"فورين أفيرز": "إسرائيل" وترامب واتفاق غزة.. هل يستطيع نتنياهو البقاء من دون حرب؟
إنّ العام المقبل لن يكون هادئاً لـ "إسرائيل"، وخلال هذا الوقت، من المرجّح أن يتضح ليس فقط مصير غزة، بل وأيضاً الدور الذي ستؤدّيه "إسرائيل" في الشرق الأوسط الجديد الذي يتصوّره ترامب، حتى برغم صعوبة فهم هذه الرؤية نفسها.
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً للصحافي والمحلّل الإسرائيلي عاموس هرئيل، تحدّث فيه عن ظروف اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، وأبعاده وتأثيره السياسي على رئيس حكومة الاحتلال، بالإضافة إلى مستقبل الاتفاق الذي تحدّده أهداف ترامب ونتنياهو وضغوط اليمين المتطرّف في "إسرائيل" والإسرائيليين.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
في الأيام التي تلت وقف إطلاق النار في غزة في 19 كانون الثاني/يناير، وجد العديد من الإسرائيليين أنفسهم في عاصفة عاطفية تكاد تكون قوية مثل صدمة هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. والفرق بالطبع هو أنّ العاصفة هذه المرة لا يدفعها الحزن والرعب الذي لا يوصف، بل الفرح، وللمرة الأولى منذ أكثر من خمسة عشر شهراً، الأمل. بالفعل، تعرّض الاتفاق الهشّ لضغوط كبيرة، وقد ينهار في الأسابيع المقبلة. ومع ذلك، توقّف القتال في غزة ولبنان في الوقت الحالي، وبدأ الأسرى في العودة إلى ديارهم. وكما يتبيّن من تدفّق ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة الإسرائيلية، استقبلت الغالبية العظمى من الإسرائيليين الاتفاق باعتباره سبباً للاحتفال، حتى أولئك الذين عارضوه لأسباب استراتيجية أو أيديولوجية.
ولكن الاستجابة الساحقة للاتفاق تتعلّق بما يعنيه الاتفاق بالنسبة لهوية "إسرائيل" المحاصرة. والقضية الأساسية بالنسبة للإسرائيليين، والتي قد لا يدركها المراقبون الخارجيون بشكل كامل، هي أنه منذ تأسيس "إسرائيل" في عام 1948، بعد ثلاث سنوات من نهاية الهولوكوست، حدّدت البلاد نفسها من خلال مكانتها كملاذ آمن لليهود. لأكثر من 70 عاماً، وعلى الرغم من الحروب الكبرى والتحديات المتكررة، كانت قادرة على الحفاظ على هذا المثل الأساسي. ولكن مع هجمات السابع من أكتوبر، تمزّق هذا الوضع. لقد تحطّم الاعتقاد بأنّ "الجيش" والأجهزة الأمنية الأخرى ستصل دائماً في الوقت المناسب لإنقاذ اليهود أثناء المحنة. وبالنسبة للعديد من الإسرائيليين، استمرّ هذا الفشل طوال أكثر من 15 شهراً من الحرب، حيث أثبتت الحكومة عجزها عن إنقاذ أو إعادة عدد كبير من الأسرى البالغ عددهم 251، إسرائيليين وأجانب - الذين تمّ أسرهم في غزة.
ولكنّ الصفقة تأتي بثمن باهظ، ومن غير الواضح إلى متى قد تصمد. ففي مقابل الإفراج عن أول 33 أسيراً، وافقت "إسرائيل" على إطلاق سراح نحو 1700 سجين فلسطيني، بمن في ذلك أكثر من 200 يقضون أحكاماً بالسجن المؤبّد بتهمة قتل إسرائيليين. وهذه ليست سوى الجولة الأولى من التنازلات. وبمجرّد اكتمال "المرحلة الأولى"، سيظل 64 أسيراً في غزة، ويُعتقد أنّ أقلّ من 30 منهم على قيد الحياة. وسوف يتطلّب إطلاق سراحهم إطلاق سراح آلاف السجناء الفلسطينيين الآخرين، بمن في ذلك العديد ممن يقضون أحكاماً بالسجن المؤبّد. وسوف يشمل المفرج عنهم أيضاً سجناء ينظر إليهم الإسرائيليون باعتبارهم "إرهابيين مشاهير"، وهم شخصيات رفيعة المستوى في الجماعات الفلسطينية المسلحة المسؤولة عن تدبير التفجيرات الانتحارية التي أوقعت أعداداً كبيرة من الضحايا في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن. وهؤلاء سجناء لم توافق أيّ حكومة إسرائيلية من قبل على إطلاق سراحهم.
بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنّ كلّ هذا يمثّل معضلة ضخمة. فهو يحتاج إلى شركائه في الائتلاف اليميني المتطرّف للبقاء في السلطة. لكنهم يعارضون بشدة وقف إطلاق النار، وعلى النقيض من غالبية كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، يطالبون باستئناف الحرب أو الاستقالة. وإذا أجريت انتخابات جديدة اليوم، فمن المحتمل أن يخسر نتنياهو. وفي الوقت نفسه، يتعيّن على رئيس الوزراء الآن أن يتعامل مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يفرض ضغوطاً هائلة لإنجاز الأمور على طريقته ويقول إنه لن يتسامح مع استمرار الحرب في عهده. ومن المتوقّع أن يلتقي نتنياهو بترامب في البيت الأبيض في أوائل شباط/فبراير.
إنّ ما سيحدث بعد ذلك يعتمد في المقام الأول على الرئيس الأميركي. فالإدارة المقبلة لديها خطط كبيرة. ولعدة أشهر، كان مساعدو ترامب ومستشاروه يتحدّثون عن الترتيبات الإقليمية التي يريد ترامب تأسيسها. ويبدو أنّ هدفه الرئيسي يكمن في صفقات التكنولوجيا والدفاع بمليارات الدولارات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وستكون الخطوة المرافقة هي اتفاق تطبيع إسرائيلي سعودي كبير، مماثل للاتفاق الذي حاولت إدارة بايدن دفعه في خريف عام 2023. (وصف قادة حماس لاحقاً إحباط تلك الصفقة بأنه أحد دوافعهم لشنّ هجمات 7 أكتوبر). ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، سيحتاج ترامب إلى استمرار وقف إطلاق النار في غزة، إلى جانب نظيره في لبنان، لأطول فترة ممكنة، سواء كان كلا الجانبين مهتمين حقاً بالسلام أم لا.
الحرب التي باءت بالفشل
إنّ القصة وراء وقف إطلاق النار في غزة طويلة بقدر طول الحرب نفسها. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وبعد أن توصّل قادة حماس إلى استنتاج مفاده أنّ العدد الكبير من النساء والأطفال الذين اختطفتهم الحركة يشكّلون عبئاً أكثر من كونهم أصولاً استراتيجية، تفاوضوا على أول اتفاق لوقف إطلاق النار مقابل الأسرى مع "إسرائيل"، بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة. وفي ذلك الوقت، سارعت حماس إلى التخلّص من هؤلاء الأسرى في مقابل فائدة ضئيلة مقارنة بمثل هذه الصفقات السابقة، قد تمّ إطلاق سراح ثلاثة سجناء فلسطينيين، معظمهم من النساء والقاصرين، في مقابل كلّ رهينة إسرائيلية.
ومن الناحية النظرية، كان من المفترض أن يؤدي التبادل الأولي بعد سبعة أيام إلى مرحلة ثانية، حيث يتمّ تمديد وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى المتبقّين تدريجياً في مقابل ثمن أعلى من "إسرائيل". ولكنّ المفاوضات توقّفت في اليوم السابع، وعلى عكس توقّعات الوسطاء، استؤنف القتال، وأعادت القوات الإسرائيلية إطلاق غزوها البري الضخم لوسط غزة. وسرعان ما توسّعت تلك الحملة إلى المناطق الجنوبية من القطاع.
في الأشهر التالية، وعلى الرغم من الجهود المتكررة، انهارت المفاوضات الرامية إلى التوصّل إلى اتفاق جديد. وبحلول أيار/مايو 2024، كانت إدارة بايدن محبطة للغاية بسبب الافتقار إلى التقدّم من جانب الحكومة الإسرائيلية لدرجة أنّ الرئيس جو بايدن اتخذ خطوة غير عادية بالإعلان عن وقف إطلاق النار مقابل صفقة الأسرى التي قال إنّها تمّت الموافقة عليها سراً من قبل "إسرائيل"، لكنّ نتنياهو رفضها. (في الواقع، كانت في الأساس الصفقة نفسها التي وافقت عليها إسرائيل الآن). ومع ذلك، طوال عامه الأخير في منصبه، قدّم بايدن لنتنياهو بشكل عامّ غطاءً، وألقى باللوم في الغالب على حماس في انهيار المحادثات.
