"فورين بوليسي": لماذا يتزايد الدعم الإسرائيلي للاستيطان في غزة؟

لقد عمل اليمين المتطرف الإسرائيلي على تطبيع فكرة طرد الفلسطينيين.

  • "فورين بوليسي": لماذا يتزايد الدعم الإسرائيلي للاستيطان في غزة؟

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول التناقض بين الرأي العام الإسرائيلي المتعب من الحرب والراغب في إنهائها، وبين أجندة اليمين المتطرف الذي يدفع نحو الضم والاستيطان، وما يترتب على ذلك من سياسات عسكرية وسياسية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

الرواية المتداولة على نطاق واسع في وسائل الإعلام الإسرائيلية والأجنبية حول حرب غزة هي أنّ الجمهور الإسرائيلي يعارض أحدث خطة حكومية للسيطرة على مدينة غزة، ويريد إنهاء الصراع. لقد أنهك القتال المستمر الذي استمر قرابة عامين "الجيش"، وكادت حماس أن تُهزم. لا يرى الجمهور أي جدوى من شن هجوم آخر، فهو يريد عودة الرهائن والجنود إلى ديارهم. حتى "الجيش" يريد اتفاقاً مع حماس يُنهي الحرب.

لكنّ الواقع أكثر تعقيداً، ويُفسّر إلى حد كبير إصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على المضي قدماً في العملية، متحدّياً ليس فقط الرأي العام وآراء رئيس "أركان الجيش" إيال زامير، بل أيضاً الإدانة الدولية غير المسبوقة للحرب. فبينما يسعى الإسرائيليون إلى الخروج من الحرب، دفعت أقلية من اليمين المتطرف بقضية ضم غزة، وطرد سكانها الفلسطينيين، وتوطين الإسرائيليين فيها إلى الواجهة السياسية. وفي الوقت نفسه، تعمل على حثّ "الجيش" على تنفيذ أوامرها.

تُظهر استطلاعات الرأي بالفعل أنّ غالبية الإسرائيليين يُفضّلون التوصل إلى اتفاق مع حماس يُبادل الأسرى المحتجزين في غزة بوقف إطلاق النار، وينتهي بانسحاب "إسرائيل" من القطاع. على سبيل المثال، أظهر استطلاع رأي أجرته شركة "أغام لابس" في آب/أغسطس أنّ 74% من الجمهور الإسرائيلي يُفضّلون التوصل إلى اتفاق. وتُظهر استطلاعات رأي أخرى أجراها معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، والتي سألت اليهود الإسرائيليين عما يجب أن يحدث في غزة بعد انتهاء القتال، أنّ نحو النصف يعتقدون أنه يجب تسليمها إلى حكومة تكنوقراط فلسطينية أو إلى السلطة الفلسطينية.

لكن استطلاعات معهد دراسات الأمن القومي تُظهر أيضاً أن هناك عدداً كبيراً ومتزايداً من اليهود الإسرائيليين الذين يعارضون تسليم غزة للحكم الفلسطيني أو العربي من أي نوع. يرى أقل من الخمس بقليل أنّ ذلك سيتخذ شكل احتلال عسكري إسرائيلي طويل الأمد. لكنّ هناك عدداً أكبر يؤيد فكرة بناء المستوطنات، ويفترض أن تكون تحت الحكم الإسرائيلي. لا تزال هذه المجموعة أقلية، لكنها أقلية متنامية: تُظهر استطلاعات معهد دراسات الأمن القومي أنه في كانون الأول/ديسمبر، عندما سُئل اليهود الإسرائيليون عن تفضيلهم بين قائمة من خيارات "اليوم التالي" لغزة، أيّد 22% بناء المستوطنات؛ في أيار/مايو، آخر مرة طُرح فيها السؤال، ارتفع هذا العدد إلى 28.5%. وجد استطلاع آخر أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي في أواخر آب/أغسطس، والذي طرح السؤال في شكل ثنائي من الدعم أو المعارضة للاستيطان في غزة، مستوى دعم أعلى بكثير بين اليهود بنسبة 40%.

