قراءة في دوافع المراجعة الدفاعية البريطانية الجديدة

في ظل بيئة استراتيجية متدهورة تسود المستوى الدولي، قد تتخلّف بريطانيا عن الإيفاء بأي التزامات جديدة، من المرجح أن يُطالب بها أعضاء حلف "الناتو".

  •  ثغرات جدية في النسيج الدفاعي البريطاني.
     ثغرات جدية في النسيج الدفاعي البريطاني.

كشف رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، مؤخراً، بشكل رسمي، عن المراجعة الاستراتيجية الدفاعية لبلاده - المعروفة اختصاراً باسم (SDR)، بعد فترة من الترقب والانتظار لهذه المراجعة التي من المفترض أن تتضمن إعادة تقييم للقدرات العسكرية البريطانية، وخطوات عملية لتطوير هذه القدرات، والقاعدة الصناعية المرتبطة بها، على مدار السنوات القادمة، من زاوية أساسية ترتبط بالتغيرات الدراماتيكية التي شابت البيئة الأمنية والاستراتيجية المحيطة بالدول الأوروبية بشكل عام، وبريطانيا بشكل خاص.

هذه التغيرات، ترتبط في جانب كبير منها، بما أثبتته التجارب العسكرية الميدانية خلال العقدين الأخيرين، من أن أي صراع عسكري مستقبلي واسع النطاق، من المرجح أن يكون أكثر اعتماداً على التقنيات المسيرة والسيبرانية، وأكبر من حيث المدى الزمني، وبالغ التكلفة على المستويين المادي والبشري، فلم تعد المقاييس التقليدية للقوة العسكرية، مثل أعداد القوات وعديد الوسائط القتالية، كافيةً بمفردها لحسم الحروب، ففي ساحة المعركة الحديثة، بات تحقيق التفوق مقروناً بشكل أساسي بتحقيق الهيمنة التكنولوجية والاستغلال الأمثل للأنظمة المسيرة بمختلف أنواعها.

فقد أثبتت المواجهات العسكرية الجارية في أوكرانيا، أن "الفعالية العسكرية" باتت تعتمد بشكل كبير على مدى فعالية التنسيق بين الأنظمة العسكرية المأهولة وغير المأهولة والمستقلة، بحيث يتم تشغيل هذه الأنظمة ضمن شبكة متكاملة لا تقتصر فقط على الميادين البرية والبحرية والجوية، بل تشمل أيضاً الميدان الفضائي والسيبراني، بحيث يضمن هذا التكامل، الاستغلال الأمثل للذكاء الاصطناعي وتقنيات معالجة البيانات في الوقت الفعلي، وتكنولوجيا الاستشعار المتقدمة، لتوفير القدرة القتالية المتفوقة والدقيقة والسريعة في آن، وهو ما يمثل في مجمله تحوّلاً كبيراً عن "ثوابت" حقبة ما بعد الحرب الباردة، وعلى رأسها اعتبار أن احتمالية نشوب اشتباك واسع النطاق بين القوى الكبرى، أصبحت أبعد ما تكون عن التحقق.

 ثغرات جدية في النسيج الدفاعي البريطاني

تكررت خلال الأعوام الأخيرة، مؤشرات تراجع جاهزية الأسلحة الرئيسية في المنظومة الدفاعية البريطانية، ولعل أحدث هذه المؤشرات كان ما يرتبط بسلاح البحرية، إذ تمتلك البحرية البريطانية حالياً، أربع غواصات نووية حاملة للصواريخ الباليستية من الفئة "فانجارد"، تعاني اثنتان منها على الأقل من مشكلات تشغيلية، أجبرت قيادة البحرية على تسيير الغواصتين المتبقيتين بشكل تبادلي في دوريات بعيدة المدى، وصلت مدة أحدثها إلى ما يقرب من سبعة أشهر، علماً أنه من المفترض ألا تتجاوز مدة دوريات الغواصات البريطانية المُسلحة نووياً ثلاثة أشهر، وهو ما انعكس بالسلب على حالة الطواقم التي تنفذ هذه الدوريات، ناهيك بتأثير هذه الدوريات على جاهزية الغواصات البريطانية بشكل عام.

المنظور نفسه يمكن النظر من خلاله إلى عمليات نشر حاملات الطائرات البريطانية - تمتلك لندن حاملتي طائرات - حيث لا توفر الموارد الحالية للندن القدرة على النشر الدوري لهذه الحاملات - على النسق الأميركي - وبدلاً من ذلك تقوم بنشر واحدة منهما بشكل عرضي حسب ما تقتضيه الظروف الدولية.

واقع الحال أن انطباعاً سلبياً بات سائداً في الأوساط الداخلية في لندن حيال القوات المسلحة البريطانية، مفاده أن هذه القوات باتت مستنزفة، وتعاني من انخفاض في عديد القوة البشرية، وتراجع في جاهزية بعض المنظومات القتالية المختلفة، وعدم حداثة عدد آخر منها. هذا الانطباع تم تكريسه خلال السنوات الأخيرة، بعد أن تراجع عدد أفراد الخدمة النظامية في الجيش البريطاني، من قرابة مئة وعشرة آلاف جندي عام 2010، إلى ما بين 70 و73 ألف جندي فقط في الوقت الحاضر، وهو تعداد لا يفي بمتطلبات القتال في مواجهة عسكرية متوسطة المدى الزمني.

تكفي في هذا الصدد الإشارة إلى تصريح سابق لوزير الدفاع البريطاني السابق، آل كارنز، اعتبر فيه أن القوة البشرية للجيش البريطاني قد تستنزف في غضون عام من القتال في ميدان قتالي مشابه في ظروفه للميدان الأوكراني، وقد أكد هذا المعنى العام الماضي، رئيس الأركان العامة الحالي للجيش البريطاني، رولاند ووكر، حين رأى أن الجيش البريطاني بحاجة إلى الاستعداد لخوض حرب بحلول عام 2027، في اعتراف "ضمني" بأن الجيش في الوقت الحالي ليس مستعداً للدخول في أي مواجهات عسكرية.

التزامات بريطانيا حيال حلف "الناتو" على المستوى العسكري الميداني، باتت معضلة أخرى تواجه المؤسسة العسكرية البريطانية خلال العامين الماضيين، فوفقاً لهذه الالتزامات، يفترض أن يكون الجيش البريطاني قادراً على نشر عشرات الآلاف من عناصر المشاة، وفرقة قتالية تتسلح بـ دبابات وناقلات جند مدرعة ومدفعية ثقيلة، بشكل سريع وفعال، للدفاع عن أي دولة تابعة للحلف، لكن أظهرت العمليات القتالية في أوكرانيا، أن أي نشر للقوات البريطانية، سيتسبب في نفاد الذخائر وقطع الغيار والإمدادات في غضون أسابيع، ناهيك بأن المنظومة القتالية البريطانية العامة، تعاني من نقاط ضعف جدية، خاصة في ما يتعلق بالدفاعات الجوية، التي لن تسعف الأعداد المتوفرة حالياً منها، في حماية كامل المواقع الحيوية الأساسية الموجودة على التراب البريطاني.

وقد أصبحت نقاط الضعف في مساهمة بريطانيا في حلف "الناتو" جليةً في شباط،/فبراير من العام الجاري، عندما زارت مجموعة من أعضاء مجلس العموم البريطاني، قاعدة عسكرية تابعة لحلف "الناتو" في إستونيا، ينتشر فيها نحو 1000 جندي بريطاني، إلى جانب قوات دنماركية وفرنسية، وصدم حينها أعضاء المجلس، عندما وجدوا أن القوة البريطانية الموجودة في القاعدة، تتسلح بمعدات تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، مثل دبابات "تشالنجر-2" وناقلات الجند المدرعة "واريور"، بجانب عدد محدود جداً من الطائرات المسيرة والمدفعية بعيدة المدى، وهو ما مثل نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه المساهمة البريطانية في أي مهمة "محتملة" لحفظ السلام في أوكرانيا، خاصة في ظل التجربة "المنهكة" للجيش البريطاني في أفغانستان والعراق.

ما سبق يضاف إلى نقاط ضعف أخرى ظهرت خلال السنوات الأخيرة في المنظومة العسكرية البريطانية، من بينها تراجع الروح المعنوية للعنصر البشري في هذه المنظومة، والتأييد الضعيف لمبدأ التجنيد الإجباري بين البريطانيين، فقد أظهر استطلاع رأي، أجرته مؤسسة "يوجوف" في أيلول/سبتمبر 2023، أن 28 في المئة فقط من البريطانيين يؤيدون الخدمة العسكرية لمدة عام واحد.

المشكلات التي تشوب الروح المعنوية في صفوف الجيش البريطاني، ظهرت بشكل جلي خلال استطلاع للرأي أجرته وزارة الدفاع البريطانية العام الماضي، اتضح أن ستة من كل عشرة عسكريين شملهم هذا الاستطلاع، أفادوا أن روحهم المعنوية منخفضة حيال الخدمة في الجيش البريطاني، في حين قال فقط أربعة من كل عشرة عسكريين، إنهم راضون عن تجربتهم في الجيش البريطاني، وهي النسبة الأدنى التي تم تسجيلها منذ بدء وزارة الدفاع في إجراء هذا الاستطلاع بشكل سنوي، علماً أن الوصول إلى هذه النسبة تم رغم إجراءات عدة اتخذتها بريطانيا لرفع الروح المعنوية في صفوف وحداتها العسكرية، منها تحسين أماكن الإقامة والإعاشة الخاصة بهذه الوحدات، بالإضافة إلى أن زيادة رواتب أفراد الجيش بنسبة 6 في المئة العام الماضي، وهي الزيادة الأكبر خلال العقدين الأخيرين.