ومع ذلك، كان العديد من أعضاء فريق التفاوض الإسرائيلي يعرفون خلاف ذلك. لقد اشتبهوا في أنّ نتنياهو كان يخرّب المحادثات عمداً كلما اقتربت من النضج، لأنه كان يخشى أن يستقيل شركاؤه في الائتلاف اليميني المتطرف، الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، إذا تمّ تنفيذ الاتفاق. وإذا انهارت الحكومة، فإنّ نتنياهو نفسه يواجه خطراً قانونياً متزايداً في قضايا الفساد الثلاث المرفوعة ضده. وهكذا، من خلال المماطلة المستمرة في التوصّل إلى اتفاق، بدا رئيس الوزراء وكأنّه يعطي الأولوية لبقائه السياسي والشخصي على إعادة الأسرى إلى ديارهم.
وفي الوقت نفسه، أدّى فشل الحكومة المستمر في تأمين صفقة إلى احتجاجات متزايدة بين قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، بقيادة أسر الأسرى. وفي "تل أبيب"، تجمّع عشرات الآلاف من الناس في احتجاجات أسبوعية، وتمّت إعادة تسمية ساحة رئيسية بالقرب من مقر "الجيش" الإسرائيلي باسم "ساحة الأسرى". وكثيراً ما أغلقت أسر الأسرى ونشطاء الاحتجاج الطرق الرئيسية. وكانت اللامبالاة الواضحة من جانب الحكومة تجاه الأسرى، على الرغم من السيطرة العسكرية شبه الكاملة لـ "الجيش" الإسرائيلي على غزة وحقيقة أنّ العديد من الأسرى كانوا محتجزين على بعد بضعة كيلومترات من مواقع "الجيش"، كانت سبباً في تعميق إحباط الجمهور.
وعلى مدار فترة الحرب بأكملها، نجح "الجيش" في إنقاذ ثمانية أسرى فقط من غزة، أي نحو 3% فقط من إجمالي عدد الأسرى. وفي الوقت نفسه، عُثر على عشرات آخرين قتلى، أخفاهم فلسطينيون في مواقع مختلفة داخل القطاع. وهذه النتائج هزيلة بشكل مذهل بالنسبة لـ "إسرائيل" التي تفتخر منذ فترة طويلة بمهام الإنقاذ الجريئة التي تقوم بها. ولنتأمّل هنا عملية عنتيبي في عام 1976، والغارة التي شنّتها قوات الكوماندوز الإسرائيلية في أوغندا، والغارة التي قُتل فيها الأخ الأكبر لرئيس الوزراء، المقدّم يوناتان نتنياهو، التي نجحت في إنقاذ 102 من أصل 106 أسرى احتجزهم مسلّحون فلسطينيون. وفي العقود التي تلت ذلك، تزايدت المخاطر التي تنطوي عليها مثل هذه العمليات، سواء بالنسبة لقوات الإنقاذ الإسرائيلية النخبوية أو الأسرى أنفسهم.
ومع استمرار الحرب في غزة من دون التوصّل إلى اتفاق، تضاءلت الآمال في الإفراج عن الأسرى. ففي حزيران/يونيو 2024، وبعد أن أنقذت القوات الإسرائيلية أربعة أسرى من مخيّم النصيرات للاجئين في وسط غزة، قُتل ستة مدنيين إسرائيليين، وكان من الصعب على العديد من الإسرائيليين ألا يروا أنّ هذا نتيجة لحرب فاشلة.
