كانت تتمحور حول دونالد ترامب. لقد كان ترامب بمنزلة الشمس المثيرة للاهتمام التي يدور حولها جميع المرشحين الآخرين، وكانوا يدركون ذلك. ولم تكن هناك طريقة للهروب من قوة الجاذبية مهما فعلوا. وعلى عكس الحب أو التقدير، يمكن أن يكون جذب الانتباه إيجابياً أو سلبياً. ومن المؤكد أنّ ترامب يهتم بشدة بأنّ يحظى بالإعجاب، لكنه سيجذب الانتباه بأي شكل يمكنه الحصول عليه. وسيكون عرضة للإدانة والانتقاد والكراهية ما دمت تفكر فيه. والاستعداد لجذب الانتباه السلبي على حساب الإقناع هو في الحقيقة الحيلة البسيطة التي يستخدمها دونالد ترامب لاختراق الخطاب العام في عصر جذب الانتباه.

وكان لهذا النهج منطقه الخاص الذي وصل صداه إلى الحياة السياسية. فقد استشعر ترامب أنه في حال لفت الانتباه إلى مواضيع معينة، حتى لو فعل ذلك بأسلوب منفّر، فإن فوائد تسليط الضوء على القضايا التي يتمتع فيها هو والحزب الجمهوري بميزة استطلاعية ستفوق التكاليف. ومن الأمثلة الملموسة نذكر: في عام 2016، أظهرت استطلاعات الرأي أنّ الجمهوريين كانوا أكثر ثقة في مسألة الهجرة من الديمقراطيين. وأراد ترامب زيادة الانتباه الموجّه إلى هذه القضية، ولتحقيق هذه الغاية كان يقول باستمرار أموراً جامحة وبغيضة حول هذا الموضوع. ففي الدقائق القليلة الأولى من خطابه الأول، اتهم الحكومة المكسيكية "بإرسال" مغتصبين ومجرمين آخرين إلى الولايات المتحدة، وهو اتهام مثير للسخرية ومهين لدرجة أنّه دفع على الفور الكثير من الشركات والمنظمات (بما في ذلك شبكة "إن بي سي" التي عرضت برنامجه "The Apprentice") إلى قطع العلاقة معه. لكن تلك الخطوة كانت مجرد البداية. وكجزء أساسي من خطابه، وعد ببناء جدار على كامل مساحة الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك البالغة 2000 ميل، بل والأكثر سخافة، قال إنّه سيجعل المكسيك تدفع تكاليف بناء ذلك الجدار. وفي حزيران/يونيو من ذلك العام، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "غالوب" أنّ 66% من الأميركيين يعارضون بناء جدار على طول الحدود الجنوبية بأكملها.

قد تعتقد، في ضوء أرقام استطلاعات الرأي هذه، أنّ ترامب لن يستمر في طرح هذه القضية. لكن إصراره المستمر على اتباع هذه السياسة جذب الانتباه بشكل موثوق إلى قضية الهجرة، التي كان الجمهوريون بشكل عام يتمتعون فيها بميزة على الديمقراطيين. وعندما هاجم الخلفية المكسيكية الأميركية لقاض فيدرالي كان يحكم في دعوى قضائية، كان ذلك بمنزلة تصرف دنيء وناجم عن تعصّب، لكنه كان أيضاً فرصة أخرى لجذب الانتباه إلى موضوع الهجرة.

خلال الحملة الانتخابية، لن يكون لدى الناخبين سوى عدد قليل من الأمور في أذهانهم عند النظر في المرشحين والقضايا التي يركزون عليها. ففي نهاية حملة عام 2016، عندما طلبت مؤسسة "غالوب" من الناخبين كتابة كلمات مرتبطة بكل مرشح ومن ثم تم تحويل الإجابات على شكل سُحب من الكلمات، كانت سحابة كلمات هيلاري كلينتون تهيمن عليها بالكامل كلمة "رسائل البريد الإلكتروني"، في حين كانت سحابة كلمات ترامب تهيمن عليها كلمتا "المكسيك" و"الهجرة". فكانت هذه الطريقة التي حقق من خلالها ترامب انتصاره الضيّق في المجمّع الانتخابي؛ وتخلص من الطريقة المستبعدة المتمثلة في الإقناع من أجل جذب الانتباه، والقبول من أجل البروز. 

وفي عام 2024، كرّر ترامب هذا النموذج بشكل أو بآخر. وفي حين أظهرت استطلاعات الرأي أنّ شعبيته وقبوله ارتفعا قليلاً عما كانا عليه خلال فترة رئاسته الأولى، فإن سلبياته - كما يسميها منظمو الاستطلاعات - ظلت مرتفعة بالنسبة إلى مرشح ناجح. ولكن، مرة أخرى، كانت سيطرته على اهتمام الجمهور شبه كاملة. فقد شارك إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، بحماس في حملة ترامب منفقاً مبلغ 250 مليون دولار أميركي على الحملة بشكل مباشر، ومتلاعباً بالنتائج على منصة "إكس". وقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أنّ شعبية ماسك قد انخفضت بشكل كبير مع جذب تصرفاته الغريبة مزيداً من الانتباه، ولكن في النهاية، جذبُ الانتباه هو الهدف وقد تحقق. 

يُعدّ ترامب مُناظراً فظيعاً في الفهم التقليدي لهذا المصطلح. فهو لا يتفاعل ولا يفنّد ادعاءاته بحجج منطقية. ومن المثير أنّه عندما تقوم بنسخ أي شيء يقوله، يكون غريباً من الناحية التركيبية ومليئاً بعلامات القطع. وفي كثير من الأحيان، على مستوى الجملة، يكون ما يقوله خالياً تقريباً من المحتوى الافتراضي. فجُلّ ما يفعله هو التحدث بأسلوب خادع وسريع ومتواصل ومهين. إنه يسعى لجذب الانتباه أكثر من أي شيء آخر. 

