"بريكس" والجنوب العالمي والبحث عن التجانس

تسعى مجموعة "بريكس" لتحدي النظام الدولي القائم، لكنها تواجه صعوبات في تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي بين أعضائها المتنوعين، في ظل التوترات الجيوسياسية والضغوط الخارجية، ما يجعل مهمتها معقدة.

  • يصطدم توسع
    يصطدم توسع "بريكس" الذي انطلق ويتواصل منذ عام 2023 بعدة عوائق

على وقع الحرب التجارية العابرة للحدود، والاشتباك الصيني الأميركي في مركزها، والتباعد الأوروبي - الأميركي الذي يلوح في الأفق، يواجه تكتل "بريكس" مهمة تاريخية اختارها بدرجة أو أخرى، وتطرحها عدة ضرورات: تعديل النظام الدولي وواقع الهيمنة الغربية، أو تغييرهما بالكامل.

وبدا مدخل "بريكس" لمقاربة المهمة اقتصادياً كلياً، وتدريجياً، لكن لصعوبتها أبعاد جوهرية أخرى، جغرافية وسياسية واستراتيجية وأمنية، فضلاً عن معضلة "الاقتصاد الكَوني" وفك الارتباط بالدولار، والمهمة الشاقة لتكثيف ورفع سقف فاعلية الاندماج الاقتصادي بين الأعضاء.

تتمتع الدول المكونة للنواة الأساسية لـ"بريكس" بقدر مناسب من التجانس، في جوانب مثل تعداد السكان والحجم، الجغرافي والسكاني، والاقتصادي نسبياً، لكنها تتباين في عوامل أخرى مثل القدرات العسكرية، وربما الاقتصادية، وبنية الاقتصاد وطبيعته الهيكلية، والنمط السياسي للحكم، ومقدار الاعتمادية على شركاء ذوي توجهات مختلفة استراتيجياً. والموقف من النظام الدولي - درجة عدم الرضا عنه، وبالتالي الاستعداد لخوض تحدي أو مواجهة لتغييره، وما يعكسه تنوع الأجندات العامة لمكونات "بريكس" الأساسية، وموقعها من تقسيم العمل الدولي، إذ يتمتع بعضها، بشراكات قوية مع الغرب الجمعي، وسوق النظام الدولي، تشمل أطراً أخرى أبرزها مجموعة العشرين، التي يمثل اقتصادات أعضائها نحو 90% من إجمالي الناتج العالمي. 

في هذا السياق، تبرز أمثلة معاصرة، فكانت الهند قد "رأست" اجتماع مجموعة العشرين في السنوات الأخيرة، وحلّت العام الماضي ضيفاً على قمة "G7" بدعوة ألمانية، وتشارك الولايات المتحدة و"إسرائيل" والإمارات في مجموعة "I2U2" للتعاون الاقتصادي منذ عام 2022.

وبدورها، تُعدّ البرازيل - ذات الروابط الاقتصادية والتمويلية الوثيقة بالغرب الجمعي والولايات المتحدة، عضواً تاريخياً بالمجموعة، مثل جنوب أفريقيا، العضو التاريخي في العشرين كذلك، وذات الشراكة التجارية الكبيرة (بصادراتها) مع أميركا وألمانيا واليابان وبريطانيا، بعد الصين.

وقد تكمن المواجهة المستقبلية المحتملة في تعميق اندماج تلك المكونات بينياً، ومع الصين وروسيا في إطار "بريكس"، أو الذهاب إلى حلول مالية تتجاوز الدولار، تحت ضغط الضرورة، أو تكيفاً مع ضغوط الإدارة الأميركية الحالية، خاصةً بعد إعلان الصين إطلاق خطة لتوسعة استخدام اليوان في التجارة الخارجية عوضاً عن الدولار، وتعزيز نظام الدفع العابر للحدود "CIPS"، البديل لنظام "SWIFT" المُدار غربياً.

من ناحية أخرى، يصطدم توسع "بريكس" الذي انطلق ويتواصل منذ عام 2023 بعدة عوائق، وتتباين قدرات الدول المكونة للكتلة على دعم التوسع، مثل تباين أهداف الدول المكونة للنواة الأساسية لـ"بريكس" تجاه النظام الدولي، من إحداث تغيير جذري به إلى إصلاحه أو تحسين شروطه، وتباين دوافع المنضمين الجدد، الذين يتمتع أغلبهم بعلاقات نوعية مع الغرب الجمعي ومؤسساته، بحكم مواقعهم في تقسيم العمل في إطار نظام الهيمنة، ويستحيل عملياً - حتى الآن - اتخاذهم تموضعاً جذرياً لتغيير النظام الدولي بالفعل، أو إطلاق الشروع في ذلك. 

ولعل الأمثلة الدالة عديدة، مثل تراجع الأرجنتين عن الانضمام في إثر  تغير حكومتها، الذي بدا توجهاً واضحاً للغرب، وتجميد السعودية إجراءات الانضمام، على الرغم من علاقتها الوثيقة بالصين ومجاراتها لحالة التعددية القطبية الناشئة عالمياً منذ عام 2022. بالإضافة إلى نماذج مثل المكسيك التي أعلنت حكومتها السابقة الرغبة في الانضمام، لكن تذهب نحو 80% من صادراتها إلى أميركا، فيما تمثل أعمال الأخيرة أكثر من نصف الاستثمار الأجنبي فيها، وإندونيسيا التي انضمت العام الحالي، والشركاء غير كاملي العضوية المنضمين العام الماضي، ماليزيا وتركيا وتايلاند وفيتنام ونيجيريا.

كلها دول تسير على خط منتصف استراتيجي بين الغرب الجمعي والدول الصاعدة، ولها ارتباط يكاد يكون عضوياً - في حالات بالأولى، وترى في الثانية فرصة لشروط تجارية واستراتيجية أفضل.

كذلك يبرز سؤال هام عن ما قد يعكسه حضور هؤلاء "الشركاء"، والدول - القوى الإقليمية إجمالاً، المتعارضين سياسياً تحت مظلة "بريكس"، على ما بينهم من تناقضات، وما بينهم والغرب الجمعي من روابط ومعادلات مستقرة وتوازنات دقيقة، مثل الإمارات وإثيوبيا ومصر، وإيران، التي انضمت مؤخراً إلى منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC)، الذي يضم دولاً مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والصين، وأبرمت اتفاقية تعاون استراتيجي مع روسيا بموازاة تفاوضها مع إدارة ترامب لرفع العقوبات. 

يتداخل الجنوب العالمي ودول الأطراف مع تلك المعادلات، وهو كتلة سكانية وازنة عالمياً، ما يجعل "بريكس" تواجه سؤالاً حرجاً عنه، إذ لا يُعد مجالاً للتنافس مع النظام الدولي ومحدداته وحسب، فيحاول كل طرف اجتذابه ناحيته، لكن قد تقتضي الضرورة أن يكون ميداناً فعلياً لتعارض المصالح الملموسة، وبالتالي الصدام - لدرجة أو أخرى، بحيث تؤدي إليه عوامل جيوسياسية وديمغرافية كثيرة، خاصة بعد تحولات أنجزها (رأسا) بريكس في عدة مناطق بالعالم، مثل الفاعلية الروسية في أوكرانيا، وغرب وشمال ووسط أفريقيا، والحضور الصيني الواسع في القارة، بوجهه التجاري البحري في 78 ميناء و32 دولة، هي كل الدول الأفريقية ذات المنافذ البحرية عدا 4 دول، بملكيات مشتركة وأعمال للتطوير والإنشاء والتشغيل، ومشروعات طرق تربط الدول الحبيسة بالساحلية، في إطار الحزام والطريق.

لكن ما سقف أو حدود "رغبة" الجنوب العالمي في مواجهة النظام الدولي وانتزاع مكاسب وشروط أفضل، فضلاً عن "القدرة" على تحقيق ذلك؟ 

تضفي العلاقة بين الرغبة والقدرة تعقيداً أكبر على مواقف دول الأطراف والجنوب العالمي، وكذلك مواقف الدول المكونة لنواة "بريكس"، من التوسع وتداعياته، إذ لا ضمانة ألاّ يسبب صداماً كبيراً، غير مرغوب لبعضهم، مع أميركا، أو ألاّ يسبب تنافساً بين الدول الأصغر داخل "بريكس" ذاته.

لكن يكمن عامل الإغراء في أنّ إدارة ترامب نفسها تتيح الفرصة عملياً، بعدوانيتها واندفاعتها الاقتصادية المفتقرة للعقلانية، لتغيير النظام الدولي، وهي البشارة التي أطلقها تشكيل "بريكس" بالأساس، وأنّ الصين قد تكون مؤهلة لإنجاز مهمة بالغة التعقيد (وربما غامضة المعالم)، لكن ضرورية بمعنى ما، هي التنسيق وتقسيم الأدوار، وإضفاء تخطيط عقلاني لفاعلية وتكامل الأعضاء.

حال تحقق ذلك، قد تستطيع دول الجنوب تشكيل شبكة، مع "بريكس" وبعضها البعض، تتيح لها نقلة اقتصادية نوعية. والميزة البارزة التي يشير إليها خطاب "بريكس" الرسمي بالفعل، أنّ دول الجنوب العالمي ذات قوى عاملة وأسواق ضخمة، وبعضها يتمتع بموارد طبيعية هامة، أو مواقع جغرافية استراتيجية تجارياً وتعدينياً ومن جهة سلاسل التوريد الحالية. ومع إنشاء بنك التنمية الجديد لـ"بريكس"، تبدو حلول التمويل أيسر، فضلاً عن تكاثر الشركاء التجاريين الطامحين، خاصة من دول شبه الأطراف، الذي يجعل تكوين الشبكة المأمولة أكثر الخيارات منطقية أو مساراً إجبارياً. 

من ناحية أخرى، لا تُعد المسألة في دول الجنوب العالمي حسابية محضة، على الرغم من أنّ أساسها المادي الواضح (الموارد المتاحة والميزان التجاري وتعداد السكان)، بل تواجه محددات سياسية، ذات بعد اجتماعي ملازم: هل تستطيع، محلياً، ممارسة القدر المطلوب من التخطيط المركزي للإفادة من الفرصة؟ وهل تتيح جغرافيا كل منها وموقعه التاريخي هامش خيارات سياسية كبيرة، مثل تغيير العلاقات والتحالفات الاستراتيجية مع من يطبعون الدولار، ويمنحون أو يمنعون "الشرعية الدولية" في الأمم المتحدة؟ وأي كتلة اجتماعية محلية قد تقود تحولاً بهذا الحجم؟

ويبدو أنّ تحرك روسيا والصين نابع من فرضية أنّ حالة الثور الهائج الاقتصادية (فرض التعريفات الجمركية بمنطق ضيق خاص)، لا تكفل استنزاف أميركا والغرب الجمعي وحسب، وتسبب تصدعاً سياسياً حقيقياً بين أميركا والكتلة الأوروبية، لكن كذلك تعطي الفرصة لتشكيل منطق جديد في دول الأطراف، قد ينتج برامج وتوجهات لصالح "بريكس". وهنا يختلف واقع كل دولة وإقليم وتختلف المقاربات، لكن يظل سؤال التنمية الحقيقية المثمرة ورفع مستوى معيشة الشعوب تحدياً عملياً عسيراً.

اخترنا لك