ترامب أو الخيار الأصعب
إذا كانت الهدنة التي تمّ التوصّل إليها قد أشارت إلى نقطة تحوّل محتملة، فإنّ أزمة الثقة التي تعيشها "إسرائيل" ما زالت بعيدة كلّ البعد عن الإصلاح. فالمجتمع الإسرائيلي منقسم بشكل حادّ، وسوف تعمل شخصية نتنياهو المثيرة للانقسام على تعقيد عملية إعادة البناء. فضلاً عن ذلك فإنّ عجز الحكومة عن الوفاء بوعدها بتحقيق "النصر الكامل" على حماس على الرغم من الميزة الساحقة التي يتمتّع بها "الجيش" الإسرائيلي في ساحة المعركة، ورفض نتنياهو السماح بإجراء تحقيق مستقل في الإخفاقات التي أدت إلى السابع من تشرين الأول/أكتوبر يشكّلان عقبات كبيرة أمام أيّ مصالحة.
وعلاوة على ذلك، قدّمت الحكومة، كجزء من وقف إطلاق النار، تنازلات أخرى كبيرة. ففي الأسبوع السابع من وقف إطلاق النار، سينسحب "الجيش" الإسرائيلي من الممر الأمني الذي أنشأه في وسط غزة لفصل الشمال عن الجنوب، كما التزم بالانسحاب من ما يسمّى بممر فيلادلفيا على طول الحدود الجنوبية لقطاع غزة مع مصر، بالقرب من رفح. من المؤكّد أنّ "إسرائيل" ستصرّ على الاحتفاظ بشكل ما من أشكال الوجود العسكري في ما تسميه المحيط الأمني، وهي منطقة عازلة تمتد نحو كيلومتر واحد خارج السياج الحدودي إلى الأراضي الفلسطينية على طول الحدود بالكامل.
لقد أثارت هذه التنازلات، إلى جانب إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، انتقادات شديدة ليس فقط من الأحزاب اليمينية المتطرفة ولكن أيضاً من أنصار نتنياهو الأساسيين. مثلاً، "القناة 14"، شبكة التلفزيون المؤيدة لنتنياهو والتي تشبه مزيجاً من "فوكس نيوز" و"نيوزماكس"، طوال الحرب، تجنّبت الشبكة جميع الأسئلة حول مسؤولية رئيس الوزراء عن الإخفاقات الأمنية الكارثية في 7 أكتوبر وبرّرت كلّ قرار اتخذه منذ ذلك الحين. لكنّ حقيقة وقف إطلاق النار والتنازلات غير المسبوقة التي انطوت عليها قلبت رواية "القناة 14".
لا شكّ أنّ العامل الرئيسي في هذا الواقع الجديد هو ترامب. وما تغيّر بين تموز/يوليو 2024، عندما رفضت "إسرائيل" اتفاق وقف إطلاق النار، وكانون الثاني/يناير، عندما قبلت الاتفاق نفسه تقريباً، بسيط: فقد فاز ترامب في الانتخابات وكان يستعدّ لتولّي منصبه. وعلى النقيض من أنصاره المتشدّدين، فهم نتنياهو على الفور العواقب المترتّبة على ذلك بالنسبة لـ "إسرائيل". فمنذ الانتخابات الأميركية، دارت مناقشات محمومة بين مساعدي ترامب ونتنياهو. فقد أُرسِل عضو مجلس الوزراء الإسرائيلي رون ديرمر، وهو أقرب المقرّبين إلى نتنياهو ونقطة الاتصال الرئيسية منذ فترة طويلة مع الإدارات الجمهورية، عدة مرات إلى واشنطن وإلى منتجع ترامب في مارالاغو.
في حين احتفل أنصار نتنياهو بتعيين حلفاء إسرائيليين من اليمين المتطرّف في مناصب رفيعة المستوى في الولايات المتحدة، لاحظ نتنياهو وديرمر الأولويات المختلفة لترامب. فقد أدركا أنّ العديد من مستشاري ترامب لديهم أيضاً ميول انعزالية ويتبنّون وجهة نظر متشكّكة بشأن التدخّلات العسكرية. وقد صرّح الرئيس نفسه مراراً وتكراراً قبل انتخابه ومنذ انتخابه أنه على الرغم من الادّعاءات بخلاف ذلك، فإنه ينوي إنهاء الحروب بدلاً من بدء حروب جديدة.
في حالة "إسرائيل"، كان الهدف المباشر لترامب هو وقف الحرب في غزة كجزء من صفقة الأسرى. ومع اقتراب يوم التنصيب، ألحّ مراراً وتكراراً على الأمر وحتى هدّد "بفتح أبواب الجحيم" إذا لم تتمّ تلبية طلبه. في "إسرائيل"، فسّر الكثيرون هذا على أنه تهديد لحماس، أو ربما أكثر من ذلك تجاه مصر وقطر، الوسيطين في المفاوضات. لكنّ نتنياهو ربما فهم ذلك أيضاً على أنه رسالة موجّهة إليه.
