موزمبيق.. النضال مستمر: إرث سامورا ميشيل ومسار الدولة بين التحرر والاضطراب

منذ الاستقلال، تعاقب على حكم موزمبيق عدة رؤساء، جميعهم من جيل الاستقلال والكفاح ضد الاستعمار البرتغالي.. تتغير الحياة والوجوه، لكن تبقى تحديات مجابهة الحركات الإرهابية ومحاربة البطالة والفقر واجبة المواجهة.

  • سامورا ميشيل أول رئيس لموزمبيق
    سامورا ميشيل أول رئيس لموزمبيق

"إن النضال مستمر… والنصر مؤكد".. كان ذلك شعار حركة التحرر الموزمبيقية من الاستعمار البرتغالي، التي لعب فيها، سامورا ميشيل، أول رئيس لموزمبيق المستقلة عام 1975، دوراً رائداً وترك إرثاً كبيراً كأحد أهم رموز حركة التحرر الوطني في أفريقيا وتعزيز قيم وحدة القارة وبناء مستقبلها.

وقد ألهمت ذكرى مصرعه، التي صادفت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، في حادث تحطم طائرة مثير للجدل، المشاركين في "منتدى تانا للسلم والأمن في أفريقيا" الذي عُقد بمدينة بحر دار الإثيوبية أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، للإشارة إلى أهمية التوثيق لحياة وإرث ميشيل وغيره من الشخصيات التاريخية التي عاصرت كفاح التحرر وحقبة الاستقلال من براثن الاستعمار والسيطرة البرتغالية.

فقد بدأت تلك السيطرة عام 1498 وامتدت لأربعة قرون ونصف، وزادت وتيرتها في القرن السادس عشر بعد حملة "التدافع على أفريقيا"، مع إحكام البرتغاليين قبضتهم على المناطق الداخلية بحلول عام 1918، ثم جعلوا موزمبيق ولاية لهم في ما وراء البحار عام 1951. وطوال تلك الفترات لم تفلح سياسات وممارسات السلطات الاستعمارية إلا في إنضاج حركة المقاومة والانعتاق من ربقة القهر والتسلط، وهي الحركة التي عززتها رياح التحرر وحق تقرير المصير عقب الحرب العالمية الثانية ونيل بعض الدول استقلالها.

"فريليمو".. أول حركة مقاومة في موزمبيق

وكان إنشاء جبهة تحرير موزمبيق "فريليمو" بمدينة دار السلام التنزانية في 25 يونيو 1962 العلامة الأبرز في هذا الجهد. وقادها كأول رئيس لها، عالم الاجتماع إدواردو موندلين، الذي اغتيل بدار السلام عام 1969. وقد جاءت نشأة الجبهة عقب مؤتمر شاركت فيه شخصيات سياسية وتشكيلات وطنية ذابت في جبهة تحرير موزمبيق (فريليمو)، مثل الاتحاد الوطني الأفريقي الموزمبيقي، والاتحاد الأفريقي لاستقلال موزمبيق، والاتحاد الديمقراطي الوطني. واكتمل التحرير بنيل البلاد استقلالها في 25 يونيو 1975، مدفوعاً بنجاح حركة المقاومة المدنية المعروفة بثورة القرنفل في الإطاحة بنظام سالازار، وإنهاء 470 عاماً من الحكم الاستعماري البرتغالي في منطقة شرق أفريقيا.

وقد انتقلت حركة فريليمو من مقعد حركة التحرير إلى مقعد الحزب الحاكم بسيطرتها على الحياة السياسية منذ حصول البلاد على الاستقلال. كما كان قدرها أن تكون أحد أطراف الحرب الأهلية التي دارت رحاها منذ عام 1977 وحتى 1992 ضد الطرف الآخر، وهو حركة المقاومة الوطنية الموزمبيقية "رينامو"، المدعومة وقتها من روديسيا الجنوبية وجنوب أفريقيا.

وأدّت اتفاقية السلام التي وُقّعت في روما إلى تنظيم انتخابات تعددية عام 1994، لكنها لم تنه حالة عدم الاستقرار في البلاد، التي انعكست لاحقاً في احتجاجات واسعة على ممارسات ونتائج انتخابات 2024، فضلاً عمّا تشهده موزمبيق حالياً من تحديات وتطورات أبرزها خطر جماعات العنف والإرهاب وتفشي الفقر والبطالة.

فترة حكم ميشيل مفصلية في تاريخ موزمبيق

تعد فترة حكم سامورا ميشيل، المولود في 29 أيلول/سبتمبر 1933 بقرية شيليمبين على الحدود المشتركة مع جنوب أفريقيا وزيمبابوي، حقبة مفصلية في تاريخ موزمبيق بما خلفته من بصمات وما شهدته من أحداث. فهو سليل أسرة فقيرة تعمل في الفلاحة، وكان والده يعتنق المذهب البروتستانتي الذي كانت الإدارة الاستعمارية تنظر إليه كتهديد على خلفية اتفاق سالازار وبابا الفاتيكان المتصل بسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على المؤسسات التعليمية، ما حمل ميشيل على التحول إلى الكاثوليكية كي يتمكن من الالتحاق بالمدارس، حيث عمل ممرضاً في إحدى المستشفيات.

