"نيويورك تايمز": أطفال السودان الجياع يأكلون علف الحيوانات في المدن المحاصرة

يواجه ما لا يقلّ عن 260 ألف مدني محاصر في مدينة الفاشر خياراً صعباً: إما الموت جوعاً أو التعرّض للقصف في حال قرّروا البقاء، وإما الاغتصاب أو القتل في حال قرّروا الفرار.

  • "نيويورك تايمز": أطفال السودان الجياع يأكلون علف الحيوانات في المدن المحاصرة

صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر تقريراً يتناول الوضع الإنساني الحرج في مدينة الفاشر بإقليم دارفور في السودان. النص يسلّط الضوء على كارثة إنسانية شاملة في الفاشر، حيث أدى الحصار المستمر والحرب إلى مجاعة واسعة، وانهيار الخدمات الطبية، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

لقد تعرّض آخر مستشفى يعمل في المدينة للقصف أكثر من 30 مرة، ويصل إليه يومياً ما بين 30 و40 طفلاً يعانون من سوء تغذية حادّ، باحثين عن المساعدة. إلا أنه لا يوجد شيء يمكن تقديمه لهم سوى علف الحيوانات. وقال الدكتور عمر سيليك خلال مكالمة فيديو وهو يميل كاميرته لعرض وجبته، وهي عبارة عن عجينة طينية مصنوعة من الفول السوداني المضغوط تُقدّم عادةً للأبقار والإبل والحمير: "حتى نحن نأكل علفاً حيوانياً، إذ لا يوجد شيء آخره نأكله".  

تُعدّ مدينة الفاشر أسوأ ساحة قتال في الحرب الأهلية الوحشية التي يشهدها السودان. فمنذ نحو 18 شهراً، حاصرت ميليشيات شبه عسكرية المدينة الواقعة في إقليم دارفور الغربي، في محاولة لتجويعها وإجبارها على الاستسلام. وأقام المقاتلون ساتراً ترابياً بطول 20 ميلاً حول حدودها. وهذا الأمر ترك السكان أمام خيارات صعبة: إما البقاء والمخاطرة بالتعرّض للقصف أو التجويع، وإما الفرار والمخاطرة بالتعرّض للقتل أو السرقة أو الاعتداء الجنسي. وفي هذا الصدد، قال الدكتور سيليك وهو يبكي: "يبدو أنّ الناس قد نسوا أمرنا. يا إلهي! هذا أمر مؤلم". 

لقد بدأت الحرب في السودان قبل أكثر من عامين، عندما اندلعت اشتباكات بين الجيش السوداني ومنافسه شبه العسكري، قوات الدعم السريع. واجتاحت الحرب ثالث أكبر دولة في أفريقيا، ما أجبر نحو 12 مليون شخص على النزوح من ديارهم، وأودى بحياة عشرات الآلاف، وتسبّب في مجاعة كبرى. وتصفها منظمات الإغاثة بأنها أكبر أزمة إنسانية في العالم.

منذ آذار/مارس، ضاعفت قوات الدعم السريع، بعد طردها من العاصمة الخرطوم، جهودها للسيطرة على دارفور، المنطقة الشاسعة غربي السودان، حيث ينحدر معظم مقاتليها. وتُعدّ مدينة الفاشر آخر مدينة تعيق تقدّمهم. وبعد شهر، بدأت قوات الدعم السريع بتطويق المدينة بساتر ترابي عملاق، وفقاً لصور الأقمار الصناعية التي نشرتها كلية "ييل" للصحة العامّة. وفي 27 آب/أغسطس، استُكمل العمل على توسيع هذا الساتر الترابي.