بحلول أواخر كانون الأول/ديسمبر، توصّل ترامب وبايدن إلى تفاهم غير عادي بشأن غزة: ستعمل الإدارتان معاً لتحقيق وقف إطلاق النار بحلول 20 كانون الثاني/يناير. عند هذه النقطة، استؤنفت المفاوضات المكثّفة في الدوحة، بين وفد إسرائيلي وممثّلي الوسطاء وبشكل منفصل مع قيادة حماس في الخارج. وفي انحراف غير عادي عن البروتوكول المعتاد لإدارة لم تتولَّ السلطة بعد، انضم ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب المعيّن إلى الشرق الأوسط وقطب العقارات في نيويورك، إلى المحادثات. وعلى الرغم من افتقاره إلى أيّ خلفيّة مهنية في شؤون الشرق الأوسط، إلا أنّ ويتكوف كان يتمتع بمهارة في صنع الصفقات، وأفاد المشاركون الإسرائيليون أنه بمجرّد دخوله الغرفة، اكتسبت المفاوضات زخماً.
ثم، في يوم الجمعة، 10 كانون الثاني/يناير، حدث أمر غير عادي. فقد طلب ويتكوف، الذي اتصل من الدوحة، على وجه السرعة عقد اجتماع صباح السبت مع نتنياهو في القدس. ونادراً ما يعقد نتنياهو، الذي يتعافى من جراحة البروستاتا، اجتماعات يوم السبت وحاول تأجيلها إلى ليلة السبت. لكن ويتكوف أصرّ، ولم يتمكّن نتنياهو من التخلّص منه. ووصفت المصادر الإسرائيلية اجتماعهما بعبارات مبالغ فيها، وشبّهته بمشاهد من فيلم "العرّاب". وفي المساء نفسه، سمح نتنياهو لكبار المسؤولين؛ رئيس الموساد ديفيد برنياع، ومدير الشاباك رونين بار، ومنسّق الأسرى والمفقودين في "الجيش" الإسرائيلي اللواء نيتسان ألون، بالسفر إلى قطر للمرة الأولى منذ أشهر. وهذه المرة، منحهم تفويضاً أوسع للمفاوضات. وبعد ثمانية أيام، تمّ توقيع الاتفاق، ودخل حيّز التنفيذ في اليوم السابق لتنصيب ترامب.
وعلى الرغم من التنازلات الكبيرة التي ينطوي عليها الأمر، لم يناقش نتنياهو الاتفاق علانيّة مع الجمهور الإسرائيلي. وبدلاً من ذلك، يواصل إرسال رسائل متضاربة إلى جماهير مختلفة. وكانت سياسة نتنياهو الراسخة دائماً هي مجموع كل مخاوفه، وهذه المرة، كان ممزّقاً بين ضغوط ترامب وتهديدات اليمين المتطرّف بتفكيك حكومته. وبحلول أواخر كانون الثاني/يناير، بدا أنّ خوفه من ترامب قد ساد. لكنّ الأمر لم ينتهِ بعد. فعلى الرغم من استقالة بن غفير من الحكومة احتجاجاً على الاتفاق، وإعلان سموتريتش أنه سينتظر حتى اكتمال المرحلة الأولى من الاتفاق، فقد أشار كلاهما إلى أنهما سيعودان إلى الائتلاف إذا أوقف نتنياهو تنفيذ الاتفاق واستأنف الحرب.
