الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في القرن الأفريقي وشرق ووسط أفريقيا

تنظيما "داعش" و"القاعدة" استغلا الجرائم التي ارتكبت ضدّ المسلمين في أوغاندا وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو، ليقدّما أنفسهما كحماة للمسلمين وإن كان من المفارقة العجيبة أنّ عدد ضحايا المسلمين من عنف هذه الجماعات كبير جداً.

  • الأبعاد الاستراتيجية لانتشار داعش في القرن الأفريقي وشرق ووسط أفريقيا
    الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في القرن الأفريقي وشرق ووسط أفريقيا

منذ الحرب الباردة حظي الصومال، بحكم موقعه الاستراتيجي على الضفة الغربية لمضيق باب المندب وامتداده على سواحل من خليج عدن إلى المحيط الهندي، حظي باهتمام الولايات المتحدة التي كانت تسعى إلى تعزيز وجودها في المنطقة وحصار الوجود السوفياتي في إثيوبيا. وما يجري اليوم في منطقة القرن الأفريقي ليس سوى مقدّمات لحرب باردة ثانية بين قوى عالمية متصارعة.

في بحثنا لانتشار "داعش" والجماعات المتطرّفة في أفريقيا، نحاول في هذا التقرير التركيز على الصومال، لأنّ هناك سردية تقول إن هذا البلد هو المنفذ الرئيسي لـ"داعش" في القرن القرن الأفريقي وشرق ووسط أفريقيا منذ 2014، وبعدها نضيء على حضور "داعش" في باقي بلدان شرق ووسط أفريقيا.

"داعش" الصومال

- السياق التاريخي 

عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، استغلّت واشنطن أحداث الحرب الأهلية الصومالية ودخلت هذا البلد سنة 1993 في إطار "عملية الأمم المتحدة في الصومال" onusom، بذريعة إيصال المساعدة الإنسانية. فقادت من خلال عملية "إعادة الأمل"، قوة دولية ضمّت 38 ألف جندي بينهم 28 ألف أميركي. وقد مُني تدخّل واشنطن والقوة الدولية بالفشل، مما زاد من تمزيق البلاد.

في 31 آذار/مارس 1994 سحب الرئيس الأميركي بيل كلينتون قواته من الصومال.

سنة 2000 تأسس "اتحاد المحاكم الإسلامية" الذي سيطر على مقديشو صيف عام 2006. لكن في نهاية عام 2006 غزت إثيوبيا المدعومة من الولايات المتحدة الصومال وأسقطت حكم "المحاكم".

عادت القوات الأميركية للعمل داخل الصومال عام 2007 من خلال استهداف حركة "الشباب" الإسلامية التي شكّلت الذراع العسكرية لاتحاد المحاكم الإسلامية منذ تأسيسها أوائل 2004، غير أنها انشقّت عن المحاكم سنة 2007 وصنّفت كتنظيم إرهابي تابع للقاعدة.

بين عام 1998 و 2014، كانت التنظيمات المسلحة في الصومال وشرق أفريقيا تدور في فلك القاعدة، لكن بعد عام 2014، انتشرت الجماعات الموالية لتنظيم "داعش".

تصاعدت الغارات الجوية بشكل كبير ضدّ حركة الشباب و"داعش" خصوصاً في ظلّ إدارة ترامب الأولى، قبل أن يعلن هذا الرئيس عن سحب القوات الأميركية في كانون الثاني/يناير 2021 ليترك الصومال في أوضاع أمنية خطيرة. وفي 2022، سمح الرئيس الأميركي جو بايدن بإعادة نشر نحو 500 جندي أميركي في الصومال تخصصوا في تسليح وتدريب جنود صوماليين من دون المشاركة بشكل مباشر في العمليات القتالية. وعاد الجيش الأميركي لتنفيذ ضرباته الجوية على القاعدة وتنظيم "داعش".

في عام 2024، وافقت واشنطن على بناء 5 قواعد عسكرية في الصومال لقوات "لواء دنب"، وهي وحدة من القوات الخاصة الصومالية درّبها وسلّحها الأميركيون لمكافحة الإرهاب. وفي الأول من شباط/فبراير 2025،أمر الرئيس دونالد ترامب، بشنّ أول غارة جوية خلال فترة رئاسته الثانية ضد "داعش" في شمال الصومال.

