"فورين بوليسي": ترامب لا يستطيع أن يرهب أميركا اللاتينية من دون عواقب

إنّ السياسة الخارجية الأميركية العدوانية قد تدفع حكومات أميركا اللاتينية إلى أحضان الصين.

  • مهاجرون مرحلون من الولايات المتحدة يصلون إلى غواتيمالا على متن طائرة عسكرية
    مهاجرون مرحّلون من الولايات المتحدة يصلون إلى غواتيمالا على متن طائرة عسكرية

مع تزايد التهديدات والإجراءات التي يقوم بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضدّ دول أميركا اللاتينية، مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً تناول هذه القضية، وقالت فيه إنّ هذه الإجراءات ستكون لها نتائج عكسية على الولايات المتحدة، حيث تجعل دول أميركا اللاتينية تلجأ إلى توسيع تحالفاتها الاستراتيجية مع الصين وروسيا.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:

بقلم أوليفر ستونكل، أستاذ مشارك للعلاقات الدولية في مؤسسة جيتوليو فارغاس في ساو باولو، وباحث زائر في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن العاصمة.

احتفى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بانتصار واضح يوم الأحد عندما أجبر الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو على السماح باستئناف رحلات الترحيل الأميركية إلى البلاد. كان بيترو قد أعلن سابقاً على تطبيق "إكس"، أنّه رفض رحلتين عسكريتين أميركيتين تحملان كولومبيين مرحّلين، وكتب أنّ الولايات المتحدة "يجب أن تضع بروتوكولاً للمعاملة الكريمة للمهاجرين قبل أن نستقبلهم".

تشاجر ترامب وبيترو على وسائل التواصل الاجتماعي لساعات. لكنّ الرئيس الكولومبي أُجبر على الاستسلام بعد أن أعلن نظيره الأميركي عن تعريفات جمركية انتقامية بنسبة 25% على جميع السلع الكولومبية، ومن المقرّر أن ترتفع إلى 50% بعد أسبوع واحد، بالإضافة إلى العقوبات وحظر السفر على المسؤولين الكولومبيين.

النفط الخام هو أكبر صادرات كولومبيا إلى الولايات المتحدة، وتعدّ الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية ثاني أكبر مصدّر للقهوة للولايات المتحدة وأكبر مزوّد للزهور المقطوفة. كانت الحرب التجارية لتكون ضارّة للغاية بالاقتصاد الكولومبي، خاصة قبل عيد الحب.

ولقد تراجع بيترو عن مساره إلى الحدّ الذي جعله يعرض إرسال طائرة رئاسية كولومبية لنقل المرحّلين من الولايات المتحدة، وهو تنازل مهين للزعيم اليساري. واحتفل أنصار ترامب بالأحداث على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن على المدى الأبعد، قد تؤدّي الحماسة المفرطة الناجمة عن ترهيب زعماء المنطقة إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك تكاتف البلدان ضدّ الولايات المتحدة، واحتمال ظهور الصين كشريك أكثر جاذبية.

بعد مرور أسبوع واحد فقط على إدارة ترامب الثانية، تصاعد الغضب في جميع أنحاء أميركا اللاتينية بشأن معاملة المهاجرين المرحّلين من الولايات المتحدة.

بالإضافة إلى كولومبيا، أدانت الحكومة البرازيلية يوم الأحد "المعاملة المهينة" للأشخاص على متن رحلة ترحيل أميركية في 24 كانون الثاني/يناير واتهمت الولايات المتحدة بانتهاك اتفاق دبلوماسي بشأن معاملة المرحّلين. أفاد البرازيليون الذين وصلوا على متن الطائرة العسكرية الأميركية بتهديدات واعتداءات من قبل القوى الأميركية، وتهوية سيئة تؤدي إلى الإغماء، وأيادٍ وأقدام مقيّدة، وعدم القدرة على الوصول إلى الطعام والماء والحمامات. كما رفضت المكسيك الإذن بالهبوط لرحلة ترحيل أميركية تمّ تنفيذها عبر طائرة عسكرية الأسبوع الماضي.

وفي حين أنّ رحلات الترحيل ليست جديدة، فإنّ إدارة ترامب تنقل بعض المرحّلين على متن طائرات عسكرية بدلاً من الطائرات التجارية أو الطائرات المستأجرة من قبل هيئة الهجرة والجمارك الأميركية. يأتي التطوّر الجديد استجابة لأمر تنفيذي صدر مؤخّراً عن ترامب. ويبدو أنّه من المرجّح أنّ إدارة ترامب تتعمّد تنفيذ معاملة قاسية مع المبعدين لتثبيط الهجرة المستقبلية إلى الولايات المتحدة.