عدد الإسرائيليين الذين يسعون بنشاطٍ إلى فرض الحكم الإسرائيلي في غزة ضئيل. أما المسيرات التي تُقام على حدود غزة، والمطالبة بالاستيطان (مع تسلل بعض المشاركين أحياناً إلى غزة نفسها في بادرة رمزية)، فلا تتجاوز المئات. وبالمقارنة، استقطبت الاحتجاجات الروتينية ضد الحرب عشرات الآلاف، وفي منتصف آب/أغسطس، وصل عددهم إلى ما يُقدّر بنحو 500 ألف. ولكن في المشهد السياسي الإسرائيلي، لا تُمثّل هذه الأعداد بالضرورة مؤشراً حقيقياً على توازن القوى.

من بين الإسرائيليين العاديين، ربما يكون دعم الأغلبية للاستيطان في غزة اعتقاداً منهم بأنه سيعزّز أمن "إسرائيل" و/أو بمثابة انتقام لهجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. لكن هذه ليست الطريقة التي يبرّر بها اليمين المتطرف المتشدّد الاحتلال الإسرائيلي والضم والاستيطان. لم ينجح اليمين المتطرف قط في كسب تأييد أعداد كبيرة من الإسرائيليين لأيديولوجيته، التي ترى أنّ الاستيطان والضم يُحققان الوصايا التوراتية. لكنه اتخذ خطوة أولى كبيرة في هذا الاتجاه من خلال دمج أجندته في صلب اهتماماته.

لقد فعل ذلك من خلال اكتساب سلطة حكومية تفوق بكثير عدد أعضائه. في انتخابات عام 2022، حصل الحزبان اليمينيان المتطرفان اللذان خاضا الانتخابات بقائمة واحدة على 10.8% فقط من الأصوات. إذا صحت استطلاعات الرأي الحالية، فسيحصلان على أصوات أقل بكثير لو أُجريت الانتخابات اليوم. ومع ذلك، ومع تهديدهما الدائم بالانسحاب من الحكومة، فإن سيطرتهما على نتنياهو قوية، وقد أصبحت هذا الصيف شبه مطلقة بعد انسحاب الأحزاب الأرثوذكسية المتشددة في الائتلاف. يمكن لأي من الحزبين اليمينيين المتطرفين - الصهيونية الدينية أو عوتسما يهوديت - أن يُسقط الحكومة بمفرده ويُجبر نتنياهو على خوض الانتخابات، التي تُظهر استطلاعات الرأي أنه سيخسرها حتماً.

أعطى هذا الأمر حرية مطلقة لوزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يتولى، بصفته الثانية وزيراً للدفاع، مسؤولية الشؤون المدنية في الضفة الغربية، ويعزز قبضة "إسرائيل" هناك بشكل منهجي. في غضون ذلك، استغل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير سيطرته على الشرطة الوطنية لمنح المستوطنين المتطرفين حرية التصرف في أعمال العنف ضد الفلسطينيين.

باستثناء مخاطبة قاعدته الانتخابية من "المؤمنين الحقيقيين"، يُخفي اليمين المتطرف دوافعه الحقيقية خلف ستار "الأمن القومي"، وهو ما يتقبّله باقي الإسرائيليين. وبحسب هذه الرواية، فإنّ الفلسطينيين عازمون على تدمير "إسرائيل"، وبالتالي فإنّ قيام دولة فلسطينية يشكّل خطراً وجودياً، ولا سبيل لمواجهته سوى بناء المزيد من المستوطنات لضمان منع ذلك. ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، روّج أنصار هذا الخطاب لفكرتهم باعتبارها السبب الذي يمنع "إسرائيل" من مغادرة غزة. والنتيجة المترتبة على ذلك أنّ على "إسرائيل"، وفق منطقهم، طرد مليوني فلسطيني يعيشون هناك، وإعادة توطين القطاع بالمستوطنين الذين أُجبروا على مغادرته عند انسحابها من غزة قبل عشرين عاماً.

حظيت هذه الرؤية لمستقبل غزة ببعض الدعم من البيت الأبيض عبر مخطّط لإعادة إعمار القطاع، يبدو أنّه طُوّر بشكل مشترك بين الإسرائيليين والأميركيين، وتمّ تسريبه إلى صحيفة "واشنطن بوست" الأسبوع الماضي. ويشكّل هذا المخطّط نسخة أكثر تفصيلاً من خطة "ريفييرا غزة" سيئة السمعة، التي كشف عنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في شباط/فبراير، والتي تتصوّر إقامة جنّة سياحية عالية التقنية تنهض من بين الأنقاض.