تزامنت هذه الغارات الأميركية مع هزيمة ساحقة لعناصر "داعش" في المناطق الجبلية بمحافظة "بري" ألحقتها بها قوات مكافحة الإرهاب الصومالية. لكن ترامب وقّع على أمر تنفيذي بإيقاف برامج المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً وخاصة برامج "مكافحة الإرهاب"، من بينها مساعدات لـ 400 من القوات الصومالية الخاصة التي تركت من دون إمدادات، مما سيؤدي إلى إضعاف لواء "دنب". 

تعلم أميركا أنّ الضربات الجوية لا تحسم المعارك ولكنها أصرّت عليها كما أصرّت على الخروج من الصومال والعودة إليه ودعم الحكومات الصومالية وإيقاف الدعم، وهو ما يطرح سؤالاً حول جدّية واشنطن في محاربة الإرهاب في الصومال.

- "داعش" الصومال تنظيم محدود وأهداف كبيرة !

سنة 2014 حاول "داعش" استقطاب حركة "الشباب" الصومالية إلا أنها رفضت مبايعته، باستثناء فصيل منها في إقليم بونتلاند بقيادة عبد القادر مؤمن، الذي انشقّ وأعلن مبايعة "داعش" سنة 2015. ارتبط هذا الفصيل بتنظيم "داعش" في اليمن، بحكم وجوده في شمال شرق الصومال، المطلّ على خليج عدن، مما سهّل إمداده بالأسلحة والعناصر المقاتلة الأجنبية. وقد حذّرت الأمم المتحدة، سنة 2023 من تزايد نشاط "داعش" في الصومال بسبب استمرار تدفّق المقاتلين الأجانب.

وترى أوساط غربية وأممية أنّ تركيز "داعش" على أن يكون موجوداً في أفريقيا هدفه تحسين قدراته المالية التي تدهورت منذ هزيمته في سوريا والعراق حيث تراوحت احتياطاته المالية في 2023 - بحسب الأمم المتحدة - ما بين 25 و50 مليون دولار، بينما كانت في 2014 في حدود 2 مليار دولار.

وتؤكّد المصادر الغربية أنّ "داعش" الصومال لديه طموحات عالمية، بعد أن أصبح قوة قتالية متطورة لها حضور استراتيجي في جبال شمال الصومال ومركزاً عالميّاً للإرهاب في القرن الأفريقي. ووفقاً لتقارير أممية وللأفريكوم، أصبح "داعش - الصومال" المركز العملياتي والمالي الجديد لـ"داعش" العالمية واللاعب المهمّ في بناء شبكة مالية قوية. وقد أصبحت للفرع الصومالي الذي كان يتلقّى في أيامه الأولى أموالاً من الخارج، مصادر إيرادات خاصة به، حيث يجمع ملايين الدولارات كلّ عام عن طريق ابتزاز الشركات المحلية والقرصنة والتهريب.

ولكن هذا الكلام فيه نوع من الاستخفاف بعقول الناس، إذ كيف لتنظيم يتراوح عدد مقاتليه بين 700 و1500 مقاتل أن تكون له طموحات عالمية، وكيف سيغطي ابتزازه لشركات محلية وعمليات قرصنة محدودة متطلّبات تنظيم "داعش" الدولي ونفقات الفروع الأفريقية.

فالمعروف أنّ "داعش الصومال" قريب جداً من "داعش اليمن" وامتداد له. وقد كتب وزير النقل اليمني في حكومة عبد ربه منصور هادي، صالح الجبواني سنة 2019 على حسابه في تويتر: "لدينا كلّ الدلائل على علاقة الإمارات بتنظيمي القاعدة وداعش في اليمن وبالأسماء وهي تستخدم هؤلاء الإرهابيين في ضرب تعزيزات الجيش في طريق شبوة أبين"!

