شمال ميانمار.. الصين تراقب الصراع على الأرض والموارد

في ظل الصراع الدولي على المعادن النادرة.. ماذا عن أهمية منطقة "حزام التعدين" في ولاية كاشين شمال ميانمار بالنسبة إلى الصين؟ ماذا بعد سيطرة "جيش استقلال كاشين" على المنطقة؟ وأي أوراق قوة تمتلكها بكين؟

  • شمال ميانمار.. الصين تراقب الصراع على الأرض والموارد
    شمال ميانمار.. الصين تراقب الصراع على الأرض والموارد

بعد زلزال كارثي شهدته ميانمار، ومع تواصل التمردات المسلحة التي تشهدها منذ سنوات، يتوجه مين أونغ هلاينغ رئيس مجلس الدولة، الحاكم منذ عام 2021 بعد انقلاب عسكري، إلى تايلاند لحضور قمة مبادرة خليج البنغال للتعاون التقني والاقتصادي (بيمستيك)، التي تضم تايلاند وميانمار والهند وبنغلاديش ونيبال وسريلانكا وبوتان. وتبدو الزيارة فرصة أتاحتها الكارثة الإنسانية لتكريس شرعية السلطة هناك، وفتح شرايين القنوات الدبلوماسية المغلقة، وفق تعبير "رويترز"، إذ واجهت لأربع سنوات عزلة دولية بسبب الانقلاب.

 من ناحية أخرى، تعيش ميانمار (ذات الأغلبية البوذية) صراعاً سياسياً معقداً تتداخل فيه أبعاد عديدة، جغرافية استراتيجية، وعرقية ودينية، وهي جارة للصين، القوة الإقليمية الأكبر آسيوياً والقطب الدولي الصاعد. ويسعى وفد ميانمار، في القمة المنعقدة من الثاني إلى الرابع من الشهر الحالي، إلى عقد لقاءات مع مسؤولي وقادة دول في جنوب آسيا، تتناول ملفات اقتصادية واستراتيجية، وقد تتماش والهند تحديداً، الطرف الكبير في مبادرة التعاون "متعدد القطاعات" كما يطرح اسمها، والمنافس الإقليمي للصين. 

أزاح انقلاب عام 2021 الحكومة المدنية بقيادة أونغ سان سو تشي، وحزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، وتلاه تشكيل قوات الدفاع الشعبية (PDF)، الجناح العسكري للحراك السياسي المناهض لحكم مجلس الدولة، مع فاعلية قائمة لجماعات مسلحة متباينة القوة، ذات نزاعات تاريخية مع الدولة المركزية، مثل جيش تحرير كارين (KNU)، الذي يطالب بدولة مستقلة لمكون الكارين، من أكبر مجموعات الأقليات العرقية في ميانمار، وتأسس عام 1949، وجيش أراكان (AA)، المطالب باستقلال ولاية أراكان، وسيادة مكون أراكان العرقي عليها، وتأسس عام 2009.

"حزام التعدين" بين الصين والمنافسين

في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول، سيطر "جيش استقلال كاشين"، الطامح للحكم الذاتي وتمثيل مكون عرقي ذي أغلبية مسيحية وأقلية بوذية، على منطقة "حزام التعدين" في ولاية كاشين، شمال ميانمار ــ على الحدود الصينية، في موجة تقدم ميداني كبير بأسلوب حرب العصابات، دفعت قوات المجلس الحكومية (الموصومة دولياً بالانقلابية) إلى التراجع، وبات متحكماً في أحد أهم مناطق معادن الأرض النادرة في العالم، وتضم أكثر من نصف الاحتياطي المعروف. معادن ضرورية لصناعة السيارات الكهربائية والإلكترونيات الضوئية والبطاريات، تتصاعد أهميتها مؤخراً مع الجيل الحالي للصناعات ومنتجات الثورة الصناعية الرابعة، والتحول إلى الصناعات النظيفة، الذي يمثل ضرورة بيئية، ومصلحة لأحد أجنحة الرأسمالية العالمية في الوقت ذاته.

توسع الخطوة نفوذ الجماعة المسلحة في جوار الصين، الداعمة رسمياً لسلطة مجلس الدولة الحاكم، وصاحبة الاستثمارات الكبيرة في استخراج تلك المعادن في الولاية. وقالت مصادر في سلطة الجمارك الصينية لـ"رويترز" إن واردات الصين من معادن الأرض النادرة من ميانمار شهدت انخفاضاً حاداً بعدها، قدره 311 طن في فبراير/شباط، مع انخفاض قدره 89% مقارنة بنفس الوقت العام الماضي. كما صرح لها مدير مركز كاشين لاند البحثي أن الجيش يريد استخدام المنطقة ومعادنها ورقة قوة، في مفاوضاته مع الصين، وأنه فرض ضريبة باهظة على مستخرجي المعادن، وأغلبهم صينيون، في منطقة غنية بالمعادن تضم بلدتين في الولاية.

