في الإعلام الأميركي أيضاً.. كيف تجلّى التضليل عشية الحرب على إيران؟

طوال أسابيع طفق الإعلام الأميركي ينقل معطيات زائفة، ما يطرح مسألة حصانة أعرق وسائل الإعلام وأكثرها شهرة، أمام مناورات التضليل والخداع.

0:00
  • التضليل الإعلامي عشية الحرب على إيران.
    التضليل الإعلامي عشية الحرب على إيران.

لم تقتصر عملية التضليل على "إسرائيل" وإعلامها فقط عشية الحرب المباغتة لكن المُعدّ لها بأناة على إيران، كما لم تقتصر على الأيام التي سبقت الهجوم، إنما بدأت قبل ذلك بأسابيع وشهور. 

ينقل موقع "أكسيوس" الأميركي في هذا السياق مجموعة من المعلومات المُضللة، والتي يبدو أنها كانت مُوجّهة بشكل مقصود من أجل إخفاء النيّات الحقيقية لأصحاب القرار. يكشف الموقع قبل العدوان عن مصادر أميركية وإسرائيلية أن الولايات المتحدة أبلغت "إسرائيل" أنها لن تشارك بشكل مباشر في أي ضربة عسكرية ضد منشآت إيران النووية.

أما بعد العدوان، فقد نقل الموقع عن مسؤوليْن إسرائيليين أن ترامب ومساعديه كانوا يتظاهرون بمعارضة هجوم إسرائيلي علناً، وأن الهدف كان إقناع طهران بعدم وجود هجوم وشيك بغرض التأكد من أن الإيرانيين الموجودين على قائمة الأهداف الإسرائيلية لن ينتقلوا إلى مواقع جديدة.

الفخّ.. هذا ليس وقت التصعيد

ترامب كان أعلن قبل العملية بيوم واحد أن الضربات الإسرائيلية "قد تحدث فعلاً"، إلا أنها "لا تبدو وشيكة"، في الوقت الذي كانت وزارة الدفاع الأميركة (البنتاغون) تساهم بنصيبها من عملية الخداع من خلال إلغاء زيارة كانت مقررة لقائد القيادة المركزية الأميركية إريك كوريلا إلى "إسرائيل" في اليوم نفسه الذي كان يفترض أن يلتقي فيه ويتكوف وزير الخارجية الإيراني في سلطنة عمان لمناقشة ردّ إيران على مقترح واشنطن بشأن الاتفاق النووي. هذا الإلغاء بعث إشارة إضافية إلى أن الولايات المتحدة لا تريد أن تظهر كأنها تتعاون مع "إسرائيل" لضرب إيران.

قبل ذلك، وفي أواخر أيار/مايو المنصرم تحديداً، نقل موقع "واللا" العبري عن مسؤول في البيت الأبيض وعن مصدر وصفه بالمطّلع أن ترامب حذّر نتنياهو في مكالمة هاتفية، من اتخاذ خطوات قد تعرقل جهود التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران. ونقل الموقع عن المسؤول في البيت الأبيض قوله إن ترامب أبلغ نتنياهو برغبته في التوصل إلى حلّ دبلوماسي مع إيران، مشدداً على أن "هذا ليس وقت التصعيد" بينما يعمل على حلّ الأزمة.

القناة 12 الإسرائيلية زادت من جرعة التضليل حينما وصفت تلك المكالمة بأنها كانت "مشحونة ودراماتيكية"، وزعمت أنها كشفت عن تباين كبير في المواقف بين "تل أبيب" وواشنطن بشأن الملف النووي الإيراني.

وقبل الهجوم بأيام قليلة، ذكر موقع "أكسيوس" نقلاً عن مسؤول إسرائيلي وآخر أميركي، أن ترامب أبلغ نتنياهو خلال اتصال هاتفي، من جديد، بأنه يعارض القيام بعمل العسكري ضد إيران في الوقت الحالي لأنه يعتقد أن هناك فرصة للتوصل إلى اتفاق نووي معها.

"نيويورك تايمز".. عراقة الصحافة لا تحصّنها 

خلال نيسان/أبريل الماضي، كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أنه جرى تسريب مداولات من داخل اجتماعات في الإدارة الأميركية توصّل فيها المشاركون إلى استبعاد العمل العسكري ضد إيران. 

سبب هذا القرار يبدو منطقياً اليوم، وإلى حدّ كبير، يفسّر أحد جوانب اكتفاء إدارة ترامب بتنفيذ ضربة واحدة ويتيمة على المنشآت الإيرانية من دون الانجرار إلى حرب مفتوحة. هذا إذا ما عاينا التقرير الوارد ومسلسل الأحداث بعين الحاضر. لكن، في حينها، زعمت الصحيفة أن ترامب قام بالتراجع عن خطط للهجوم على إيران وضعتها "إسرائيل" وكانت تتطلب مشاركة أميركية، وأن الأسباب تمحورت حول الخشية من قدرات إيران العسكرية والخشية من إشعال صراع أوسع معها، لا يريده ترامب. 

