احتلال غزة.. فخّ الكلفة والمعوقات

معوّقات اقتصادية وعسكرية واجتماعية ودولية تجعل احتلال قطاع غزة بالكامل مشروعاً مكلفاً وغير قابل للاستمرار بالنسبة لـ"إسرائيل". إليكم قراءة في أبرزها

  • جنود إسرائيليون يطلون على قطاع غزة من دبابة-أرشيف
    جانب من الدمار الذي أحدثه عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة -أرشيف "أسوشيتد برس"

شهدت الأيام الماضية جدالاً وتراشقاً إعلامياً بين المؤسستين العسكرية والسياسية في "إسرائيل"، حول توسيع العملية العسكرية في قطاع غزة. المستوى السياسي، ممثَّلاً برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يحلم بتحقيق ما يسمى "انتصاراً حاسماً" على حماس باحتلال كامل قطاع غزة. خطط "السيطرة" (بحسب مصطلح الجيش)، أو "الاحتلال" (المصطلح الذي استخدمته الحكومة)، للقطاع لها أثمان اقتصادية وعسكرية وبشرية، قد يقول البعض إن "إسرائيل" بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر لا تجد صعوبة في دفعها. إلا أنه، عدا عن الأثمان، هناك معوقات تمنع "إسرائيل" من احتلال كامل قطاع غزة. سنعرض هنا بعضاً من هذه التكلفة المتوقعة من زوايا اقتصادية واجتماعية وعسكرية، بالإضافة إلى ذكر بعض العقبات الداخلية والخارجية التي تجعل من الصعب على "إسرائيل" تنفيذ ما تريد من دون عواقب.

من المعروف أن المال أساس الحروب، ووجوده يعني استمرارها. تمتلك "إسرائيل" في بنكها المركزي احتياطياً بالعملات النقدية الأجنبية قدِّر في 7 آب/أغسطس بـ226 مليار دولار، لكن ذلك لا يعني أن "إسرائيل" يمكنها فعل ما تشاء به. فبحسب مقال في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية (10-8-2025)، يكلّف الاحتلال الكامل للقطاع حوالي 120–180 مليار شيكل سنوياً، أي ما يعادل 32–49 مليار دولار. وهذه التكلفة ستنعكس سلباُ على ميزانية "إسرائيل"، إذ سترتفع نسبة الضرائب، وستُقطع الأموال من وزارات مثل التعليم، والصحة، والرفاه الاجتماعي، مع ارتفاع العجز المالي (بحسب تقديرات بنك إسرائيل) إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب التقديرات، فإن احتلال القطاع سيكلّف 10–15 مليار شيكل شهرياً لتوفير الأمن. كما تحتاج "إسرائيل" إلى استدعاء 250 ألف جندي احتياط، مما يعني تحمّل تكلفة يومية تُقدَّر بـ350 مليون شيكل (حوالي 95 مليون دولار)، أي 10–11 مليار شيكل شهرياً. 

عدا الإنفاق العسكري، على الاحتلال صرف المال لتأمين حياة ما يقارب مليوني غزّي من حيث الإيواء والغذاء والطبابة. فبحسب ما صرّحت به المدعية العامة العسكرية، يفعات تومر يروشالمي (10-8-2025)، فإن احتلال القطاع يوجب على "إسرائيل"، بحسب "قوانين الحرب"، أن تتحمل "المسؤولية المدنية عن السكان"، أي سيجبر الاحتلال على إمداد السكان "بالمساعدات الإنسانية والأغذية والمياه وخدمات التعليم والصحة والبنى التحتية"، مما سيثقل على كاهل الميزانية.

في السابق، عندما كانت "إسرائيل" تحتل القطاع، كانت تموّل احتلالها من الضرائب التي تفرضها على التجار الفلسطينيين في غزة، حيث كان هناك اقتصاد وحركة تبادل تجاري مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48. أما اليوم فإن القطاع مدمَّر ولا يوجد اقتصاد، لذلك "إسرائيل" مجبرة على تمويل احتلالها من أموالها.

