أكثر من 100 يوم تحت الأضواء.. ملك الاستعراض

تؤكد دراسات وتقارير صحافية أن الاستعراض لم يكن مجرد أداة ترويجية في يد دونالد ترامب، بل مثّل ركيزة استراتيجيته الإعلامية والسياسية.

  • 100 يوم على عودة
    100 يوم على عودة "أميركا العظيمة"!

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدرة استثنائية على جذب انتباه وسائل الإعلام والجمهور، سواء عبر القنوات التقليدية أو المنصات الرقمية، ما جعله ظاهرة إعلامية فريدة في السياسة الأميركية.

يتهكم على جو بايدن في مسلسل لم ينقطع إلى الآن، كما يتهكم على معارضيه ومنتقديه، ويكاد لا يخلو أي لقاء إعلامي يحضره من موقف أو سلوك ينتمي إلى عالم الغرائب، بعيداً من الدبلوماسية والرصانة التي يعرف بها عادة رؤساء وقادة الدول. ما من أحد يملك شاشة ذكية أو جهاز تلفزيون أو حساباً على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا وتابع بدهشة الحوار الدرامي والخيالي، الذي جعله ترامب واقعاً حقيقياً وفُرجة، خلال استقباله الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي في البيت الأبيض.

السؤال الوجيه الذي لا يقع أبداً خارج سياقه في هذا الإطار هو: هل يفعل ترامب ذلك بشكل عفوي نابع من شخصيته الإشكالية؟ أم بشكل مقصود ومدروس غايته تحقيق أهداف معينة؟ 

لا شكّ أن الرئيس الجمهوري يمتلك شخصية غير عادية بالمقياس الإعلامي، بحيث تطبع هذه الشخصية سلوكياته وتدلّ على أحد مظاهر الشعبوية التي أصبحت تياراً سائداً في العالم مركزها أميركا.

كيف يخدم الاستعراض صورة ترامب؟

يعرف الرجل كيف يعزف على وتر الأخبار والمتابعين، ويحترف التعامل مع الشاشة وصناعة الصورة لدى الرأي العام. وقد أظهرت دراسة نُشرت في موقع Journal of Information Technology & Politics أن قدرة ترامب على جذب الانتباه الإعلامي لا تعتمد على منصة معينة، بقدر ما تعتمد على أسلوبه في إثارة الجدل والتفاعل مع المستخدمين.

وتتقاطع مجموعة من الدراسات والمقالات البحثية على أن نهج ترامب القائم على الاستعراض جعله محوراً دائماً في المشهد الإعلامي، بحيث أظهر قدرة فريدة على التحكم في دورة الأخبار، مستخدماً أسلوباً يجمع بين الاستفزاز وإثارة الجدل، وبين التوقيت الذكي، والتفاعل المباشر مع الجمهور. 

في هذا الإطار، يوضح تقرير نشره موقع شبكة ABC News أن ترامب يدرك جيداً أن التصريحات المثيرة والاستفزازية تضمن له تصدر العناوين الإخبارية، حتى لو كانت مثيرة للانقسام أو الانتقاد. هذا الأسلوب لم يقتصر على فترة ترشحه للرئاسة الحالية، بل استمر خلال سنوات حكمه السابقة، إذ كان يطلق تصريحات قوية ضد خصومه السياسيين أو حتى ضد الإعلام ذاته، مكرراً عبارة "الأخبار الكاذبة" (Fake News) في وصفه وانتقاده لبعض وسائل الإعلام.

هذا التكرار يعتمده ترامب أيضاً بشكل مقصود إلى جانب الشعارات البسيطة، مثل شعار حملته المعروف "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً". هل لاحظ القارئ في الجملة السابقة كلمة "المعروف" التي وصفنا فيها حملته الانتخابية؟ أي متابع يعرف اليوم هذا الشعار الذي تكرّس في أذهان المتابعين بسبب تكراره وبساطته ما جعله سهل التذكر ومرتبطاً بشخص ترامب في وعي الجمهور.

لغة بسيطة

الخطاب المباشر والبسيط يخدم هدف التسويق السياسي الذي يعتمده ترامب، إذ يستخدم لغة بسيطة وجملاً قصيرة، ما يجعل رسائله مفهومة وسهلة الانتشار بين مختلف شرائح المجتمع، ويعتمد على تكرار العبارات المفتاحية لتعزيز الرسالة، كما توضح دراسة منشورة على موقع linked in نشرت في شهر آذار/مارس الماضي.

