الهجوم على الدوحة؛ نقطة تحوّل، أم توسيع لجغرافيا الاستباحة الإسرائيلية..!

الهجوم على الدوحة يُظهر بما لا يدع مجلاً للشكّ أنّ "إسرائيل" اختارت مسار إدارة المخاطر؛ أي تحقيق ردعٍ فوريٍّ محتمل، وتغيير في الواقع على حساب احتمال استمرار الأزمة لفترةٍ طويلة.

0:00
  • الهجوم على الدوحة أتى كترجمة لخطط مطروحة على طاولة النقاش السياسي الإسرائيلي.
    الهجوم على الدوحة أتى كترجمة لخطط مطروحة على طاولة النقاش السياسي الإسرائيلي.

شنّت "إسرائيل" هجوماً عسكرياً سافراً على عاصمة دولة عربية خليجية محايدة ووسيط أساسي في المفاوضات بين "إسرائيل" وحماس، بدعوى "القضاء على قادة حماس المعارضين للصفقة والمسؤولين عن أحداث السابع من أكتوبر 2023". ومع أنها سابقة خطيرة، تتناقض مع كلّ قواعد السلوك المتعارف عليها في الساحة الدولية، إلّا أنّ الضرر الذي قد يلحق بصورة "إسرائيل" وشرعيّتها في العالم لم تظهر له أيّ إشارة في الجدل الداخلي الإسرائيلي المرتبط بهذه العملية. 

من حيث المبدأ، لا يدور الحديث إسرائيلياً حول شرعية الضربة، لا فيما يخصّ انتهاك سيادة الدول أو انتهاك القانون الدولي، بل يتمحور النقاش حول قضيتين أساسيتين، ترتبط الأولى منهما بتحفّظات البعض حول توقيت الهجوم ومدى تأثيره على فرص الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، خاصة مع التقديرات القائلة بأنّ الهجوم على قطر قد يُطيح بمسار المفاوضات بما يقلّل فرص إطلاق سراح الأسرى المتبقّين أحياء. 

فرئيس "الموساد" مثلاً، اقترح خلال المشاورات الإسرائيلية الداخلية تأجيل الهجوم في الدوحة مدة أسبوع، لكنه لم يعارض العملية من حيث المبدأ. الأمر نفسه ينسلخ على بقية قادة الأجهزة الأمنية الذين أرادوا، من إبداء التحفّظ على توقيت العملية، النأي بأنفسهم عن النتائج السلبية المتوقّعة على حياة الأسرى الإسرائيليين، بما يعفيهم، أي قادة الأجهزة، من أي انتقاد أو مُساءلة لاحقة. 

أما القضية الثانية، فمرتبطة ٌبميل الغالبية الإسرائيلية، التي تُهلّل للضربة وتُفاخر بها، إلى تجاوز التحفّظات المرتبطة بتوقيتها وانعكاسها السلبي على الأسرى الإسرائيليين، في حال نجحت بالقضاء على قيادة حماس، طمعاً بـإنجاز استراتيجي يفوق في قيمته الأمنية السياسية المسار التفاوضي أو الأضرار الناتجة عن تخريبه، لذا فإنهم يعيشون حالة من الترقّب لنتائج الضربة التي يتلاشى الأمل تدريجياً بنجاحها مع مضي الوقت. 

في الواقع لم يأتِ الهجوم على الدوحة كنزوة انفعالية عابرة على أثر عملية القدس الفدائية، أو كتعبير عن حسابات ورهانات خاطئة من طرف نتنياهو وحكومته، بقدر ما أتى ترجمة لخطط مطروحة على طاولة النقاش السياسي والأمني الإسرائيلي منذ اندلاع الحرب على غزة، لكنه كان ينتظر اللحظة المواتية للتنفيذ.

كما لم يرد، على الأرجح، في حسابات نتنياهو الأضرار التي قد تلحق بالعلاقة مع الولايات المتحدة والرئيس ترامب، إن صحت رواية أنه علم مـتأخراً بالهجوم، إذ تُراهن "إسرائيل"، كعادتها، أنّ ترامب سيكون قادراً على ابتلاع هذه الضربة واحتواء تداعياتها مع حلفائه العرب، ولن يؤثّر فيها بعض "العتاب الأميركي الهادئ" الذي تتفهّم "إسرائيل" الحاجة الأميركية إليه في سياق النأي بالنفس وحفظ ماء الوجه أمام الحلفاء العرب، حيث يُفاقم الهجوم معضلات الولايات المتحدة في حاجتها إلى الحفاظ على التوازن بين حلفائها في المنطقة، ويفتح فصلاً جديداً أكثر تحدّياً، في العلاقة بين "إسرائيل" وجوارها العربي. 