وقد اضطرت عائلته للذهاب للعمل في مناجم جنوب أفريقيا بعد مصادرة أراضيها لصالح المستوطنين البرتغاليين. ومع تشبع سامورا بقضايا السياسة وممارسات الإدارة الاستعمارية وتشكّل وعيه، توجه إلى دار السلام والتحق بفريليمو عام 1963، وخضع مع كوادرها لتدريب في الجزائر، ولعب دوراً رئيسياً عقب عودته في تأسيس وتعزيز الآليات والمقدرات العسكرية للحركة. كما تولى قيادة الجناح العسكري عقب اغتيال قائده فيليب ماجايا، وآلت إليه رئاسة المجالس الرئيسية لفريليمو عقب اغتيال رئيس الحركة.

وبعد انقلاب لشبونة عام 1974، تفاوض ميشيل مع البرتغاليين بموجب اتفاقيات لوساكا التي وضعت آليات نقل السلطة في موزمبيق.

وفي خطابه عند توليه الحكم في يونيو 1975، دشّن سلطة فريليمو كممثلة لسلطة الجماهير، وأصدر سلسلة قرارات بتأميم عدد من الشركات والمصانع والمؤسسات، كما اقتفى خطى الرئيس نيريري في الكثير من سياسات سيطرة الدولة، خصوصاً في مجال الزراعة.

"لم يكن الإبحار سهلاً بشأن الاستقلال"

ومع تحول الحركة إلى حزب ماركسي لينيني عام 1977، والذي أثار قلق نظامَي الأبارتيد في جنوب أفريقيا والأقلية البيضاء في روديسيا الجنوبية، بالإضافة إلى توجه موزمبيق لدعم حركات التحرر فيهما، نشأت حركة المقاومة الوطنية "رينامو". وقاد ذلك في العام نفسه إلى اندلاع الحرب الأهلية التي امتدت حتى عام 1992 بتوقيع اتفاقية سلام روما.

لم يكن الإبحار سهلاً لموزمبيق في ترجمة آمال وتطلعات مرحلة الاستقلال، إذ أدت الحرب الأهلية وما ألحقته من تخريب ونزيف متواصل لمقدرات البلاد إلى تدمير شبه كامل لبنيتها، ما أجبر سامورا ميشيل على تجرع الحلول الصعبة. فكانت "اتفاقية إنكوماتي" مع نظام الأبارتيد لحمل جنوب أفريقيا على وقف دعمها لرينامو مقابل وقف موزمبيق دعمها للمؤتمر الوطني الأفريقي. وقد جرى توقيع "اتفاقية عدم الاعتداء وحسن الجوار" بمدينة كوماتيبورت جنوب أفريقيا في 15 مارس 1994، ووقّعها بيتر بوتا رئيس وزراء النظام العنصري وسامورا ميشيل رئيس موزمبيق، وعلى إثرها أوقف ميشيل دعماً حيوياً كان يقدمه للمؤتمر الوطني الأفريقي، كما تم طرد كوادره، بينما لم تنفذ جنوب أفريقيا تعهداتها. وقد أحدث الاتفاق ردود فعل عالمية واسعة، وكان موقف دول الجنوب الأفريقي وتجمع "سادك" والقارة الأفريقية عموماً رافضاً للاتفاق، لكنه أرسى نموذجاً للانخراط مع نظام الفصل العنصري سار على دربه لاحقاً مانديلا ودي كليرك.

وإلى جانب اتفاقية إنكوماتي، كان الحدث المزلزل الآخر هو مصرع سامورا ميشيل في حادث تحطم طائرته الرئاسية "توبوليف 134" بطاقمها الروسي، في طريق عودته من مؤتمر دولي بلوساكا في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1986، حيث لقي حتفه مع 33 آخرين، بينما نجا 9 أشخاص وأحد أفراد الطاقم. وقد انحرفت الطائرة على نحو غير مبرر 37 درجة في سلسلة جبال ليبومبو بين جنوب أفريقيا وموزمبيق وسوازيلاند، وأشارت أصابع الاتهام لتورط جنوب أفريقيا في سقوطها، خاصة أنها لم تبلغ موزمبيق بالحادث إلا بعد تسع ساعات، كما صادرت الوثائق والصندوق الأسود. وبينما أرجعت جنوب أفريقيا السبب لأخطاء الطيار، استنتج تقرير روسي أن الطائرة تعرضت لتضليل عبر إشارات ملاحية خاطئة، وقد دعم تحقيق لجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب أفريقيا لاحقاً نظرية الاغتيال.

منذ الاستقلال، تعاقب على حكم البلاد عدة رؤساء، جميعهم من جيل الاستقلال والكفاح ضد الاستعمار البرتغالي: سامورا ميشيل، وجواكيم شيسانو، وأرماندو قيبوزا، وفيليب نوسي. وحده الرئيس الحالي دانيال جوبا ينتمي إلى جيل جديد، إذ وُلد عام 1977، وهو ما يمثل متغيراً جديداً في الحياة السياسية في موزمبيق.

تتغير الحياة والوجوه، لكن تبقى تحديات مجابهة الحركات الإرهابية ومحاربة البطالة والفقر واجبة المواجهة. ذهبت غراسا ميشيل - زوجة سامورا - إلى أحضان نلسون مانديلا زوجةً له، بينما لا تزال الملصقات في مابوتو تحمل شعار: "النضال مستمر والنصر قادم". ويبدو أن وقتاً طويلاً سيمر قبل إعلان قدوم النصر… ونأمل ألّا يطول أمد ذلك.

اقرأ أيضاً: مذكّرات وزير إعلام عبد الناصر (1 - 2)

اخترنا لك