وبالعودة إلى إثارة الجدل، يُلاحظ أنها تخدم هدف الاستعراض وتعد استراتيجية متكررة منذ بداية دخول ترامب معترك السياسة وصولاً إلى ولايته الثانية كرئيس للولايات المتحدة. 

خلال أول 100 يوم من ولايته الثانية، استمر ترامب في تبني سياسة المواجهة والصدمة التي لا تخشى كسر الأعراف التقليدية، كما ظهر جلياً في لقائه العلني مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، حيث استخدم أسلوب الإحراج العلني والمواجهة المفتوحة، ما أثار جدلاً واسعاً.

يكفل هذا الجدل والتصرفات الصادمة تغطية إعلامية مكثفة، حتى لو كانت تثير الانتقادات أو الاستهجان. هذه السياسة ليست عشوائية، بل مدروسة لتعزيز حالة اللا يقين السياسي داخلياً وخارجياً، ولإبقاء اسمه في دائرة الضوء باستمرار.

التنمّر على الخشبة

من بين السمات التي تبقيه على المسرح يستخدم ترامب أسلوب التنمّر الذي كان ليفقده الكثير من المؤيدين والمتعاطفين في بلدان أخرى. لكن المفارقة تكشف عن وجهها بأكثر الطرق صفاقة أحياناً، بحيث يبدو أن هذا التصرف، على العكس من ذلك، يأتي بنتائج تروق الرئيس، إذ يحاكي شريحة واسعة من جمهوره. وتظهر أبحاث نشرها موقع PsyPost مطلع العام الحالي أن مؤيدي ترامب يتميّزون بميول نحو الهيمنة الاجتماعية والعدوانية السلطوية، ما يجعلهم ينجذبون إلى خطاباته التي تعزز التفوق الجماعي وتبرّر استخدام القوة للحفاظ على النظام.

يهم ترامب، ضمن المراتب الأولى من أولوياته، الحفاظ على قاعدته الانتخابية وتعزيزها قدر الإمكان، وهو في ذلك لا يشذّ عن أي سياسي آخر. إلا أن القاعدة الصلبة في أوساط الشريحة التي تؤيّده، تنظر إلى عدوانيته على أنها دليل على القوة والحسم، ما يطمئن بعض الناخبين الذين يشعرون بالقلق من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية داخل الولايات المتحدة.

في هذا السياق، يشكّل التنمر الذي يطبع سلوك ترامب، مثل السخرية من الخصوم والتقليل من شأنهم، جاذبية خاصة لدى الناخبين الذين يبحثون عن قائد قوي يُعيد النظام ويواجه التحديات بجرأة. وترتكز هذه الجاذبية على عوامل نفسية واجتماعية، مثل الميل إلى السلطوية، والخوف من الفوضى، والرغبة في الانتماء إلى مجموعة قوية.

من بين هذه العوامل النفسية التي يحاكيها ترامب تتجلى الذكورية إلى جانب التنمّر باعتبارها سمة تستقطب بعض الرجال الذين يشعرون بتهديد لهويتهم، ويميلون لهذا السبب إلى دعم قادة يتمتعون بصفات ذكورية تقليدية، مثل الحزم والعدوانية.

100 يوم على عودة "أميركا العظيمة"

دعونا نلقي نظرة على الخطاب الذي ألقاه بمناسبة مرور 100 يوم على توليه الرئاسة، أواخر شهر نيسان/أبريل، حينما قاطعته امرأة فردّ عليها بتهكم وتنمّر. كان الرد مرتجلاً بدليل أن تصرّف المرأة كان غير متوقع، لكن ردّ ترامب عليها كان بارداً وحازماً وقاسياً في الوقت نفسه، إذ قال: "أهذا يساري متطرف مجنون؟ إنه طفل وحسب.. حسناً أخرجوه.. أوه أنا آسف.. أنا آسف سيدتي.. اعتقدت أنها رجل.. شكراً.. والآن، عليها العودة إلى المنزل إلى أم هي معجبة كبيرة بترامب.. أمها تشاهد.. أنا آسف.. قلت هو وظهر أنه هي أنا أعتذر..".

سلوك ترامب هذا ما هو إلا أحد مظاهر الشعبوية بحيث لا يضطر الرئيس إلى التملق والكياسة واللباقة، ولا يتحرج من الفظاظة والوقاحة التي تجد قبولاً لدى قاعدته الشعبية، لذا هي تغذيه كلما نمّاها. 

خلال هذا اللقاء الجماهيري، سخر أيضاً من سلفه جو بايدن "النائم" كما يطلق عليه وسأل: "أيهما أفضل، جو المتعجرف أم النعسان"؟.

وهكذا خرج ترامب من الحفل ليس فقط بـ"الإنجازات" التي أراد أن يسوقها بعد 100 يوم من توليه السلطة، إنما أيضاً بتفاعلات مضمونة لهذه المقاطع على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام التقليدي. وبهذه الطريقة، سخّر ترامب هذه المواقف لتنال أكبر قدر ممكن من الانتشار والتداول في وسائل الإعلام، كما سخّرها بطريقة غير مباشرة في الترويج لمضمون الخطاب الطويل الذي ألقاه في الحفل، والذي امتد إلى نحو الساعة ونصف الساعة.

لم يقتصر الأمر على ذلك، فقبيل صعوده الطائرة للتوجّه إلى ميشغان، حيث أقيم الاحتفال، سألته مراسلة من أتباعه "من ترغب أن يكون البابا الجديد؟". 

لم يكن على الأرجح سؤالاً عفوياً، وهو بالتأكيد ليس سؤالاً محترفاً من صحافي محترف، لكنه يخدم هدف الترويج آنف الذكر. أعطاها ترامب الجواب الذي يصلح أن يكون مادة للانتشار على وسائل التواصل، ويسهل للمتابع السطحي والمستلب أن ينقر على فيديو الخمس ثوان لمشاهدته. أجاب: 

"البابا؟ أريد أن أكون البابا. سيكون هذا خياري الأول". مزحة تعتمد أسلوب الترويج الذكي للحفل الذي يتوجه إليه، ويبقيه في صدارة متابعي الأخبار السريعة والمختصرة في الوقت نفسه. يعلق في ذهن المتابع إن ترامب قال ذلك قبيل توجهه إلى الحفل.

خبير في السيرك الإعلامي 

فيما يمثّل الاستعراض أحد الأعمدة الأساسية في استراتيجيته للتواصل والتسويق السياسيين، يمكن القول إن أحد أكثر الرؤساء إثارة للجدل في العالم وداخل أميركا، اكتسب خبرة في هذا المجال بشكل تدريجي، وقبل وقت طويل من وصوله إلى سدة الرئاسة. 

استمدّ ترامب شهرته الإعلامية من خلال برنامج تلفزيون الواقع "The Apprentice" (المتدرب) الذي قدّمه من عام 2004 حتى عام 2015، حيث لعب دور رجل الأعمال الصارم، كما ظهر في العديد من البرامج والأفلام بشكل ضيف. 

دخل عالم الترفيه من باب المصارعة الحرة التي تحوز شعبية داخل الولايات المتحدة الأميركية، واستضافت فنادقه عروضاً عدة خلال ثمانينيات القرن المنصرم، كما شارك بنفسه في عروض تلفزيونية عدة في هذا المجال، وأصبح بفضل هذه المشاركات شخصية معروفة لدى جمهور المصارعة، ما عزز صورته العامة قبل دخوله السياسة. 

العديد من الدراسات والتقارير الصحفية تؤكد أن الاستعراض لم يكن مجرد أداة ترويجية في يد دونالد ترامب، بل مثّل ركيزة استراتيجيته الإعلامية والسياسية. 

سواء في حياته كرجل أعمال أو كرئيس للولايات المتحدة، يقوم الاستعراض في حالته على إثارة الجدل، والتضخيم، والظهور المستمر في دائرة الضوء، ما يجعل صورته العامة مرتبطة دوماً بالحضور القوي والتأثير المباشر على الرأي العام.

لم يتوان في هذا المجال عن الظهور على غلاف عدد خاص من مجلة إباحية عام 1990، ما أثار جدلاً استخدمه لأغراض ترويجية مستندة إلى شهرته كرجل أعمال بارز آنذاك.

تدعم تقارير صحافية أميركية عدة ومنها تقارير منشورة في ABC News، وThe New York Times، أن "أعظم ما طوره ترامب هو صورته"، وأن نجاحه في التسويق الذاتي يفوق أحياناً إنجازاته الواقعية، فيما تشير دراسات واستطلاعات إلى أن أسلوب ترامب في التواصل والاستعراض كان له أثر بالغ في تشكيل الرأي العام، سواء في تعزيز الولاء أو إثارة الانقسام.