وبحسب مقال نشره موقع "كالكاليست" الاقتصادي (10-8-2025)، قال مدير في معهد أبحاث "الأمن القومي" (INSS) والمستشار المالي السابق لرئيس الأركان ورئيس قسم الميزانيات في وزارة الأمن العميد (احتياط) والمحاسب القانوني رام عميناح، إنّه "ستُضطر إسرائيل إلى توفير جميع الخدمات المدنية للفلسطينيين في غزة: حفاضات، سلّة أدوية، مستشفيات، مياه، كهرباء، صرف صحي، وغير ذلك من الخدمات الأساسية التي يحصل عليها المواطن الإسرائيلي". مؤكّداً أنه: "لا يمكن جباية الضرائب من سكان غزة، ودول العالم لن تساعد في حالة الاحتلال، بل العكس تماماً. هذا في وقت نحن مدينون فيه بـ 1.35 تريليون شيكل (ما يقارب 300 مليار دولار. نحن نقلّص من سلّة الأدوية لمواطني إسرائيل، فهل سنبدأ بتمويل سلّة أدوية للفلسطينيين على حساب مواطنينا؟".

وقال عميناح: "كل خدمة مدنية — التعليم، الصحة، المواصلات — ستتنافس مع ميزانية مواطني إسرائيل أنفسهم. لإنشاء مستشفى في غزة، ستضطر إسرائيل إلى إغلاق مستشفى قائم أو رفع الضرائب أو زيادة الدين العام ودفع فوائد أكبر، فلا يوجد طريق آخر".

في السياق ذاته، قال باحث كبير في معهد أبحاث "الأمن القومي" (INSS)، من قسم الاقتصاد في الجامعة الإسرائيلية إستيبان كلور إن تكلفة وجبتين أساسيتين يومياً للشخص الواحد تبلغ 2.6 دولار. وبذلك فإن إطعام كل فلسطيني في غزة سيكلف دافع الضرائب الإسرائيلي نحو 3,285 شيكل (حوالي ألف دولار) سنوياً للشخص الواحد. ومع وجود نحو 2.1 مليون نسمة في غزة، فإن التكلفة السنوية الإجمالية للطعام فقط ستصل إلى نحو 6.9 مليار شيكل (حوالي ملياري دولار).

قد يقول أحدهم إن الولايات المتحدة تموّل "إسرائيل" ويمكنها تغطية هذه التكلفة، لكن حتى الآن لا يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مستعد لدفع المال عن أحد، فهو فرض تعريفات جمركية حتى على "إسرائيل". كما أن الضغوط الدولية، في حال احتلت "إسرائيل" كامل قطاع غزة، ستجعل من الصعب على الولايات المتحدة الدفاع عما تقوم به حليفتها.

المعوقات العسكرية

بعد نحو عامين من الحرب، بدا "الجيش" الإسرائيلي مثقلاً بأزمات إدارية ومادية. تشير تقارير صحفية إسرائيلية إلى أن المعدات العسكرية، من دبابات وناقلات جنود إلى طائرات ومروحيات، أصبحت متهالكة بسبب تشغيلها بلا توقف لأكثر من 22 شهراً، في حين تجاوز العديد من قطع هذه الآليات عدد ساعات التشغيل المسموح به وفق تعليمات الشركات المصنّعة. هذا الاستنزاف أدى إلى خروج العديد من الدبابات من الخدمة بسبب أعطال في المحركات، وازداد النقص في قطع الغيار، خاصةً بعدما أوقفت دول مثل ألمانيا توريد بعض الأجزاء الحيوية. وقد أوقفت الحكومة الألمانية (8-8-2025) تصدير المعدات العسكرية التي يمكن أن تُستخدم في غزة، احتجاجاً على خطة الاحتلال. ومن المعروف أن ألمانيا هي المصدر الأول لـ"إسرائيل" لمكونات محركات وناقل الحركة لدبابات "ميركافا" والمدرعات مثل "النمر". كما أوقفت تصدير سيارات الإسعاف التي يستخدمها "الجيش" الإسرائيلي ووكالات الإنقاذ مثل "نجمة داود الحمراء"ـ والتي كان مصدرها شركة "مرسيدس".

إضافةً إلى ذلك، هناك أزمة في تأمين عديد بشري، فالجنود في الخدمة الحالية يعانون إنهاكاً شديداً بسبب طول مدة الخدمة كما يعاني أفراد من الاحتياط من تكرار فترة الخدمة في ظل استمرار الحرب. وتحذّر قيادات "الجيش" من أن استدعاء مئات آلاف الاحتياط من جديد سيتزامن مع عطلة الصيف والأعياد اليهودية، ما يعقّد الاستجابة ويهدد الروح المعنوية.