إننا نشهد اليوم تآكل آخر بقايا نظام جذب الانتباه الوظيفي، النظام الذي من شأنه توجيه الآليات الأساسية، ومن ضمنها آلية اختيار الشخصية السياسية الوحيدة التي ينتخبها كل المواطنين لتمثيل البلاد. فعلى سبيل المثال، خلال الأشهر الأولى من عام 2024، بدأت سياسة جو بايدن المتمثلة في الدعم الأميركي الكامل للرد العسكري الإسرائيلي على الهجوم الذي نفذته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، في كسر التحالف الديمقراطي، بحيث أصبحت الحقيقة الوحشية المطلقة لتأثيرها على المدنيين في غزة واضحة. وقد حدث كل هذا في عام الانتخابات الرئاسية، بحيث كان للحزب الجمهوري مرشح فعلي وهو دونالد ترامب. وفي ظل هذه الظروف، تتوقع ظهور نقاش قوي بين المرشحَين المحتملَين حول قضية السياسة الخارجية المميزة هذه. فما هو موقف دونالد ترامب من الدعم الأميركي للهجوم الإسرائيلي على غزة؟

لقد تجنّب إلى حد كبير توضيح موقفه من القضية. وعندما كان يُسأل عن ذلك، كان يقول: "لو كنت رئيساً، لما حدث ذلك" ويواصل كلامه. وبينما كان من الواضح أنه سيدعم جهود الحرب التي تبذلها حكومة نتنياهو (قائلاً إنه يريد السماح لها "بإنهاء المهمة")، لم تقدم حملة ترامب قط أي ورقة موقف أو رؤية شاملة لسياستها. وكان الأمر عبارة عن مجموعة من الخطب الرنانة والمراوغات في كثير من الأحيان. وفي ظل هذه الظروف، كيف من المفترض أن يبدأ الناخبون في تقييم من سيصوّتون له؟

لقد تمكّن ترامب من الإفلات من هذا الأمر جزئياً على الأقل بسبب الانخفاض الحاد في قدرة الصحافة السياسية على تركيز انتباه البلاد بشكل فعّال. مع العلم أنها كانت في ما مضى تستخدم تلك السلطة لتحقيق غايات كنت أجدها مزعجة، مثل التركيز على فضائح تافهة أو قضايا سباق الخيل العابرة. ولكن كمؤسسة، فإن ما كان يُطلق عليه صحافة الحملات الانتخابية أو الصحافة السياسية الوطنية كانت تمتلك القدرة على جذب انتباه الجمهور. 

ونظراً لأن الحفاظ على التركيز أصعب في عصر جذب الانتباه، فقد بات أكثر أهمية. كما أنّ القصص والقضايا التي تحظى باهتمام الرأي العام بشكل متفاوت ستكون لها عواقب وخيمة على كيفية عمل الحكومة والاختيارات التي سيتخذها ممثلونا المنتخبون. 

وتتجلى مشكلة جذب الانتباه بشكل واضح في قضية تغيّر المناخ. إذ تشير أفضل تقديراتنا إلى أننا نشهد تسجيل أعلى درجة سخونة على الكوكب منذ 150 ألف عام. وتأثيرات تغير المناخ واضحة للعيان، لكن تغير المناخ نفسه - التراكم البطيء والمطرد وغير المرئي للغازات الدفيئة في الغلاف الجوي - غير محسوس بالمعنى الحرفي للكلمة. عندما أراد المخرج آدم ماكاي أن يصنع فيلماً ضخماً في هوليوود حول تغير المناخ، وكان من المفترض أن يجذب انتباه المشاهدين لأكثر من ساعتين، اختار أن يعالج الموضوع من خلال قصة رمزية عن مذنّب يتجه بسرعة نحو الأرض وسيتسبب بتدمير الكوكب ويقضي على الحياة البشرية. ومن أكثر اللحظات المثيرة في فيلم "Don’t Look Up"، عندما يظهر المذنب في السماء ويلاحظ الناس ذلك، وتتوقف حركة المرور، ويخرج السائقون والركاب من سياراتهم لينظروا إليه في حالة من الذهول والذعر. وقد اتخذ الناشطون في مجال المناخ في مختلف أنحاء العالم تدابير يائسة على نحو مطرد لإنتاج ذلك النوع من المشاهد التي  من شأنها أن تجذب انتباه الرأي العام. فاضطر البعض إلى إيقاف سياراتهم في منتصف الطريق، وتقييد أنفسهم ببعضهم البعض رافضين التحرك، ما تسبب في زحمة سير خانقة وغضب الناس لتصل كاميرات الأخبار في النهاية. إنّ رد الفعل على هذه الجهود يكاد يكون سلبياً، اعتقاداً بأنها لا تخدم القضية وتُظهر المشاركين في النشاط بمظهر غريبي الأطوار. إلا أنّ ما لا يلتفت إليه الناس أننا نتجه نحو كارثة ويبدو أنّ لا أحد يوليها الاهتمام الذي تستحقه. 

في الخلاصة، يمكنك أن تكون مهذباً ومتحضراً ويتم تجاهلك، أو يمكنك أن تعبث وتجذب انتباه الناس. وهذه هي الخيارات المتاحة في حرب الكل ضد الكل الفوضوية في عصر جذب الانتباه، ومن الصعب جداً بالنسبة لي أن ألوم هؤلاء الأشخاص على اختيارهم الخيار الأخير ومنهم ترامب.

نقلته إلى العربية: زينب منعم.