في اليوم التالي لدخول الاتفاق حيّز التنفيذ، قال سموتريتش في مقابلة إذاعية إنّ بايدن سلّم نتنياهو خطاباً يسمح لـ "إسرائيل" باستئناف الأعمال العدائية في اليوم الـ 43 من الاتفاق إذا فشلت مفاوضات المرحلة الثانية. ووصف الصحافي الإسرائيلي أمير تيبون الموقف بصراحة: "نتنياهو يخدع ترامب ويستعدّ لتخريب اتفاق وقف إطلاق النار". وتوقّع تيبون أن يفعل ذلك بطريقتين: ببساطة عن طريق تأخير مفاوضات المرحلة الثانية حتى ينفد الوقت، أو عن طريق إثارة تصعيد عنيف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. بالفعل، كان الناشطون الإسرائيليون من اليمين المتطرّف يتجوّلون في قرى الضفة الغربية، ويحرقون الممتلكات احتجاجاً على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، ويستعدّ جهاز الأمن الداخلي (شاباك) لهجمات إرهابية محتملة من قبل نشطاء اليمين المتطرّف الذين يسعون إلى إفشال الاتفاق. كما أدّى وزير الأمن يسرائيل كاتس، الذي يُنظر إليه على أنه دمية في يد نتنياهو، إلى تأجيج التوترات بإعلانه إطلاق سراح العديد من المستوطنين اليمينيين المتطرّفين من الاعتقال الإداري.
ويرى ديفيد ماكوفسكي، المحلّل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والمراقب المخضرم لنتنياهو، أنّ رئيس الوزراء سيحاول إيجاد حلّ وسط. ويقول إنّ نتنياهو "سيحاول إقناع ترامب بمنحه بضعة أسابيع أو أشهراً أخرى لاستكمال العملية العسكرية ضد حماس، ثم الاعتماد على تشتيت انتباه الرئيس المنتخب بأمور أخرى".
في 19 كانون الثاني/يناير، حاولت حماس استغلال إطلاق سراح الأسرى الثلاثة الأوائل؛ رومي جونين، وإميلي داماري، ودورون شتاينبريشر لإظهار قوتها من جديد. عندها ظهر العشرات من أفراد جناحها العسكري، مسلحين وملثمين، أمام الكاميرات في وسط مدينة غزة، وهي المنطقة التي لم يظهروا فيها إلا نادراً منذ وقف إطلاق النار السابق بسبب الضربات التي شنّها "الجيش" الإسرائيلي. وتجمّع حولهم حشد فلسطيني كبير، وحول السيارة التي كانت تنقل الأسرى إلى موظفي الصليب الأحمر.
ولم يتم القضاء على حماس في غزة، على النقيض من وعود نتنياهو، وهي مستمرّة في الحفاظ على بعض مسؤولياتها المدنية وقدراتها العسكرية، على الرغم من الضربات الشديدة التي تلقّتها أثناء الحرب.
في غضون ذلك، أصبحت غزة في حالة خراب، حيث أصبحت 70% على الأقل من المنازل غير صالحة للسكن، وكان الثمن الذي دفعه الفلسطينيون باهظاً. ووفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية التي تسيطر عليها حماس، قُتل أكثر من 47 ألف غزيّ في الحرب؛ وقد يكون الرقم النهائي أعلى من ذلك بكثير، حيث لا يزال العديد من الجثث تحت الأنقاض. وقد استنفدت الحرب المطوّلة سكان غزة تماماً، حيث نزح ما يقرب من 90% منهم من منازلهم وأجبروا على العيش في خيام في مخيمات مؤقتة في الجزء الجنوبي من القطاع. وانقطعت المساعدات الإنسانية والطبية إلى حدّ كبير عن بعضهم لعدة أشهر.
إنّ الاتفاق الحالي، إذا لم ينهرْ، قد يسمح لحماس بالبقاء على قيد الحياة على الرغم من وضعها الضعيف واستعادة السيطرة على غزة بسرعة.
هل يستعدّ اليمين للحسابات؟
في ظلّ الخطط التي وضعها البيت الأبيض للمنطقة، فمن غير المرجّح أن يقف ترامب مكتوف الأيدي بينما يحاول الجناح الأيمن لنتنياهو إسقاط وقف إطلاق النار. وبالفعل، بدأت قائمة رغبات ترامب تتشكّل: الهدوء الطويل الأمد في غزة، والتطبيع مع السعودية، وإذا أمكن، اتفاق لإزالة التهديد النووي الإيراني. وسوف يجدّد ترامب "أقصى قدر من الضغط" ضد طهران، التي تواصل تعزيز برنامجها النووي على الرغم من الضربات التي تعرّضت لها. ولكن في الوقت الحالي يبدو من غير المرجّح أن يدعم توجيه ضربة استباقية إلى المنشآت النووية الإيرانية، كما كان يأمل البعض في حكومة نتنياهو بشدة.