من المرجّح أن تظلّ عمليات الترحيل نقطة خلاف بين إدارة ترامب والحكومات في المنطقة. الرحلات العسكرية هي واحدة من أبرز الرموز للتغيير الجذري في السياسة الخارجية الأميركية تجاه أميركا اللاتينية في عهد الرئيس الأميركي الجديد.

وهناك تغييرات أخرى أكثر خطورة. فمنذ فوزه بالانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر، أطلق ترامب تهديدات صريحة بالعمل العسكري وحتى ضمّ الأراضي. كما تعهّد بفرض تعريفات عقابية وقيود على التأشيرات إذا لم تقبل البلدان مطالبه بشأن الهجرة والتجارة والحدّ من نفوذ الصين. وطلب ترامب من بنما تسليم قناة بنما للولايات المتحدة ولم يستبعد استخدام القوة العسكرية للاستيلاء عليها. كما هدّد بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على المنتجات الآتية من المكسيك وتعريفات جمركية بنسبة 100% على دول مجموعة "بريكس" إذا دعمت بدائل للدولار، والبرازيل عضو مؤسس في مجموعة البريكس. وهناك شعور ملموس بالقلق في المنطقة إزاء رئيس أميركي يدافع صراحة عن مبدأ مونرو، وهي السياسة التي أسسها الرئيس الأميركي جيمس مونرو في عام 1823 لتبرير التدخّلات العسكرية والدبلوماسية الأميركية في نصف الكرة الغربي. لقد كان يُنظَر إليه على نطاق واسع باعتباره أداة للإمبريالية الأميركية، وخاصة طوال القرن العشرين.

في الأمد القريب، قد تجلب تكتيكات ترامب في التسلّط بعض النجاح له. فمن المرجّح أن تستسلم دولة مثل بنما، على سبيل المثال، التي غزتها الولايات المتحدة في عام 1989، لواشنطن إلى حدّ ما، كما فعلت بترو. ومن المقرّر أن يزور وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بنما، إلى جانب العديد من دول أميركا الوسطى الأخرى، في أول رحلة له تبدأ في وقت لاحق من هذا الأسبوع. وسوف يوفّر ذلك أدلة أفضل حول كيفيّة تطوّر التوترات، وكيف قد تبدو أيّ تنازلات من مدينة بنما.

على الرغم من أنّ المكسيك أكبر بكثير من بنما، فإنّ اعتمادها الاقتصادي على الولايات المتحدة لا يترك لها خيارات كثيرة بخلاف الامتثال للعديد من مطالب ترامب، ليس فقط فيما يتصل بالمبعدين ولكن أيضاً فيما يتصل بالتجارة أو القواعد لحظر الشركات الصينية. وعلى الرغم من أنّ المكسيك رفضت رحلة ترحيل الأسبوع الماضي، فقد انتهى بها الأمر أيضاً إلى قبول أربع رحلات في يوم واحد وهو رقم قياسي.

ولكن في الأمد المتوسط ​​والبعيد، من المرجّح أن يؤدي نهج ترامب القاسي إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية. ففي نهاية المطاف، سوف ينظر كلّ زعيم في المنطقة، حتى أولئك الذين يؤيدون الولايات المتحدة عموماً، إلى استراتيجية ترامب في التعامل مع بنما وكولومبيا والمكسيك ويفهم المخاطر المترتّبة على الاعتماد المفرط على واشنطن. وكما أشار ستيفن م. والت من فورين بوليسي الشهر الماضي، فإنّ "الإرهاب الصريح يجعل الناس غاضبين ومستائين. والردّ النموذجي هو تحقيق التوازن ضدّ الضغوط الأميركية". وقد ينتج عن ذلك أيضاً خلق تجمّع حول العلم، مما يسمح للقادة بالوقوف في وجه الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب سياسية في الداخل.

وعلى هذا فإنّ أغلب حكومات أميركا اللاتينية سوف تحاول تنويع شراكاتها، والتحوّل إلى قوى كبرى أخرى، وخاصة الصين ولكن أيضاً روسيا وأوروبا، لتعزيز مواقفها التفاوضية. وكلما بدا ترامب أكثر تهديداً لحكومات أميركا اللاتينية، كلما حاولت هذه الحكومات الاقتراب من قوى كبرى أخرى.