ويُقدّر أنّ نحو 260 ألف شخص ما زالوا عالقين في الفاشر نتيجة الحصار المُشدّد. وقد أوضح طه خاطر، أحد عمّال الإغاثة القلائل المتبقّين في المدينة خلال مكالمة هاتفية معه، أنّ كيلو المعكرونة يُباع بـ73 دولاراً، أي 10 أضعاف سعره العادي. وقد سجّلت مجموعته، المعروفة باسم "غرف الاستجابة للطوارئ"، وفاة 14 طفلاً بسبب سوء التغذية خلال الأسبوعين الماضيين. إضافة إلى ذلك، تشهد البلاد تفشّياً للكوليرا. وقال السيد خاطر إن الشباب الذين حاولوا الفرار من المدينة وتسلّق الساتر الترابي ليلاً أُعدموا على يد المقاتلين.

تقدّم منظمات الإغاثة الدولية المساعدة في طويلة، وهي بلدة صغيرة تقع على بُعد 40 ميلاً إلى الغرب وتضمّ حالياً أكثر من 600 ألف لاجئ. لكنّ الرحلة إلى طويلة محفوفة بالمخاطر. إذ يجوب المقاتلون المنطقة، وينهبون المدنيين الفارين أو يبتزّونهم. ويقول عمال الإغاثة إنّ الطريق مليء بقبور حُفرت على عجل وجثث مهجورة. وخلال اتصال هاتفي معه، قال سيلفان بينيكود، منسّق مشروع "أطباء بلا حدود" في طويلة: "يتمّ ترك الجثث هناك ببساطة".

والاغتصاب أمر شائع أيضاً في المنطقة. إذ يعالج المستشفى نحو 40 ضحية اعتداء جنسي أسبوعياً، لكنّ الأدلة المتناقلة تشير إلى أنّ "هذا الرقم لا يُقارن بالمعدل الحقيقي"، وفقاً للدكتور بينيكود. كذلك اتُهم الجيش السوداني بارتكاب جرائم حرب على نطاق واسع، بما في ذلك قصف الأسواق المزدحمة قرب الفاشر الذي أسفر عن مقتل مئات الأشخاص. وفي كانون الثاني/يناير، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، بتهمة استخدامه للأسلحة الكيميائية.

لكنّ قوات الدعم السريع وحدها التي اتُهمت بارتكاب إبادة جماعية. وقد خلص محقّقو الأمم المتحدة هذا الشهر إلى أنّ القائمة الطويلة من الفظائع التي ارتكبتها في الفاشر ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية. ولم يُجب المتحدّث باسم قوات الدعم السريع عن الأسئلة المتعلقة بهذا التقرير.

لقد أدّى التدخّل الأجنبي في الحرب في السودان إلى تفاقم الحصار. وأفادت صحيفة "نيويورك تايمز" بأنّ الإمارات العربية المتحدة زوّدت قوات الدعم السريع بالأسلحة والطائرات المسيّرة والدعم الطبي، على أمل دفعها نحو النصر. وخلال هذا الشهر، قدّمت الحكومة السودانية التي يتولّى الجيش رئاستها ملفاً إلى مجلس الأمن الدولي اتهمت فيه الإمارات بتجنيد مجموعة من المرتزقة الكولومبيين، المعروفين باسم "ذئاب الصحراء"، للقتال إلى جانب قوات الدعم السريع.

وجاء الملف، الذي تضمن نسخاً من جوازات السفر وعقوداً وقائمة بأسماء 170 شخصاً يُقال إنهم مرتزقة، بعد وقت قصير من تداول مقاطع فيديو وصور على الإنترنت يُزعم أنها تُظهر مقاتلين كولومبيين في وسط الفاشر. وتمكّنت صحيفة "التايمز" من التحقّق من موقع أحد مقاطع الفيديو، لكنها لم تتمكّن من التحقّق من هويات المقاتلين. في المقابل، نفت الإمارات مراراً دعمها لأيّ طرف في حرب السودان، ورفضت الملف السوداني ووصفته بأنه مُلفّق.