احتجاجات الجنود والطيارين

على الصعيد الاجتماعي، تصاعدت الاحتجاجات الشعبية الإسرائيلية ضد توسعة الحرب، إلا أن هذه المرة شارك فيها جنود من الاحتياط وطيارون إسرائيليون رافضون استئناف الحرب. فـ"إسرائيل" تَعتبر أنها قضت على التهديدات الأمنية التي كانت محيطة بها، وفقاً لرؤيتها، ورئيس حكومة الاحتلال يروّج لما يسميه "إنجازات" تدعي "إضعاف حركات المقاومة من غزة وصولاً إلى إيران"، لذلك لا يرى المجتمع الإسرائيلي أن هناك تهديداً وجودياً يستدعي استمرار الحرب، وأن الأسرى يمكن الإفراج عنهم بالتفاوض، وحماس لم تعد تشكّل تهديداً. وترى استطلاعات الرأي أن استمرار الحرب هدفه سياسي وإرضاء لشركاء نتنياهو اليمينيين في الحكومة. لذلك تصاعدت احتجاجات عائلات الأسرى والطيارين المتقاعدين. ففي 12 آب/أغسطس 2025، خرج 200 طيار من جنود الاحتياط والمتقاعدين وتجمعوا أمام مقر رئاسة الأركان في "تل أبيب" للمطالبة بصفقة لإطلاق الأسرى ووقف الحرب. 

المقاطعة الدولية

على الصعيد الدولي، تواجه "إسرائيل" عاصفة من الانتقادات والمقاطعات. فكما قلنا، أوقفت الحكومة الألمانية تصدير المعدات العسكرية التي يمكن أن تُستخدم في غزة، وأقدمت مئات الشركات الأوروبية على قطع علاقتها مع الشركات الإسرائيلية. كما أقدم عدد من الصناديق السيادية، مثل صندوق الثروة النرويجي، على تقليص استثماراته في "إسرائيل". كما وصلت المقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ"إسرائيل" إلى مستويات غير مسبوقة، وكشف تقرير لـ"لجنة رؤساء الجامعات الإسرائيلية" أنها سجلت أكثر من 750 حالة مقاطعة منذ بداية الحرب على غزة، بحسب ما ذكرت صحيفة "هآرتس" (25-7-2025). وتزداد نسبة المقاطعة في الجامعات الأوروبية، حيث يُرفض نشر مقالات لباحثين إسرائيليين في دوريات علمية. وقد أعلنت عشرات الجامعات الأوروبية عن "قطع علاقات" مع جامعات وباحثين في "إسرائيل" خلال الأشهر الأخيرة، وفق "هآرتس".

مشروع احتلال قطاع غزة بالكامل مغامرة مكلفة بكل المقاييس، ونتنياهو وحكومته يعلمان ذلك جيداً، لذلك ترك نتنياهو الباب موارباً كما قال مسؤول في الحكومة الإسرائيلية. فاحتلال كامل قطاع غزة لن يحتمله الاقتصاد الإسرائيلي الذي سيُجبر على دفع عشرات المليارات من الشواكل سنوياً، أما "الجيش" فجنوده منهكون ومعداته متآكلة، لذلك يحاول رئيس الأركان إيال زامير تمديد فترة إطلاق العملية إلى أيلول/سبتمبر المقبل لإتاحة المجال أمام فرق التفاوض للتوصل إلى حل. فضلاً عن ذلك، يحمّل القانون الدولي "إسرائيل" مسؤولية قانونية عن حياة ملايين الفلسطينيين، مما يسبب عزلة دولية غير مسبوقة. كما تدفع الخطط المتداولة لإقامة "مدينة إنسانية" أو ما يسمى "استئصال حماس" بالقوة إلى اتهامات بالتهجير القسري وجرائم الحرب، فضلاً عن أنها قد تستغرق شهوراً أو سنوات للتنفيذ.

يبدو أن الطريق الوحيد لتفادي الكارثة هو العودة إلى طاولة المفاوضات وإنجاز صفقة تبادل شاملة تضمن عودة الأسرى ووقف الحرب، مع إدخال ترتيبات دولية لإعادة إعمار القطاع وإقامة إدارة مدنية تحت إشراف أممي أو إقليمي، وهو ما قالت حماس إنها توافق عليه. غير أن المستوى السياسي في "إسرائيل" يصر على المضي في الخيار العسكري حتى تحقيق ما يسميّه "النصر المطلق" الذي قد يتحول إلى مستنقع شبيه بما جرى مع "إسرائيل" إبان احتلال لبنان قبل عام 2000.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك