الحرب الإمبريالية على إيران: بين الحسابات الروسية والحذر الصيني

الصراع بين إيران و"إسرائيل" كشف عن مواجهة دولية أوسع تشارك فيها روسيا بحذر وتدعمها الصين بصمت، بينما تغرق "تل أبيب" في مأزق استراتيجي عسكري وسياسي متصاعد.

  • من اليمين علم روسيا وإيران والصين (أرشيف)
    من اليمين علم روسيا وإيران والصين (أرشيف)

منذ اللحظة الأولى التي اشتعلت فيها شرارة العدوان الصهيوني/الإمبريالي على إيران، بدا واضحاً أن المسألة تتجاوز حسابات الكيان الصهيوني الضيقة، وأن الحرب الجارية ليست سوى واجهة لصراع أوسع تقف خلفه الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، مدفوعين بهاجس احتواء القوى الصاعدة في الشرق، وفي مقدمتها الصين وروسيا.

وبينما ركزت الأنظار على الضربات المتبادلة بين طهران و"تل أبيب"، فإن المشهد الحقيقي يتكشَّف خلف الكواليس، حيث تتقاطع المصالح وتتفاوت التقديرات بين موسكو وبكين، في ظل إدراكهما المشترك لأهمية إيران، وقلقهما المتباين من تداعيات هذه الحرب.

تاريخياً، مثَّلت إيران بالنسبة إلى روسيا شريكاً استراتيجياً ذا بُعد أمني واقتصادي لا يمكن إغفاله، خصوصاً مع اتساع رقعة المواجهة بين موسكو والغرب على خلفية الحرب في أوكرانيا. وعلى مدى السنوات الماضية، تجسَّد هذا التعاون في مستويات متعددة، بدءاً من التعاون العسكري المحدود، وصولاً إلى اتفاقيات الشراكة الاقتصادية العابرة للحدود. غير أن الحسابات الروسية تجاه الحرب على إيران تبدو أكثر تعقيداً، إذ تدرك موسكو أن أي مواجهة مباشرة مع الكيان الصهيوني أو الولايات المتحدة قد تفتح جبهة جديدة لا طاقة لها بها، وهي المثقلة بحرب استنزاف غربية على أراضيها منذ أكثر من ثلاثة أعوام.

ورغم حاجة روسيا لحليف موثوق في الشرق الأوسط مثل إيران، فإنها تتعامل بحذر واضح مع هذا التحالف، إذ لا تخفي موسكو مخاوفها من تجاوز طهران عتبة السلاح النووي، ليس حرصاً على الأمن الإقليمي بقدر ما هو خشية من فقدان أدوات التأثير على القيادة الإيرانية.

فمنذ البداية، لم تكن روسيا متحمّسة لتحوّل إيران إلى قوة نووية مكتملة الأركان، لما في ذلك من تداعيات على موازين القوى، ليس فقط إقليمياً، وإنما على مستوى علاقاتها الثنائية مع طهران ذاتها. ومع ذلك، صرَّح خلال الأيام الماضية مسؤولين روس، على رأسهم الرئيس بوتين، بأن لإيران الحق في استمرار تخصيب اليورانيوم طالما يندرج ذلك ضمن أعمال سلمية.

وفي الوقت الذي تتجنب فيه موسكو تقديم دعم عسكري نوعي لطهران في معركتها الحالية، تبدو الصين أكثر ميلاً إلى التعامل مع الأزمة من زاوية استراتيجية بعيدة المدى، فهي ترى في إيران حجر زاوية أساسياً في مشروعها الأوسع لكسر الهيمنة الأميركية، سواء عبر طريق الحرير الجديد أو من خلال تحالفات اقتصادية وعسكرية غير معلنة. وقد بدا لافتاً في الأيام الأخيرة الحضور الصيني غير المباشر في ساحة المواجهة، سواء عبر المؤشرات المرتبطة بشحنات الدعم العسكري، أو من خلال المواقف السياسية التي تحمّل واشنطن مسؤولية تأجيج الحرب.

الصين، التي راكمت تجربتها الطويلة في التعامل مع الحروب بالوكالة والضغوط الاقتصادية، تدرك أن المعركة على الأرض الإيرانية ليست سوى اختبار مبكر لحجم تأثيرها في الصراع الدولي المفتوح مع الولايات المتحدة. ومن هنا، لم يكن مفاجئاً أن تتوالى التقارير عن تحركات عسكرية صينية غير معلنة، أو شحنات دعم وصلت إلى إيران في توقيت حساس، ما يطرح تساؤلات جدّية حول حدود الدور الذي تلعبه بكين خلف الكواليس، دون أن تنخرط علناً في المواجهة.

وفي المقابل، يدرك الأميركيون والإسرائيليون تماماً أن طهران ليست وحدها في هذا الصراع، وأن الحسابات التي وضعتها واشنطن قبل إطلاق يد تل أبيب لضرب إيران، لم تعد صالحة بعد التطورات الأخيرة، بدءاً من سقوط الطائرات الإسرائيلية المتطورة، مروراً بتعاظم قدرات إيران الدفاعية، والمواقف المتتالية من القوى الإقليمية والدولية التي راحت تصطف تدريجياً إلى جانب إيران ولو بصورة غير مباشرة، وصولاً إلى قصف الأخيرة لقاعدة العديد العسكرية في الدوحة وما تبع ذلك من تضاربات في مواقف دول المنطقة، إلى جانب إرساء طهران لقاعدة الندّية في المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة، وهو ما لم تكن إدارة ترامب تحسب له جيداً كما هو واضح من تضارب التصريحات الأميركية في وقت قصير. 

وبينما تبدو أوروبا غارقة في أزماتها الداخلية ومترددة في الانخراط مباشرة في مواجهة مفتوحة، تتعاظم أهمية التحركات الروسية والصينية التي تحمل رسائل ضمنية للغرب بأن الهيمنة الأميركية لم تعد مطلقة، وأن تحالفاً دولياً جديداً يتشكل بهدوء حول إيران، يتجاوز الحسابات التقليدية التي اعتادتها واشنطن في إدارة أزماتها بالمنطقة. هذا التحالف، الذي بدأ يأخذ ملامح واضحة مع مواقف موسكو وبكين، يعيد رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط على نحو يعاكس المخططات الأميركية والصهيونية.

أما الموقف الروسي، رغم ما تعكسه التصريحات من برود حَذِر، لا ينفصل عن القلق الاستراتيجي من التمدد الأميركي في المنطقة، خاصة مع محاولات واشنطن فرض معادلات جديدة تهدد ليس فقط أمن إيران، وإنما مصالح روسيا في مجالات الطاقة، والممرات البرية والبحرية، وامتدادات النفوذ في آسيا الوسطى والإقليم الأفروأوراسي الأكبر. غير أن روسيا، التي تخوض حرباً مفتوحة في أوكرانيا، ليست في وضع يمكّنها من الانخراط العسكري في دعم طهران، وهو ما يفسر اكتفائها بالتحركات السياسية واللوجستية المحدودة، دون الذهاب إلى مواجهة مباشرة مع الأطراف المعتدية. والجدير ذكره هنا أن الاعتماد على تصريحات الدبلوماسيين الروس – وكذلك الصينيين – لا يكفل تكوين قراءة شاملة للموقف الروسي من الحرب على إيران، إذ ليس بوسعنا فهم ما يدور خلف الشاشات وليس لدينا معلومات أو دلائل عنه.

وبالنسبة إلى الصين، فإنها تنظر إلى المواجهة الحالية باعتبارها جزءاً من معركة طويلة الأمد لكسر الطوق الأميركي حولها، خصوصاً في ظل الارتباط العضوي بين إيران ومشروعاتها الاقتصادية الكبرى، وفي مقدمتها ممرات التجارة والطاقة التي تمر عبر الأراضي الإيرانية متجاوزة نقاط السيطرة الأميركية التقليدية. وقد بات واضحاً أن أي إضعاف لإيران سينعكس سلباً على هذه المشروعات، ما يفسر حذر بكين، وحرصها في الوقت نفسه على عدم ترك طهران بمفردها في مواجهة الحصار والعدوان.

