الحكومة الإلكترونية في لبنان: بيروقراطية الماضي تعرقل رقمنة المستقبل
مشروع "الحكومة الإلكترونية" في لبنان الذي كان من المفترض أن يُحدث نقلة نوعية في أداء الإدارات العامة، يواجه اليوم سلسلة من العقبات البنيوية والإدارية، تُبقي مؤسسات الدولة غارقة في الروتين الورقي.
-
مبنى السراي الحكومي في لبنان (أرشيف)
في زمنٍ تتسارع فيه خطوات العالم نحو الرقمنة والتحوّل الرقمي في مؤسسات الدولة، ما زال لبنان يعيش فجوةً كبيرة بين الخطاب والواقع. فمشروع "الحكومة الإلكترونية" الذي كان من المفترض أن يُحدث نقلة نوعية في أداء الإدارات العامة، يواجه اليوم سلسلة من العقبات البنيوية والإدارية، تُبقي مؤسسات الدولة غارقة في الروتين الورقي، وتعطّل أي أمل حقيقي بالتحوّل الرقمي الشامل.
ما هي "الحكومة الإلكترونية"؟
الحكومة الإلكترونية هي منظومة استخدام متكامل لتقنيات المعلومات والاتصالات لرقمنة خدمات الدولة ومعاملاتها، وتمكين التواصل الآمن والشفّاف بين المواطن، والمؤسسة العامة، والقطاع الخاص. وتشمل عناصرها:
· بوابات موحّدة للخدمات (تسجيل، دفع، تتبّع المعاملات).
· هوية رقمية وتوقيع إلكتروني ودفاتر سجلات رقمية.
· قواعد بيانات مترابطة بين الوزارات والبلديات.
· تشريعات تنظّم المعاملات الإلكترونية وتحمي البيانات والخصوصية.
الغاية ليست "تحويل الورق إلى شاشة" فحسب، بل إعادة تصميم العمليات لتصبح أسرع، وأقل كلفة، وأكثر شفافية وخاضعة للمساءلة.
الحكومة الإلكترونية: أداة لمحاربة الفساد واستعادة ثقة المواطن
إنّ تطبيق الحكومة الإلكترونية في لبنان لم يعد ترفاً إدارياً أو شعاراً إصلاحياً، بل أصبح ضرورة وطنية ملحّة لمكافحة الفساد المزمن الذي ينخر في مؤسسات الدولة. فالتحوّل الرقمي، حين يُطبّق بشكل فعّال وشفّاف، يحدّ من التدخّل البشري في المعاملات، ويُغلق الكثير من "الثغرات الرمادية" التي كانت تُستغلّ لتمرير الرشاوى أو تأخير الملفات بهدف الابتزاز أو المحسوبية.
من خلال الأنظمة الإلكترونية الموحّدة، يمكن لكلّ مواطن أن ينجز معاملته عبر بوابة رقمية واضحة، تُظهر مراحل المعاملة، والجهة المسؤولة، والمدة الزمنية المتوقّعة، ما يُقلّص مساحة الغموض والاحتكاك المباشر مع الموظفين. كذلك، تتيح قاعدة البيانات الرقمية تتبّع كلّ خطوة ومعاملة إلكترونياً، ما يجعل أيّ تجاوز أو تأخير قابلاً للتوثيق والمساءلة.
وفي بلد مثل لبنان، حيث فقد المواطن الثقة بالإدارة العامة نتيجة تراكم الهدر والفساد، تُشكّل الحكومة الإلكترونية فرصة حقيقية لإعادة بناء هذه الثقة عبر الشفافية، المراقبة، والمحاسبة اللحظية. فكلما أصبحت الخدمات مؤتمتة ومفتوحة للمراقبة العامة، كلما تقلّصت فرص التلاعب والإكراميات، وتحوّل النظام الإداري من بيئة فساد إلى منظومة حوكمة رقمية قائمة على العدالة والإنصاف. ويمكن تقسيم هذه العقبات إلى ما يلي:
بيروقراطية متجذّرة في بنية الدولة
أولى العقبات التي تواجه الحكومة الإلكترونية في لبنان هي البيروقراطية الإدارية المزمنة. فطريقة العمل داخل الوزارات والمؤسسات العامة ما زالت قائمة على التسلسل الهرمي المعقّد، وكثرة التواقيع، واعتماد المعاملات الورقية بشكل شبه كامل.
تُعَدّ هذه البيروقراطية ليس فقط عائقاً أمام الكفاءة، بل حاجزاً أمام أي محاولة لتبسيط الإجراءات عبر الأنظمة الرقمية. فحتى في بعض المؤسسات التي جُرّب فيها إدخال خدمات إلكترونية محدودة، اصطدمت المبادرات بعقلية تقليدية ترفض التغيير، وتخشى فقدان السيطرة أو النفوذ داخل النظام الإداري.