ومعلوم أيضاً أنّ الإرهاب أصبح صناعة توظّف منتجاتها بحسب المصالح والأجندات. فمنذ زمن الحرب الباردة إلى اليوم استعملت الحركات الإرهابية في ابتزاز الأنظمة ونشر الفوضى وعدم الاستقرار أو لتبرير الوجود العسكري لتيسير وضع اليد على ثروات الشعوب أو للتضييق على وجود قوى عالمية منافسة. وهذا ما يحدث اليوم في منطقة القرن الأفريقي وشرق ووسط أفريقيا الاستراتيجية التي تستقطب اهتمام القوة العالمية والإقليمية. هذا الاهتمام يترجمه الوجود المكثّف للقواعد الأجنبية في المنطقة.

ففي جيبوتي توجد قاعدة "ليمونيي" الأميركية، مقرّ القيادة الموحّدة للأفريكوم، وفيها القاعدة العسكرية الصينية الوحيدة الدائمة في الخارج (قاعدة دوراليه) وفيها قواعد لفرنسا واليابان.

أما في الصومال فقد ازداد الوجود التركي منذ عام 2011 لدعم الحكومات الصومالية سياسياً عسكرياً. وربما تسعى تركيا لتعزيز نفوذها العسكري في القارة عبر بوابة الصومال.

كما توجد في الصومال أيضاً دولة قطر وتمتلك مركزاً لتدريب الجنود الصوماليين، والإمارات والسعودية اللتان دخلتا في اللعبة الصومالية عبر القاعدة العسكرية الإمارتية في ميناء بربرة في إقليم أرض الصومال.

أما الكيان الإسرائيلي فقد تسلل في إطار استراتيجية "تحالف المحيط" إلى أريتيريا وجيبوتى وإثيوبيا وأدّى دوراً كبيراً في انفصال جنوب السودان. كما تسلل إلى دول منابع النيل والدول المشاطئة له لتهديد الأمن المائي لمصر والسودان واستعمال الماء كسلاح استراتيجي عند الضرورة.

بالنسبة لإثيوبيا، فقد سبق لها أن خاضت حرباً مع الصومال (حرب أوغادين) بين تموز/يوليو 1977 وآذار/مارس 1978، كما تدخّلت عسكرياً في الصومال سنة 2006 بدعم أميركي لإزاحة حكم "المحاكم الإسلامية"، وهو ما جعلها عرضة لهجمات حركة الشباب الصومالية. مع صعود آبي أحمد لرئاسة وزراء إثيوبيا عام 2018، بدأت محاولات التقارب بين البلدين. لكن يبدو أنّ مساندة إثيوبيا لمطلب أرض الصومال (الصومايليلاند) في الانفصال، قد يسهّل لها الوصول إلى خليج عدن بعد توتر علاقتها مع إريتيريا، مما قد يوتر علاقتها مع مقديشو من جديد.

بخصوص القوات الأممية والإقليمية التي عملت في الصومال: بعثة "أونوصوم" (Unosom)، التي شكّلتها الأمم المتحدة عام 1992، قوة "استعادة الأمل" التي أنشأتها الولايات المتحدة عام 1992 لتكون جزءاً من "يونيتاف" (UNITAF) التابعة للأمم المتحدة، قوات "إيغادصوم" (IGADSOM) التي أسست عام 2005 تحت إشراف مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، قوات "أميصوم" (AMISOM) التي أسست في 2007، قوات "أتميس" (ATMIS) التي أسست في نيسان/أبريل 2022، فبالرغم من تعدّد مسمياتها فإنّ حصيلتها كانت في العموم سلبية.

"داعش" أوغاندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية

بعد سقوط نظام عيدي أمين دادا سنة 1979 في أوغاندا، واجه مسلمو هذا البلد اضطهاداً كبيراً، سواء من طرف القوات الحكومية أو من طرف مجموعة "جيش الرب" المسيحية الأوغندية التي نفّذت العديد من المجازر ضد المسلمين وأدت إلى هروب عدد كبير منهم إلى شمال شرق الكونغو. وكردّ فعل على هذا العنف أسس جميل موكولو، زعيم جماعة التبليغ في أوغاندا سنة 1995 "قوات الحلفاء الديمقراطية" وتحالف مع تنظيم "المسلمون الأوغنديون المقاتلون من أجل الحرية" الذين لجأوا بدورهم عام 1995 إلى الكونغو. كما استطاع التحالف مع "الجيش الوطني لتحرير أوغندا" أن يؤسّس "القوات الديمقراطية المتحالفة" (ADF).