المعطيات التي أوردتها الصحيفة حينها وأفردت لها مساحة نقلاً عن مصادر باتت تجافيها التطورات التي أفضت في حزيران/ يونيو إلى قرار الحرب المُبيّت على إيران. نقلت الصحيفة عن مسؤولين في الإدارة الأميركية أن نائب الرئيس الأميركي جيمس دي فانس قال خلال المداولات إن ترامب قد يدعم هجوماً إسرائيلياً، لكن في حال فشلت المفاوضات، بينما أظهرت المجريات لاحقاً أنه دعم الهجوم وفخّخ المفاوضات.

كما أوردت أنه خلال زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية إلى "إسرائيل" قبل أسابيع من تنفيذ الضربة، قال الجنرال كوريلا للمسؤولين هناك إن البيت الأبيض يريد تعليق خطة مهاجمة المنشأة النووية. لكن هذه المعطيات التي ثبت عدم صحتها، تعارضت مع معلومات ذكرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" لاحقاً، إذ أوردت الصحيفة العبرية أن "إسرائيل تعوّل كثيراً على هذا الضابط وتنظر إليه كحليف رئيسي لها، ولا تريد ضرب إيران من دون وجوده". كما أوضحت أن كوريلا هو أحد أقوى حلفاء "إسرائيل" في البنتاغون، بل هو "الصوت الرائد داخل الجيش الأميركي الداعي إلى تنفيذ ضربة إسرائيلية- أميركية مشتركة ضد المنشآت النووية الإيرانية"، ولذلك، "مع اقتراب نهاية فترة ولايته يتوق المسؤولون الإسرائيليون إلى التحرك".

لم يكذب ترامب دائماً بخصوص احتمال مهاجمة إيران، إلا أن مواقفه المتناقضة والمتأرجحة أسهمت في ضبابية المشهد وإسدال ستار من الغموض على حقيقة ما كان يدور بينه وبين نتنياهو. في 3 نيسان / أبريل الماضي، جرت مكالمة هاتفية بين الرجلين أبلغ فيها ترامب نتنياهو بأنه لا يريد مناقشة الخطط الإيرانية عبر الهاتف، داعياً إياه للحضور إلى البيت الأبيض. 

ترسيخ الانطباعات الزائفة

المعلومات السابقة واللاحقة تنقلها صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤولين إسرائيليين. وصل نتنياهو إلى واشنطن في 7 نيسان/ أبريل، وفي حين قدمت الزيارة على أنها تتمحور حول الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على "إسرائيل"، فإن المناقشة الأكثر أهمية بالنسبة إلى الإسرائيليين كانت بشأن ضربتهم المخطط لها على إيران.

المشهد الذي جمع الاثنين في البيت الأبيض وأعلن خلاله ترامب عن المحادثات مع إيران ما زال عالقاً في ذاكرة جزء كبير من المتابعين، بحيث أوردت الكثير من التحليلات أن نتنياهو فوجئ حينها من هذا الإعلان، مستدلة على ذلك بارتباكه وبالاعتماد على لغة الجسد!.

"نيويورك تايمز" رسّخت هذا الانطباع في تقرير لها، ونقلت عن مسؤولين "مطلعين على المناقشات الخاصة" أن ترامب أوضح لنتنياهو أنه لن يقدم الدعم لهجوم إسرائيلي في مايو/ أيار أثناء سير المفاوضات.

في اليوم التالي، لم يكذب ترامب، إذ أشار إلى أن توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران لا يزال خياراً مطروحاً، وقال: "إذا تطلب الأمر تدخلاً عسكرياً، فسنلجأ إلى الخيار العسكري، ومن الواضح أن إسرائيل ستكون الرائدة في هذا المجال".

لكن إفادة المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي بعد ذلك أسهمت من جديد في التعمية على حقيقة ما كان يجري الإعداد له، إذ أكّد أن فريق قيادة الأمن القومي بأكمله في الإدارة ملتزم بسياسة ترامب تجاه إيران وجهوده لضمان السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.

الصحيفة لم تجاف الحقيقة عندما نقلت أنه مع توقع انتهاء مهمة الجنرال كوريلا "خلال الفترة القليلة المقبلة"، يسعى المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون إلى وضع خطة يمكن تنفيذها أثناء وجوده على رأس القيادة، لكن في معرض آخر تقول إنه "حتى في حال ورود المساعدة الأميركية، صرح القادة العسكريون الإسرائيليون بأن التخطيط لمثل هذه العملية سيستغرق شهوراً، وهذا ما أثار بعض المشاكل". 

الصحيفة الأميركية العريقة استُغلت في عملية التضليل الواسعة ونقلت عن مصادر معطيات تبيّن أنها ملغومة ومعدّة بإتقان عبر عملية خداع إعلامي معقّد. بالطبع ليس بالضرورة أن تكون الصحيفة شاركت عن قصد في هذه المناورة، وليس طبيعياً أن تكون على علم مسبق بنيّات نتنياهو وترامب، إلا أن هذه الوقائع تطرح مسألة حصانة وسائل الإعلام، بما فيها أعرق تلك الوسائل في العالم وأكثرها شهرة، أمام مناورات التضليل والخداع.

في معرض آخر، أوردت "نيويورك تايمز" أن ترامب استضاف إلى مائدة الغداء في البيت الأبيض، عشية الهجوم، ستيف بانون، أحد المقربين منه والمعارضين بشدة للتدخّل، ووضعت ذلك في إطار الخدعة، إذ إن مجرد اللقاء قد يوحي بأن ترامب أكثر ميلاً إلى الجناح المعارض للحرب.