وهذا ما تعزّزه الروايات التي تصدر من البيت الأبيض بهدف التنصّل من المشاركة في الضربة الإسرائيلية على قطر، والتي يتلقّفها الإعلام العبري ويروّج لها، ومنها "أنّ البنتاغون هو من أبلغ البيت الأبيض بعد رصد صواريخ أُطلقت باتجاه قطر، وأنّ الرئيس ترامب عَلِمَ بالضربة بعد تنفيذها ولم يستطع تحذير حليفته قطر إلا بعد فوات الأوان، وأنه تعهّد لأمير قطر بعدم تكرار ما حدث مستقبلاً.."! 

يسود الاعتقاد، حتى في أوساط إسرائيلية، أنّ "إسرائيل" نفّذت هجومها في الدوحة كـ "بديل لعملية مُركّزة كانت تخطّط لتنفيذها سابقاً في تركيا وتمّ تأجيلها". وبحسب الترجيحات فإنّ، "نتنياهو وحكومته مقتنعون بأنّ إدارة ترامب ستتمكّن من حلّ القضية مع الدوحة، على عكس أنقرة، التي نظراً لعضويتها في الناتو، ستصعّد الوضع، وهو ما قد يُكلّف "إسرائيل" ثمناً سياسياً واقتصادياً أثقل". يُفهم من هذا، أنّ الإسرائيليين أقاموا حساباتهم على فرق التكلفة في الردّ سياسياً واقتصادياً حين نفّذوا الهجوم في الساحة القطرية، وليس على مبدأ شرعية الهجوم ابتداءً!. 

لم يعد خافياً أنّ "إسرائيل" تتصرّف بمنطق غطرسة القوة الغاشمة، وتحاول فرض معادلات جديدة على الشرق الأوسط برمّته من دون أيّ اعتبار لسيادة الدول أو القوانين والعلاقات الدولية. بالنسبة لـ "إسرائيل"، وحتى لو لم يُحقّق هجومها على الدوحة هدفه المتمثّل في القضاء على قيادة حماس، فإنها سعت إلى توجيه رسالة مزدوجة إلى الحركة ومستضيفتها قطر، التي تسعى جاهدةً لترسيخ مكانتها كوسيط محايد في مناطق الصراع حول العالم، وكمركز دبلوماسي وتجاري مُحصّن ضدّ الهجمات، مفادها أنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت، الأمر الذي أكده تصريح رئيس كنيست الاحتلال حين قال "بأنّ الهجوم على الدوحة رسالة للشرق الأوسط برمّته".

أدانت أغلب دول العالم الهجوم الإسرائيلي على قطر باعتباره انتهاكاً صارخاً لسيادتها ولقواعد الحصانة في العلاقات الدولية التي يتمتّع بها الوسيط، بل ذهب البعض لاعتباره هجوماً على أمن الخليج. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح الآن عربياً، هل يتخذ العرب خطوات تفرض على "إسرائيل" عواقب لهجومها على الدوحة؟. 

تُعلن "إسرائيل" أنها غير مستعدّة للتراجع عن غطرستها، بل يصرّ رئيس وزرائها على تهديده الصريح لقطر ولغيرها من دول المنطقة بضرورة "طرد قادة حماس أو محاكمتهم، وإلّا فإنّ إسرائيل ستفعل ذلك بنفسها"، حتى لو أدّى ذلك إلى توترات إقليمية. وهي محاولة من جانبها، ليس فقط لإلحاق الضرر بحماس، بل لتغيير المعادلة الإقليمية أو ما تسمّيه "إعادة تشكيل الشرق الأوسط".

فالهجوم على الدوحة يُظهر بما لا يدع مجلاً للشكّ أنّ "إسرائيل" اختارت مسار إدارة المخاطر؛ أي تحقيق ردعٍ فوريٍّ محتمل، وتغيير في الواقع على حساب احتمال استمرار الأزمة لفترةٍ طويلة. فهل يختار العرب أيضاً مساراً ندّياً يواجه غطرسة "إسرائيل" ويعيد إليها بعضاً من "حسابات العقل" التي تأخذ بعين الاعتبار الخسائر المحتملة لسلوكها المتعالي!

ربما تشكّل الدعوة القطرية لعقد قمة عربية-إسلامية طارئة في الدوحة يومي الأحد والاثنين فرصة ذهبية لقادة الدول العربية، والخليجية على وجه الخصوص، لإعادة التموضع واتخاذ قرارات حاسمة تجاه "دولة" الاحتلال والعلاقات السياسية والاقتصادية معها إضافة إلى برامج التطبيع المقترحة.

إنّ الإعلان عن موقف عربي حازم وموحّد مسنوداً بخطوات عملية، سيكون كفيلاً بلجم "إسرائيل"، ودفعها نحو وقف حرب الإبادة والتهجير في القطاع، والضمّ والتهويد في القدس والضفة الغربية ضمن رؤية عربية مشتركة تُعيد رسم علاقات الصراع معها بما يكفل كفّ يدها وأطماعها عن الدول العربية وشعوبها، وإلّا فإنّ جغرافيا الاستباحة الإسرائيلية ستتسع لتصبح كلّ العواصم العربية مفتوحة على مصير غزة...!