مراجعة بريطانية دفاعية و"هجومية" في آن

في ضوء ما سبق، جاءت المراجعة الجديدة لاستراتيجية الدفاع البريطانية، والتي تستهدف إيجاد حالة استعداد دائمة للتصدي لأي اعتداء خارجي، وكذا لتنفيذ عمليات هجومية رئيسية، وهو الهدف الذي يحمل بين طياته ارتباطاً وثيقاً بالتوجهات التي بدأت في الظهور أوروبياً، حيال اقتراب "نقطة المواجهة المباشرة" بين أوروبا وروسيا، ولهذا ربما جاء وصف لندن لهذه المراجعة بأنها "مراجعة جيلية"، للدلالة على الأمد البعيد الذي تستهدفه هذه المراجعة. وحقيقة الأمر أن نقطة البداية الأساسية التي ترتكز عليها المراجعة الجديدة، تمثلت في إعلان لندن في شباط/فبراير الماضي، عن أكبر زيادةٍ مستدامةٍ في إنفاقها الدفاعي منذ نهاية الحرب الباردة، تصل إلى 2.5 في المئة من ناتجها القومي بحلول عام 2027، مع استهداف زيادة هذه النسبة إلى 3 في المئة خلال الدورة البرلمانية القادمة.

خطوة زيادة نسبة الإنفاق الدفاعي، أضفت أهمية مضاعفة على المراجعة الدفاعية البريطانية الجديدة، حيث باتت هذه المراجعة فريدة من نوعها في تاريخ بريطانيا الحديث، لأنه سبقها مباشرة زيادة في نسبة الإنفاق الدفاعي. ورغم أهمية هذه الزيادة، فإنها انطوت على  تحديات داخلية عدة، منها ما يرتبط بخطة التقشف المالية، إلا أن التحدي الأهم في هذا الصدد يتمثل في كيفية الاستخدام الأمثل لهذه الموارد، لتحقيق التحول نحو الجاهزية القتالية الكاملة، وهذا لا يشمل توسيع القدرات والإنتاج الصناعي فحسب، بل يشمل أيضاً إعادة النظر في أسس القوة العسكرية البريطانية ذاتها، وهو الأمر الذي من أجله تم إعداد المراجعة الدفاعية الجديدة، التي تضمن إخضاع أفرع الجيش البريطاني كافة، لعملية إصلاح شاملة، وتحديث  القدرات وتوسيعها، مع التركيز على توفير "جاهزية قتالية" شاملة.

في ما يتعلق بالمراجعة الدفاعية البريطانية الجديدة، يمكن القول إنها لا تقر فقط بقدرة الجيش البريطاني المحدودة، على خوض مواجهة عسكرية متوسطة أو طويلة المدى مع جيش مكافئ، بل تُحدد أيضاً خطة إصلاح دفاعي تتضمن قدرات جديدة، ومزيجاً من المعدات الجديدة والمحدثة، وإعادة هيكلة للقوات، وتوفير قاعدة صناعية دفاعية متقدمة ومواكبة للتحديات الحالية. كما تشير هذه المراجعة إلى حجم التحدي الذي يواجه الجيش البريطاني في الوقت الحالي، فهو أقل تحديثاً من الجيوش المناظرة، وقد تبرع بنسبة كبيرة من معداته ومخزونه من الذخيرة لأوكرانيا.

بالتالي، يمكن من حيث الشكل، اعتبار هذه المراجعة أحد أكثر التقييمات واقعية للوضع العسكري البريطاني، وسيكون نجاحها معتمداً بشكل أساسي على توفير التمويل وإدامة مراجعة خطوات التنفيذ، علماً أن هذه المراجعة، قد أشرف على إعدادها كل من، جورج روبرتسون، وزير الدفاع البريطاني السابق، وريتشارد بارونز، القائد السابق لقيادة القوات المشتركة البريطانية؛ وفيونا هيل، المديرة السابقة لشؤون أوروبا وروسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي، بجانب خبراء آخرين. على مستوى المضمون، تهدف لندن من هذه المراجعة، إلى مضاعفة القدرة القتالية لقواتها المسلحة بمقدار عشرة أضعاف عن المستويات الحالية، من خلال الجمع بين عدد أكبر من الأفراد والقدرات المُدرّعة، بالإضافة إلى وسائط الدفاع الجوي المختلفة، وأنظمة الاتصالات المتقدمة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والسايبر، والأسلحة بعيدة المدى، والتقنيات المسيرة بمختلف أنواعها.