وتُعدّ المستشفيات هدفاً أساسياً في النزاع. فمن بين نحو 200 منشأة طبية في الفاشر قبل الحرب، لم يبقَ سوى مستشفى السعودي، حيث يرزح عدد قليل من الأطباء المحاصرين تحت وطأة القصف والجوع وندرة الأدوية. وأشار الدكتور سليمان، وهو أحد كبار الأطباء العاملين هناك، إلى أنّ المستشفى تعرّض للاستهداف أكثر من 30 مرة خلال الحرب، وكان أسوأ هجوم في كانون الثاني/يناير، عندما أطلقت طائرة مُسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع صاروخاً على جناح مزدحم، ما أسفر عن مقتل 70 مريضاً وموظفاً.

وبحسب الدكتور سليمان، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه الكامل لأنه تلقّى تهديدات بالقتل بسبب عمله، يلجأ الأطباء اليوم إلى الخنادق أثناء الغارات الجوية، ويحصل المرضى الذين يعانون من سوء التغذية على أعلاف الحيوانات. 

يُعدّ علف الحيوانات، المعروف محلياً باسم "أمباز"، حلاً يائساً نظراً لتعرّضه للتلوّث الفطري، خاصةً في موسم الأمطار. وقد لقي ما لا يقل عن 18 شخصاً حتفهم في الأسابيع الأخيرة بعد تناولهم الأمباز، وفقاً لمسؤولين محليين. إلا أنه "ليس هناك خيار آخر"، كما قال الدكتور سليمان. 

وفي الأسابيع الأخيرة، توغّلت قوات الدعم السريع في عمق مدينة الفاشر، مجبرة الجيش السوداني والميليشيات العرقية المتحالفة معه على التمركز في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة. وخلال معاركهم، استهدف مقاتلو قوات الدعم السريع المدنيين من قبيلة الزغاوة، وفقاً لمنظمات حقوق الإنسان، ما أثار مخاوف من وقوع مذبحة عرقية في حال تمكّنوا من السيطرة على المدينة بشكل كامل. 

لقد حاولت سلمى أحمد، المحاضرة الجامعية، البقاء بعيدة عن أماكن القتال. فهربت من منزلها مع تقدّم قوات الدعم السريع، مسرعةً عبر الشوارع المليئة بجثث المقاتلين الذين سقطوا، على حدّ قولها. وأضافت أنها وصلت في النهاية إلى مكان أكثر أماناً، حتى مع استمرار تساقط القنابل بالقرب منها. إلا أنّ زوجها عصام مفقود حالياً. فقد عاد إلى منزلهما قبل أسبوع لإحضار بعض الأغراض، ولم يعد حتى الساعة. وفي هذا السياق، قالت: "لا نعلم إن كان حياً أم ميتاً". 

ومع اشتداد الحصار، تمكّن بعض السكان من تهريب كميات صغيرة من الطعام والدواء إلى المدينة عبر التسلّق فوق الساتر الترابي ليلاً. إلا أنّ من يُقبض عليه من قِبل المقاتلين يتعرّض للضرب والتهديد. وقد أظهر مقطع فيديو نُشر مؤخراً على قناة "تيليغرام" يديرها مؤيدو قوات الدعم السريع رجلاً يرتدي زي قوات الدعم السريع وهو يمسك بسوط فوق رجل يرتعد خوفاً على الأرض.

لم تُسفر الجهود الدبلوماسية المبذولة لوقف القتال عن نتائج تُذكر. وفي 13 آب/أغسطس، كرّر مجلس الأمن الدولي دعوته لإنهاء الحصار المفروض على الفاشر، بعد يومين من اقتحام مقاتلي قوات الدعم السريع معسكراً في المدينة وقتلهم 57 شخصاً. وبعد 3 أيام، اقتحمت قوات الدعم السريع المخيم مرة جديدة، ما أسفر هذه المرة عن مقتل 32 شخصاً، بحسب ما ذكرته منظمة "هيومن رايتس ووتش".

نقله إلى العربية: زينب منعم.