بنى تحتية غير جاهزة للرقمنة
العامل الثاني لا يقلّ خطورة، وهو ضعف البنية التحتية التكنولوجية. فالعديد من الإدارات الرسمية تفتقر إلى شبكات إنترنت مستقرة وسريعة، وإلى أنظمة معلومات مؤمّنة، وسيرفرات قادرة على تخزين البيانات الضخمة. كما أنّ غياب الربط الإلكتروني بين الوزارات يجعل أيّ معاملة رقمية مجتزأة وغير مترابطة، إذ لا توجد قاعدة بيانات وطنية موحّدة تربط المؤسسات ببعضها.
وفي ظلّ الانهيار الاقتصادي الذي ضرب القطاع العام، باتت ميزانيات الصيانة والتطوير شبه معدومة، ما جعل الأجهزة تتقادم بسرعة من دون تحديث أو استبدال.
العامل البشري: فجوة الجيل والتدريب
تواجه الدولة اللبنانية أيضاً معضلة في الكادر البشري. فمتوسط أعمار الموظفين في الإدارات العامة مرتفع نسبياً، وغالبية العاملين لم يتلقّوا تدريبات كافية على استخدام الأنظمة الرقمية الحديثة.
في المقابل، يغيب جيل الشباب المؤهّل تقنياً عن الوظائف العامة بسبب تجميد التوظيف منذ سنوات، ما أدى إلى فجوة رقمية داخل المؤسسات نفسها.
ومع غياب برامج تدريب منهجية، يتحوّل الانتقال إلى العمل الإلكتروني إلى مهمة شبه مستحيلة، خصوصاً حين يُطلب من موظفين تعوّدوا على الورق والطابع والختم أن يعتمدوا المنصات الرقمية والتوقيع الإلكتروني.
غياب الرؤية والاستمرارية السياسية
وراء كل تلك العوائق، يختبئ غياب الرؤية الحكومية الموحّدة. فكلّ وزارة أو جهة تعتمد مشاريعها الرقمية بمعزل عن الأخرى، وغالباً ما تتبدّد الخطط مع تغيّر الوزراء أو الحكومات.
كما أنّ انعدام التنسيق بين الإدارات، وغياب الإطار التشريعي الواضح للحكومة الإلكترونية، يعمّق حالة الفوضى الرقمية. فحتى الآن، لم يُقرّ قانون شامل يُنظّم المعاملات الإلكترونية أو يحمي البيانات الشخصية بشكل فعّال، ما يترك ثغرات قانونية وأمنية خطيرة.
الطريق إلى الإصلاح الرقمي
على الرغم من قتامة المشهد، ففرص التقدّم ممكنة إذا اقترنت الإرادة السياسية بالإصلاح الإداري وتحديث الثقافة التنظيمية:
1. التبسيط قبل الرقمنة: مراجعة الإجراءات واختزال التواقيع، واعتماد "النافذة الواحدة" ومسارات زمنية واضحة لكلّ معاملة.
2. حوكمة مركزية ومعايير مفتوحة: إنشاء/تفعيل هيئة وطنية للتحوّل الرقمي بصلاحيات ومعايير ربط (APIs) وتبادل بيانات بيني.
3. تشريعات حامية للثقة: استكمال قوانين الهوية والتوقيع الإلكتروني وحماية البيانات مع آليات إنفاذ ورقابة مستقلة.
4. بنية تحتية مؤمّنة وقابلة للتوسّع: تحديث مراكز البيانات أو تبنّي سحابة حكومية هجينة، وتفعيل خطط النسخ الاحتياطي والتعافي من الكوارث.
5. استثمار في رأس المال البشري: برنامج وطني للتدريب المستمر (مهارات رقمية أساسية، تشغيل الأنظمة، أمن وخصوصية)، مع حوافز للتبنّي و"سفراء رقميين" داخل كل إدارة.
6. إطلاق خدمات ذات أثر عالٍ بسرعة: البدء بخدمات مطلوبة بكثافة (السجل العدلي، الرخص، المدفوعات الحكومية) مع لوحات متابعة عامة توضّح زمن الإنجاز ونسب الرضا.
7. شراكات مسؤولة مع القطاعين الخاص والأكاديمي: عقود مبنية على مؤشرات أداء وملكية حكومية للبيانات، مع دعم البحث والتطوير وبناء القدرات المحلية.
وفي النهاية...
لن تُحلّ معضلة الحكومة الإلكترونية في لبنان عبر إطلاق بوابة أو تطبيق جديدين فحسب. النجاح يتطلّب إعادة هندسة للإجراءات، بنية تحتية حديثة، إطاراً قانونياً صارماً، حوكمة مركزية، واستثماراً جدياً في الإنسان. ومن دون هذه العناصر مجتمعة سيبقى المشروع عنواناً جميلاً فوق أرشيفٍ ورقيٍ متراكم.
أمّا إن التُقطت اللحظة بخطة متسلسلة وشفّافة قابلة للقياس، فالإمكانية حقيقية للحاق بالعصر الرقمي وتحويل الإدارة العامة إلى منظومة فعّالة، نزيهة، وقابلة للمساءلة.