الآن يحقق جيش استقلال كاشين خرقاً عملياً للتحالف بين حكومة ميانمار والصين، ويسعى لحسم تردد الأخيرة تجاهه، مع اقترابها من سلطة الدولة المركزية آخر عقدين، وقد دعمته طويلاً في الماضي ــ زمن الحرب الباردة، لكنها رغم التنسيق القائم تاريخياً، والعلاقات الأمنية والتجارية، تميل للدولة بصفتها خياراً استراتيجياً، وتضع في الاعتبار أمنها القومي والاقتصادي الذاتي، والرضا الغربي عن المعارضة المسلحة. وقد تحدثت "رويترز" مع 9 مصادر مطلعة في مجال تعدين المعادن النادرة ومجريات الصراع العسكري، أشارت ثلاثة منها إلى اهتمام الهند، المنافس الإقليمي للصين، بالمنطقة، وإرسالها مسؤولين من شركة تعدين حكومية في أواخر عام 2024 إلى الولاية.

الجغرافيا أداة سياسية لأطراف طموحة

لذلك يبدو أن مضموناً اقتصادياً للصراع يكمن في خلفية المشهد، مؤثراً جوهرياً على دوافعه ومجرياته وأطرافه، فضلاً عن توازنات سياسية تحكم علاقة سلطة ميانمار الحالية (المفتقدة للدعم الدولي) مع الصين المؤيدة لها، وعلاقة الأخيرة بالمتمردين المسلحين في محيطها، وأبرزهم جيش كاشين الذي تأسس عام 1961، مع طموح الهند لتحسين موقعها الصناعي في تقسيم العمل الدولي، بعد إنجازها تقدماً في مجال تكنولوجيا المعلومات.

من زاوية عملية، لم يكن لجيش تحرير كاشين تكثيف هجماته منذ عام 2016، ثم تحقيق التقدم الميداني المتواصل مؤخراً، من دون سلاحه، الذي تطور في العقد الأخير مع التطور التكنولوجي العالمي السريع، وبالتالي من دون الحدود المفتوحة مع الصين، والعلاقات التاريخية، والمرتبطة بالتسلح، وبمنفذ كاشين- يونان البري في مقاطعة يونان الصينية، وما يبدو بنية معقدة لتهريب البضائع عبر الحدود. ومن هنا يمثل إغلاق الحدود ورقة ضغط للصين لوحت بها منذ عامين، مع دعمها الرسمي للقوات المسلحة الحكومية، في سياق تحذيرها من تعرض الميليشيا لمصالحها الاقتصادية في البلاد، التي تشمل خط نفط وغاز (راخين - يونان) واستثمارات في البنية التحتية.

لعل هذا مثّل دافعاً للميليشيا إلى تطوير الهجوم الكبير وتوسيع مساحة سيطرتها، ومن ثم إجبار الصين على تطوير اعتراف بها، يعادل الدعم الصيني الرسمي للدولة المركزية وبُعده الدبلوماسي الدولي، خاصة مع إنكار الصين العلاقات معها، رغم عقود طويلة من التنسيق، ورغم تجذرها الشعبي في المقاطعة، على أساس عرقي وديني، وكونها تعد من أكثر الميليشيات العرقية خبرة على المستوى القتالي، وتطوراً تنظيمياً، وتحكم عملياً أراض غير محدودة وتجمع الضرائب، مع موارد مالية كافية، تؤمنها تبرعات المنتمين والمتعاطفين المغتربين، وتجارة وتهريب اليشم (الحجر الكريم شبيه الزبرجد)، الذي تتربع ميانمار على قمة استخراجه عالمياً، وتعد الصين من كبار مستهلكيه. 

إجبارٌ غير مباشر يتجنب الصدام مع الصين، بموازاة خطاب استمالة وتهدئة، ويطرح الميليشيا شريكاً استراتيجياً وازناً للصين، الواضح امتناعها عن الدعم "العلني" لفاعلين دون الدولة، أو مجموعات متمردة ذات أساس عرقي، وتفضيلها نموذج الدولة المركزية في مجالها الحيوي: إقليم يضم فسيفساء عرقية ودينية ليست الصين استثناءا منها. وتمثل علاقتها بجيش كاشين سياساتها البراغماتية، وتعاملها مع أمر واقع، لا أبعد، إذ يصعب أن يكون دعم مجموعة مسلحة مثل تلك خياراً استراتيجياً صينياً، بعد تراثها الطويل في العداء والمفاوضة مع الدولة المركزية، ومع امتناع صيني عن شرعنة هذا النموذج وقلق من انتشاره.

شهدت واردات الصين من المعادن النادرة من ميانمار طفرة كبيرة في النصف الأول من عام 2023، زيادة قدرها 70% عن النصف الثاني من 2022، وتمثل تسعة أضعاف النصف الأول من نفس العام، ما عزز موقعها بصفتها أكبر العاملين في معالجة تلك المعادن وتكريرها عالمياً، مع توسع غير مسبوق لقطاعيّ توليد الطاقة بالرياح وصناعة السيارات الكهربائية، وثبّت أهمية جغرافيا ميانمار عند الصين، مصْدراً لحوالي نصف واردات المعادن النادرة، مثل الديسبروسيوم والإتريوم والتيربيوم، التي تمثل اليوم ميداناً للصراع بين الصين وأميركا، مثل مجال الرقائق الالكترونية، خاصة بعد إعلان إدارة ترامب أنها تهدف للسيطرة على حقول المعادن النادرة في أوكرانيا، وما يمثّله ذلك من تحدٍ للصين، وفرصة لاستغلال احتياجها المتزايد منها.

اخترنا لك