كوريا الجنوبية في مفترق تاريخي: أزمة سياسية تهدد السلم المجتمعي
الأزمة في كوريا الجنوبية بدأت مع إعلان الرئيس يون، في الثالث من ديسمبر الماضي، حالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، بحجة حماية "النظام الدستوري الحر" من تهديدات "قوى مناهضة للدولة وموالية لكوريا الشمالية".
-
مشاركون في مظاهرة يحملون لافتات تطالب المحكمة الدستورية بإقالة الرئيس يون سوك-يول في سيول (رويترز)
في مشهدٍ يعكس هشاشة التوازن السياسي في كوريا الجنوبية، شهدت العاصمة سيول يوم السبت، التاسع والعشرين من آذار/مارس، واحدة من أضخم موجات التظاهر في تاريخ البلاد الحديث، حيث تدفق مئات الآلاف من الكوريين الجنوبيين إلى الشوارع في تظاهرات متزامنة بين مؤيدين ومعارضين للرئيس يون سوك يول المعرّض للإقالة، وسط حالة من الترقب الحاد لقرار المحكمة الدستورية بشأن مصيره. هذه الحشود لم تكن مجرد تعبير عن موقف سياسي، بل تجسيد ملموس لحالة انقسام مجتمعي عميق، تظهر في توازي الشعارات، واختلاف الخطاب، وتباين التصورات حول مستقبل البلاد. ولعل تأخر المحكمة في إصدار قرارها، رغم مرور أكثر من شهر على انتهاء المرافعات، ساهم في تغذية التوتر، وسط دعوات متزايدة لحسم المسألة قبل أن يتجاوز الاستقطاب الاجتماعي عتبة السيطرة.
بدأت الأزمة مع إعلان الرئيس يون، في الثالث من ديسمبر الماضي، حالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، بحجة حماية "النظام الدستوري الحر" من تهديدات "قوى مناهضة للدولة وموالية لكوريا الشمالية". ولم يدم القرار سوى ساعات، إذ رفضه البرلمان بأغلبية نادرة، معتبراً أنه مخالف للدستور ويشكل تهديداً للتوازن الديمقراطي في البلاد، فيما نزل الآلاف إلى الشوارع بين رافضين لما وصفوه بمحاولة "انقلاب ناعم" على الرئيس، ومعارضين للأخير أيّدوا قرار البرلمان. استحضرت تلك اللحظة مشاهد من ماضي البلاد في فترات الحكم العسكري، وحرّكت ذاكرة وطنية ما زالت مشحونة بتاريخ الاستبداد الذي اعتقد كثيرون أنه بات من الماضي.
لم يكن إعلان الأحكام العرفية حدثاً معزولاً، وإنما تتويجاً لمسار من الجدل السياسي والتراجع الشعبي لدعم يون. فمنذ توليه الرئاسة في أيار/مايو 2022، تعرّضت إدارته لانتقادات متزايدة بسبب تعاطيها مع عدد من الأزمات، شملت تدخلاً مزعوماً في التحقيقات حول مقتل جندي بحري، إلى جانب قمع النقابات العمالية والتضييق على الصحافة، وانكشاف شبهات فساد تحيط بزوجته تتعلق بالتلاعب بالأسهم وقضايا رشوة. هذه الملفات ساهمت في تراجع شعبية الرئيس، ودفعت أطيافاً واسعة من المجتمع إلى تنظيم احتجاجات متكررة تطالب باستقالته أو عزله.
لم تهدأ الساحة السياسية منذ أعلن يون فرض الأحكام العرفية. البرلمان صوّت لصالح عزل الرئيس في 14 كانون الأول/ديسمبر الماضي، ما أدى إلى تفعيل المحكمة الدستورية للنظر في القضية، في خطوة وصفتها الحكومة بأنها "سياسية"، بينما اعتبرتها المعارضة "ضرورة دستورية". وتصاعدت التوترات عندما قررت النيابة العامة توقيف يون في يناير الماضي بتهمة التحريض على التمرّد، ليصبح بذلك أول رئيس في تاريخ البلاد يُعتقل أثناء ولايته. ورغم الإفراج عنه لاحقاً لأسباب إجرائية، لا يزال قيد الملاحقة القانونية بتهم قد تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد وحتى الإعدام. وعلى الصعيد الشعبي، تُنظَّم أسبوعياً تظاهرات مضادة في العاصمة سيول والمدن الكبرى: معارضو الرئيس يطالبون بإقالته ومحاسبته، بينما يرى مؤيدوه أن عزله خطوة سياسية مناهضة للديمقراطية ويصفون إجراءات البرلمان بـ "الانقلاب البرلماني".