في هذا السياق، لا يمكن إغفال البعد العسكري غير المعلن الذي بدأت ملامحه تظهر تدريجياً، من خلال أنباء متواترة عن تزويد إيران بأنظمة دفاعية متطورة، يعتقد أن جزءاً منها صيني الصنع، وهو ما يفسر تمكن الدفاعات الإيرانية من إسقاط مقاتلات الجيل الخامس الإسرائيلية، في سابقة هي الأولى من نوعها على مستوى العالم. ومع أن الصين لم تعلن رسمياً عن أي دور عسكري مباشر في هذه الحرب، فإن الوقائع الميدانية تطرح علامات استفهام جدّية حول طبيعة الدعم الذي حصلت عليه طهران في مواجهة واحدة من أعنف الهجمات التي تعرضت لها منذ الثورة الإسلامية.

أما الكيان الصهيوني، الذي دخل الحرب مدفوعاً بتشجيع أميركي وأوروبي واضح، فقد بدأ يدرك تدريجياً أن حسابات المعركة لم تكن دقيقة، وأن إيران ليست حلقة ضعيفة كما افترضت قيادة الاحتلال، وإنما هي قوّة إقليمية صلبة قادرة على امتصاص الضربات، والرد عليها بمستوى أربك ليس تل أبيب فحسب، وإنما دوائر القرار في واشنطن نفسها. ويبدو أن الرهان على انهيار الداخل الإيراني، أو على اصطناع شرخ بين القيادة والشعب، كان في غير محله، بعدما التفّت قطاعات واسعة من الإيرانيين، بما في ذلك معارضون سابقون، حول موقف الدولة في مواجهة العدوان.

وفي المقابل، فإن المأزق يتعمق داخل الكيان الصهيوني الذي بات يواجه مشكلات متزايدة: مازال يخضع للاستنزاف الحاد في مستنقع غزة حتى وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة من حيث مستوى الزخم والعمق والضرر على مدار ما يزيد على عام ونصف، والتصدعات الداخلية المتفاقمة التي تهدد استقرار الحكومة وتزيد من حدة الاستقطاب الاجتماعي، وتصاعد الأصوات الرافضة للتجنيد إلى جانب الاحتجاجات المتقطّعة، وأخيراً العجز عن تحقيق أهداف العدوان على إيران والخروج من الحرب معها بخسائر جسيمة، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو السياسي أو حتى من حيث الهيبة الدولية والإقليمية.

على وقع هذا المشهد المعقَّد، الذي انتهى بوقف هش لإطلاق النار قابل للاشتعال مرة أخرى بسرعة، مازالت احتمالية انزلاق الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع إيران قائمة، وهو ما تحاول إدارة ترامب تجنّبه، لكنها قد تجد نفسها مضطرة إليه تحت ضغط انهيار هيبة الكيان الصهيوني، وفشل مخطط إخضاع طهران عبر ضربات محدودة لا تفسير لها إلا محاولة حفظ ماء الوجه، سواء لإسرائيل أو للولايات المتحدة.

وفي المقابل، فإن مثل هذا التدخل الأميركي، إذا حدث، سيشكّل تأجيجاً للحرب وتوسّعاً لرقعتها بما يضع دول الخليج في موقف مأزوم ومعها اقتصاد الطاقة عالمياً، ولكن ذلك سيشكّل أيضاً فرصة ذهبية للصين وروسيا لتوسيع مساحة نفوذهما، ليس في الشرق الأوسط فحسب، وإنما في الساحة الدولية برمتها، عبر استنزاف واشنطن وحلفائها في صراع طويل ومكلّف.

ولكن في النهاية، تبدو الحرب على إيران اختباراً حقيقياً لمعالم النظام الدولي الجديد، حيث تتداخل المصالح وتتناقض الحسابات بين القوى الكبرى. وبينما تواصل إيران صمودها، بتضحيات شعبها المقاوم وبدعم متنوّع من حلفائها، تتحسس الولايات المتحدة وحلفاؤها الطريق وسط ألغام معقَّدة، والجميع يدرك أن مسار الحرب لن ينتهي إذا عاود مرة أخرى بانتصار سريع أو هزيمة واضحة، وإنما سيعيد رسم موازين القوى بطريقة تغيّر وجه المنطقة والعالم لعقود قادمة. لقد انتصرت إيران في المعركة الأخيرة، لكن ذلك ليس إلا أول الغيث، ومازال أمامها – وحلفائها في محور المقاومة – طريقاً طويلاً لاستنزاف الكيان الصهيوني إلى أقصى حد بما يضمن تفكك المشروع الصهيوني إلى غير عودة.

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.

اخترنا لك