بعد اعتقال جميل موكولو عام 2015، تولّى موسى سيكا بالوكو قيادة القوات الديمقراطية المتحالفة، فغيّر ولاءها من "القاعدة" إلى "داعش" سنة 2019 وبايع أبا بكر البغدادي. وقد نجح التنظيم في شنّ هجماته في أوغندا وشرق الكونغو الديمقراطية وقد صنّفته الولايات المتحدة سنة 2021 "جماعة إرهابية" واصفة إياه بـ"داعش"-جمهورية الكونغو الديمقراطية ISIS-DRC.

تنشط القوات الديمقراطية المتحالفة بالأخص في منطقة بيني، بإقليم كيفو شرق الكونغو التي تشهد أيضاً صراعات (تغذيها قوى أجنبية) إما مباشرة بين جيش جمهورية الكونغو الديمقراطية وقوات رواندية وبوروندية وأوغاندية أو بالنيابة عبر أكثر من 200 جماعة مسلحة. وهذه الصراعات دافعها الرئيسي السيطرة على النفط والذهب والكولتان التي تتصارع القوى العظمى للسيطرة على مناجمها خصوصاً في شمال منطقة كيفو.

"داعش" كينيا وإثيوبيا 

بالرغم من أنّ وجود "داعش" في كينيا محدود، فإنه يشنّ بين الفينة والأخرى هجمات في هذا البلد كإحراق مركز شرطة مومباسا المركزي في عام 2016. أما فيما يتعلق بإثيوبيا، فالصراع كان تاريخياً مع حركة شباب الصومالية في المناطق الحدودية بين البلدين، حيث تتهم الحركة أديس أبابا بالتدخّل في شؤون الصومال ومساندة انفصال إقليم بلاد الصومال (الصومايليلاند)، فضلاً عن النزاع القديم على إقليم الأوجادين.

لكن عند ظهور "داعش" الصومال حاول استغلال الأزمات السياسية بين الحكومة الإثيوبية وبعض الإثنيات كالأورومو لدعوة المسلمين الإثيوبيين إلى الالتحاق بصفوفه، خصوصاً في 2023 على خلفية صدامات وقعت بسبب عمليات هدم مساجد وصفها المسلمون الإثيوبيون بالتمييزية.

الخاتمة

يوم 28/1/2025 عمّت عاصمة الكونغو الديمقراطية تظاهرات واحتجاجات أمام السفارات الفرنسية والأميركية والبلجيكية والرواندية والكينية والأوغاندية متهمة هذه الدول بدعم حركة "إم 23" الانفصالية في غوما على الحدود الكونغولية الأوغاندية. كما تتهم جهات في جمهورية أفريقيا الوسطى منذ 2012 دولاً غربية كفرنسا وأميركا بتغذية الصراعات الدينية بين المسلمين والمسيحيين مما يزيد من انتشار التطرّف والقابلية للإرهاب. من دون أن ننسى التظاهرات التي عمّت النيجر ومالي وبوركينا فاسو واتهم فيها المحتجون فرنسا وحتى أميركا بعدم الجدية في مكافحة الإرهاب. 

الإرهاب في القرن الأفريقي وشرق ووسط أفريقيا لا دين له ولا قومية. فهناك إرهابيون مسلمون كما هناك إرهابيون مسيحيون أو وثنيون. لكنْ أياً يكون مصدر هذا الإرهاب فإنه يُوظّف لتبرير التدخّلات العسكرية ولوضع اليد على بئر نفط أو منجم نحاس أو ماس أو كولتان أو منابع أنهار أو منع قوى دولية أخرى من أن تكون موجودة في المنطقة.

بخصوص انتشار "داعش" وقبله القاعدة في أفريقيا، لا بدّ من التذكير أنّ هذين التنظيمين قد استغلا الجرائم والمجازر التي ارتكبت ضدّ المسلمين في أوغاندا وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو - وهي جرائم تمّت وتتمّ بتوجيه وتواطؤ مع قوى استعمارية - ليقدّما نفسيهما كحماة للمسلمين، وإن كان من المفارقة العجيبة أنّ عدد ضحايا المسلمين من عنف هذه الجماعات كبير جداً.

اخترنا لك