تشير البيانات إلى تسجيل أكثر من 750 تظاهرة مناهضة ليون منذ ديسمبر الماضي، مقابل نحو 200 لصالحه، ما يعكس مدى الاستقطاب الاجتماعي وخطورة تداعياته. والجدير ذكره هنا، أن الحراك المناهض ليون لا يقتصر على القوى التقليدية في المعارضة، بل يشمل طيفاً واسعاً من مكونات المجتمع: تنظيمات اجتماعية واتحادات عمالية ومنظمات نسوية وناشطون بيئيون وطلاب وصحفيون ومجموعات حقوقية متنوعة، توحدوا تحت مظلات مثل تحالف "الشموع" وتحالف "بيسانغ"، ويرون في عزل يون بداية لاستعادة الديمقراطية بعد ما وصفوه بمحاولة "انقلاب دستوري".
في المقابل، تعتمد القوى المؤيدة للرئيس على تيارات يمينية محافظة وجماعات دينية إلى جانب حزبه الحاكم، وتعتبر أن المحكمة تتعرض لضغوط من أجل إقصاء الرئيس من المشهد، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في مايو في حال تأييد العزل. كثير من هؤلاء كانوا فاعلين أيضاً في التظاهرات المؤيدة للرئيسة السابقة، بارك غيون هاي، بعد إقالتها، وهم يعيدون اليوم تدوير الخطاب ذاته لكن بمضامين جديدة: الحديث عن تزوير الانتخابات البرلمانية لعام 2022 و"تسلل الشيوعية" إلى مفاصل الدولة، بل ورفع شعارات مقتبسة من حملة ترامب مثل "أوقفوا السرقة". هذا التلاقي بين سرديات محلية وخطاب يميني عالمي، يكشف البعد الأيديولوجي العابر للحدود في معركة يون.
تُظهر الخريطة الميدانية للاحتجاجات أن الأزمة لم تعد حكراً على العاصمة، إذ توسّعت رقعة التظاهرات جغرافياً لتشمل مدناً كانت تُعد تاريخياً معاقل محافظة مثل بوسان وديغو وأولسان، حيث خرجت احتجاجات كبيرة ضد الرئيس، بينما شهدت غوانغجو، ذات الرمزية في التاريخ الديمقراطي الكوري، تظاهرات مضادة لصالحه، ما يبيّن مدى تغلغل الاستقطاب إلى عمق البنية الجغرافية والسياسية للبلاد. وقد بلغ التوتر ذروته يوم 19 كانون الثاني/يناير الماضي، حين اقتحم أنصار يون محكمة سيول الغربية، واعتدوا على رجال الشرطة والصحفيين، في حادثة سلطت الضوء على إمكانية انزلاق الاستقطاب الاجتماعي الجاري نحو العنف.
وفي موازاة هذا التصعيد الشعبي، امتد الصراع إلى مؤسسات الدولة. ففي سابقة لم يشهدها تاريخ البلاد، اقتحمت هيئة التحقيق في قضايا الفساد مكاتب النيابة العامة بعد أيام فقط من مداهمة النيابة لمقر الهيئة ذاتها. كما شهدت البلاد سابقة أخرى حين قررت المحكمة الدستورية، في الرابع والعشرين من مارس الماضي، إعادة رئيس الوزراء هان دوك سو إلى منصبه، رغم إثبات مخالفة دستورية بحقه، ما أثار جدلاً حول منطق انتقائي في تطبيق العدالة، وأثار تكهنات بشأن ما إذا كانت هذه الخطوة تمهيداً لقرار مشابه في ملف يون. ولم يبقَ الشارع مكتوف الأيدي، إذ باتت المواجهات بين أنصار الرئيس ومعارضيه أكثر حدة، وتكررت في محيط المحكمة الدستورية والجمعية الوطنية، وحتى مقر احتجاز الرئيس.
اللافت في تطورات الأزمة هو الموقف الغامض للولايات المتحدة، الحليف الأمني الأكبر لكوريا الجنوبية، إذ لم تُصدر واشنطن أي إدانة لإعلان الأحكام العرفية، ولم تعترض على ما تصفه المعارضة "عسكرة السياسة"، بل ظهرت أصوات من داخل الدوائر القريبة من البنتاغون تعتبر أن يون قام بخطوته "لحماية الديمقراطية". هذا الصمت يُقرأ في سيول باعتباره دعماً ضمنياً، لا سيما أن استراتيجية الأمن القومي الأميركية ترى في كوريا الجنوبية نقطة ارتكاز رئيسية في مشروعها التصادمي مع الصين، وهو ما يجعل من وجود نظام يميني قوي ومتماسك في كوريا الجنوبية خياراً مفضلاً لديها.
ينفي يون الاتهامات الموجهة إليه ويؤكد أن خطوته كانت "دفاعاً عن الديمقراطية". فريقه القانوني يطعن في شرعية إجراءات عزله وتوقيفه، ويصف التهم بالمسيسة. وفي الوقت ذاته، تُثار تساؤلات حول النيابة العامة، التي تتعرض لاتهامات بالتباطؤ والتساهل، خاصة مع خلفية يون السابقة كمدعٍ عام والعلاقات التي تجمعه بجهاز الادعاء. واليوم تشتد الأزمة تعقيداً مع اقتراب صدور الحكم المنتظر من المحكمة الدستورية. بحسب القانون، تحتاج المحكمة إلى تصويت ستة من أصل ثمانية قضاة لتأييد قرار العزل. في حال أيّدت المحكمة الدستورية قرار العزل، ستُجرى انتخابات رئاسية خلال ستين يوماً، وسط مؤشرات على تقدم مرشح المعارضة لي جاي ميونغ، رغم مواجهته هو الآخر لقضية قد تعرقل ترشحه. أما إذا رفضت المحكمة العزل، فسيعود الرئيس إلى منصبه، ما قد يشعل موجة احتجاجات واسعة جديدة، وربما يدفع يون إلى التفكير مجدداً في إعلان الأحكام العرفية.
وسط هذا المناخ، تبقى المحكمة الدستورية أمام معادلة صعبة. فأي قرار ستصدره سيُغضب قطاعاً واسعاً من المجتمع، سواء كان مؤيداً أو معارضاً للرئيس. والقلق لا يكمن فقط في ردود الفعل الشعبية، بل في قدرة الدولة على احتواء تبعات القرار، سياسياً وأمنياً، وإعادة إنتاج الحد الأدنى من التوافق الوطني. ويبدو أن تأخير الحكم مرتبط بحسابات تتجاوز القانون وتشمل موازين القوى داخل الدولة، وربما أيضاً خارجها. وأياً ما كان قرار المحكمة، تبدو البلاد على شفا انفجار سياسي وأمني غير مسبوق يطرح إمكانية الانزلاق إلى العنف، وربما تدخل البلاد في دوامة من الاضطرابات قد تفتح الباب أمام تدخل خارجي.
في المحصلة، الأزمة الكورية الحالية ليست مجرد أزمة دستورية أو صراع على السلطة، بل تعكس تحولات أعمق في بنية المجتمع الكوري وموقعه الإقليمي والدولي. ولا يكمن التحدي فقط في البتّ في مصير رئيس، وإنما في صون استقلالية المؤسسات والحفاظ على التوازن بين السلطات واحتواء الانقسام المجتمعي دون الانزلاق إلى العنف أو الاستقطاب الحاد. وهكذا إذن، تقف كوريا الجنوبية اليوم على مفترق طرق تاريخي يتشابك فيه الداخل المنقسم مع الخارج المتربّص. لا ضمانات لأي مخرج سلمي في الأفق، ولا مؤشر حقيقي على تراجع القوى المتصارعة عن منطق الإقصاء الكامل، وتبقى كلمة الفصل للمحكمة الدستورية، التي لا تملك ترف التأجيل أكثر، ولا تملك رفاهية الحسم دون كلفة عالية.