على الورق، يُمنح الفلسطينيون خيار الاحتفاظ بحقوقهم في الملكية والعودة إلى ديارهم في غزة "ذات الحكم الذاتي" بعد اكتمال البناء. غير أنّ الخطة لا تبدو مصمَّمة أصلاً لتلبية احتياجاتهم. فمع أنّها لا تذكر المستوطنين أو الحكم الإسرائيلي صراحةً، إلا أنّها، كما هو واضح، تفتح الباب أمام كليهما من خلال إفراغ غزة أولاً من جزء كبير من سكانها الفلسطينيين، ومنح "إسرائيل" السيطرة الأمنية على القطاع.

يُطبَّق نموذج "الغزو والطرد والاستيطان" في الضفة الغربية، وإن كان بترتيب مختلف إلى حدّ ما. فالمستوطنات الإسرائيلية هناك، التي تعود أقدمها إلى فترة وجيزة بعد الحرب العربية–الإسرائيلية عام 1967، أصبحت راسخة وتتوسع اليوم بمعدل غير مسبوق، فيما يجري تشريع المستوطنات العشوائية التي لم تحصل سابقاً على موافقة الحكومة، وذلك بأثر رجعي.

ويشن المستوطنون الأكثر تطرفاً، بدعم ضمني من الغالبية العظمى من المستوطنين "الأكثر اعتدالاً"، هجمات متكررة وعنيفة على الفلسطينيين بهدف واضح هو طردهم من أراضيهم. ومع استمرار الحكم العسكري وترسّخ المستوطنات بقوة، لم يتبقَّ سوى مرحلتَي الطرد والضم. وقد أفيد أنّ الضم كان مؤخراً موضع مداولات في المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي.

على هذه الخلفية يجري التحضير للهجوم على مدينة غزة. فقد بدأ "الجيش" الأسبوع الماضي في استدعاء 60 ألف جندي احتياط للمشاركة في العملية، فيما تتعرض المدينة بالفعل لهجمات محدودة. وتشير التقارير إلى أنّ الإقبال كان ضعيفاً، وإن لم يكن ذلك مفاجئاً تماماً. فبعض جنود الاحتياط يرفضون الالتحاق بـ "الجيش" احتجاجاً، لكنّ السبب الأبرز هو الإرهاق؛ إذ خدم كثيرون منهم مئات الأيام منذ 7 أكتوبر على حساب حياتهم العائلية وأعمالهم ووظائفهم ودراساتهم. ومع ذلك، وباستثناء أقلية يمينية تتبنّى خطاب الأمن أو تؤمن بالضم والاستيطان، يرى معظمهم أنّ الحرب تُخاض أساساً لإنقاذ حكومة نتنياهو عبر تهدئة اليمين المتطرف. ومع ذلك، يواصل الكثيرون الالتحاق بصفوفهم، إن لم يكن لسبب سوى عدم خذلان رفاقهم.

لكن بموافقتهم على القتال مجدداً، فإنهم ينفذون عملياً أجندة اليمين المتطرف. فنتنياهو يرفض حتى النظر في اتفاق لوقف إطلاق النار مقابل الرهائن، وهو ما يعارضه اليمين المتطرف بطبيعة الحال باعتباره عقبة أمام أهدافه في غزة. وفي هذا السياق، يحذّر زامير من أنّ عملية اجتياح مدينة غزة ستقود إلى احتلال مفتوح. غير أنّ اليمين المتطرف لا يرى في ذلك خطراً بل فرصة؛ فغزة اليوم بمعظمها خراب غير صالح للسكن، وإعادة إعمارها ستتطلب سنوات، ما يدفع كثيراً من الفلسطينيين إلى المغادرة قسراً.

إن غزو مدينة غزة واحتلالها سيحوّل المزيد من القطاع إلى منطقة منكوبة إنسانياً ويُبقي "الجيش" الإسرائيلي غارقاً هناك. وبهذا، يُمهَّد الطريق إلى الاستيطان والضم على يد جنود لا يؤمنون بأيّ منهما، ورئيس وزراء مصمّم على البقاء في السلطة بأي ثمن.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.