خلال الخلاف بين ترامب وبترو يوم الأحد، غرّد تشو جينجيانج، سفير الصين لدى كولومبيا، قائلاً: "نحن في أفضل لحظة في علاقاتنا الدبلوماسية بين الصين وكولومبيا، والتي بلغت الآن 45 عاماً". وكما حدث خلال ولاية ترامب الأولى، عندما حاولت الحكومة الأميركية الإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وكانت غير راغبة في استبعاد التدخّل العسكري في فنزويلا، سوف تضع الصين نفسها كشريك موثوق به ويمكن التنبّؤ بسياسته لحكومات أميركا اللاتينية. ويبدو أنّ بكين مستعدّة لتعميق علاقاتها مع المنطقة على مدى السنوات الأربع المقبلة.

ونظراً لاعتمادهما على واشنطن، فسوف يكون لدى المكسيك وكولومبيا مجال أقلّ للمناورة بعيداً عن الولايات المتحدة. ولكن الدول الأكبر حجماً في أميركا الجنوبية سوف تتمتع بقدر أعظم من الحرية في موازنة الضغوط الأميركية من خلال تنسيق ردود أفعالها أو تعزيز علاقاتها مع قوى أخرى. فالبرازيل، على سبيل المثال، تصدّر إلى الصين أكثر مما تصدّر إلى الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعتين، وسوف تكون في وضع أفضل لتعزيز العلاقات مع بكين.

وقد يتفاقم هذا التحوّل بعيداً عن النفوذ الأميركي بسبب حقيقة مفادها أنّ خطاب ترامب عن أميركا اللاتينية يصوّر المنطقة بشكل شبه حصري كمصدر للهجرة غير الشرعيّة والجريمة والمخدرات. كما يزعم أنها منصة إطلاق لبكين لتحدّي واشنطن.

في حين أنّ نقاط الحديث المهينة قد تساعد في حشد جمهوره المحلي، ذكر ترامب أميركا اللاتينية أكثر من أي منطقة أخرى في خطاب تنصيبه - إلا أنّه لم يقدّم بعد مقترحات واضحة حول كيفية تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، ناهيك عن شرح كيف يمكن لأميركا اللاتينية الاستفادة من السياسة الخارجية الأميركية. ففي بلدان مثل هندوراس والسلفادور والمكسيك، فإنّ عمليات الترحيل واسعة النطاق لديها القدرة على زعزعة استقرار أسواق العمل والحدّ من التحويلات المالية، وهي مصدر مهم للدخل لبعض البلدان في أميركا الوسطى. عندما سُئل مؤخراً عن العلاقات بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، أجاب ترامب: "إنهم يحتاجون إلينا أكثر مما نحتاج إليهم. نحن لا نحتاجهم".

من ناحية أخرى، تواصل الصين تزويد أميركا اللاتينية بسرد واضح مفاده أنّ المنطقة يمكن أن تستفيد اقتصادياً من استثماراتها وتجارتها، واستغلال الفرصة الاقتصادية هي إطار بديهي يجب على معظم الناس اتباعه. كما أنّ المسافة الجغرافية بين الصين وأميركا اللاتينية تجعلها تبدو أقلّ تهديداً من الولايات المتحدة.

وفي حين كان ترامب يحتفل بفوزه في الانتخابات في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، سافر الرئيس الصيني شي جين بينج إلى أميركا اللاتينية للمشاركة في حفل افتتاح ميناء للمياه العميقة مموّل من الصين في بيرو. وقال شي في هذا الحدث إنّ "الصين مستعدّة للعمل مع الجانب البيروفي لاعتبار مشروع [الميناء] نقطة انطلاق لإنشاء ممر بحري بري جديد بين الصين وأميركا اللاتينية".

ستواجه دول أميركا اللاتينية معركة شاقّة للتعاضد ضدّ تجاوزات الولايات المتحدة بسبب مستوياتها المنخفضة نسبياً من التجارة داخل المنطقة والبنية الأساسية المترابطة. ومع ذلك، ليس هناك شكّ يذكر في أنها سوف تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع القوى الكبرى الأخرى لتحقيق التوازن ضدّ استراتيجية ترامب العدائية. ففي نهاية المطاف، مع وجود متنمّر لا يمكن التنبّؤ بتصرّفاته في الغرفة، فإنّ المثل القديم ينطبق هنا: لا يمكنك أبداً أن يكون لديك الكثير من الأصدقاء.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.