ولكن من المرجّح أن يسعى ترامب بدلاً من ذلك إلى الاستفادة من تنسيقه الوثيق مع نتنياهو، وربما إمداد القوات الجوية الإسرائيلية بالذخائر الدقيقة، للإشارة إلى الإيرانيين بأنهم سيكونون في وضع أفضل إذا تنازلوا ووقّعوا على اتفاق نووي جديد، حتى وإن كان أكثر قسوة من الاتفاق الذي توصّلوا إليه مع الرئيس باراك أوباما في عام 2015. ومن المرجّح أن يكون لتحرّك ترامب دافع آخر يتعلّق بطبيعته التنافسية وازدرائه لأسطورة أوباما. وتزعم مصادر في واشنطن أنّ ترامب يسعى إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام في عامه الأول من ولايته الثانية كرئيس. ومن المرجّح أن يمرّ الطريق إلى هذه الجائزة عبر القدس والرياض وطهران أكثر مما يمرّ عبر اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا.
إنّ أحد مكوّنات الإطار الناشئ الذي يطرحه ترامب، وهو إنهاء الحرب في غزة، سيكون من الصعب على أقصى اليمين في "إسرائيل" قبوله. وإذا تحرّك نتنياهو قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من الصفقة، بما في ذلك الانسحاب الكامل من القطاع، فمن المرجّح أن تسقط حكومته. وحتى إذا نجت بطريقة ما أعجوبية، لبضعة أسابيع أخرى حتى نهاية آذار/مارس، فمن المرجّح أن تنهار عند هذه النقطة، بسبب الأزمة السياسية الناشئة بشأن الجهود الرامية إلى إعفاء جميع الرجال المتديّنين المتطرفين (الحريديم) من الخدمة العسكرية الإلزامية. من الناحية النظرية، قد يقرّر نتنياهو التحوّل سياسياً نحو المركز الإسرائيلي، وركوب أذيال ترامب، والإعلان عن أنه وحده القادر على تحقيق اتفاقيات تاريخية مع الحفاظ على أمن "إسرائيل". وسوف يحتاج نتنياهو إلى محاولة كلّ هذا بينما تستمر محاكمته بتهمة الفساد في الخلفية وينمو تهديد آخر لمستقبله الذي يتجلى في حملة من قبل أسر الجنود الثكالى الذين قتلوا في السابع من أكتوبر لإنشاء لجنة تحقيق مستقلة لفحص فشل الحكومة في منع الهجوم.
لقد زعم إران هالبرين، الخبير في علم النفس السياسي في الجامعة العبرية في القدس، بشكل مقنع أنّ السبب الحقيقي وراء معارضة اليمين المتطرف في "إسرائيل" لإنهاء الحرب في غزة ليس سياسياً أو أيديولوجياً. وكتب: "إن ما يدفع حقاً إلى محاولة تخريب الصفقة هو القلق من أنها ستحطّم الرابط الأساسي بين استخدام القوة العسكرية غير المحدودة والقدرة على توفير الأمن لمواطني إسرائيل". بعبارة أخرى، فإنّ نهاية الحرب ستجبر الإسرائيليين في نهاية المطاف على الاعتراف بأنّ حكومة نتنياهو اليمينية فشلت تماماً في منع السابع من أكتوبر أو هزيمة المجموعة التي ارتكبتها، على الرغم من 15 شهراً من الحرب الوحشية.
خلال السنوات الخمس الماضية، تحمّل الإسرائيليون جائحة كوفيد-19، وخمس دورات انتخابية، ومحاولة لتمرير إصلاحات قضائية عدوانية للغاية، وحرباً بدأت بهجوم مروّع وانتشرت إلى عدة ساحات في وقت واحد. ووفقاً لجميع المؤشرات، فإنّ العام المقبل لن يكون أكثر هدوءاً. ولكن خلال هذا الوقت، من المرجّح أن يتضح ليس فقط مصير غزة، بل وأيضاً الدور الذي ستؤدّيه "إسرائيل" في الشرق الأوسط الجديد الذي يتصوّره الرئيس الأميركي القادم، حتى برغم صعوبة فهم هذه الرؤية نفسها، مثل العديد من أفكار ترامب.
نقلته إلى العربية: بتول دياب