أولوية أساسية للجانب البحري 

الملاحظة الأبرز في تفاصيل هذه المراجعة، تكمن في الحيز الكبير الذي تستحوذ عليه القوة البحرية والجوية فيها، خاصة القوة البحرية التي أشارت المراجعة أنها ستشهد توسعاً كبيراً خلال السنوات القليلة الماضية، عبر اتجاهات أساسية عدة، أولها تعزيز وتحديث أسطول الغواصات العاملة بالطاقة النووية في الأسطول البريطاني، الذي يتكوّن حالياً من إحدى عشرة غواصة (بواقع أربع غواصات حاملة للصواريخ من الفئة "فانجارد" وسبع غواصات هجومية  من الفئة "أستوت"، خمس منها في الخدمة، واثنتان ستنضمان إلى الخدمة قريباً)، بحيث ينضم إلى هذا الأسطول اثنتا عشرة غواصة هجومية نووية من الفئة "أوكوس"، على أن تبدأ هذه الغواصات الجديدة في الحلول محل غواصات الفئة "أستوت" تدريجياً، بمعدل بناء يتوقع أن يبلغ غواصة واحدة كل 18 شهراً.

بحرياً أيضاً، ستكون قدرة حاملات الطائرات البريطانية، في طليعة الأنظمة التي ستخضع لتطوير شامل، حيث نصت هذه المراجعة على تأسيس أجنحة جوية "هجينة" لحاملات الطائرات، تجمع بين الطائرات المقاتلة المأهولة، ومنصات مسيرة ومستقلة التشغيل، وكذلك أنظمة الذخائر الجوالة والصواريخ بعيدة المدى، لزيادة المرونة التشغيلية وخفض التكاليف على المدى الطويل، وهو طموح يبدو مركزاً بشكل أساسي على رفع القدرات القتالية لحاملتي الطائرات البريطانيتين من الفئة "إليزابيث"، ليس فقط على مستوى القدرات القتالية الحالية لكلتا الحاملتين، بل أيضاً تزويدهما بإمكانيات جديدة، عبر منحهما القدرة على إطلاق صواريخ دقيقة بعيدة المدى.

بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يشهد أسطول البحرية البريطانية السطحي، نمواً مستمراً من خلال استمرار عمليات بناء الفرقاطات المضادة للغواصات من الفئة "تايب-26"، وتحديث واستبدال مدمرات "تايب-45"، مع إمكانية تصميم وإنتاج سفن قتالية "بطاقم محدود"، وأخرى مسيرة بالكامل، قادرة على المساهمة في مجموعة حاملات الطائرات، وكذلك مواصلة بناء ونشر فرقاطات الأغراض العامة من الفئة "تايب-31"، وهو ما يخدم في المحصلة الهدف الرئيسي الذي تهدف المراجعة الدفاعية الجديدة للوصول إليها، وهو إعادة تشكيل قوة حاملات الطائرات المستقبلية للبحرية البريطانية، من خلال الجمع بين قدرة الضربات الدقيقة بعيدة المدى، والتكامل السريع للطائرات من دون طيار كمنصات متعددة النطاقات قادرة على تنفيذ ضربات بعيدة المدى، وتنفيذ المهمات الأخرى سواء كانت استطلاعية أو دفاعية.

محطات أخرى في المراجعة البريطانية الجديدة

في ما يتعلق بالقدرات القتالية الأخرى، تحدد المراجعة أجندة جادة لاستعادة القوة العسكرية البريطانية، ومن بين أهم الالتزامات التي تضمنتها، تسريع برنامج الرؤوس الحربية النووية السيادية البريطانية، عبر رصد مخصصات مالية بقيمة 15 مليار جنيه إسترليني، لضمان امتلاك البلاد رادعاً مستقلاً وموثوقاً، ودعم تطوير البنية التحتية للردع الاستراتيجي، خاصة مرافق مؤسسة الأسلحة الذرية البريطانية (AWE) بمدينة "ألدرماستون"، وهو ما سيضمن استمرارية الردع النووي للبحرية البريطانية. تناول هذا الجانب من الردع النووي البريطاني في المراجعة الدفاعية الجديدة، كان لافتاً، بالنظر إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تحديد حجم الاستثمارات البريطانية في برامج الرؤوس الحربية النووية.

على الجانب الجوي، أكدت هذه المراجعة - مثل العديد من المراجعات السابقة -  أهمية القوة الجوية، لكنها أوصت، بعد ما يقرب من 30 عاماً من تخلي سلاح الجو البريطاني، عن قدراته النووية، بتوصيات قد تعيد هذه القدرات مرة أخرى، حيث اقترحت المراجعة أن تنظر المملكة المتحدة في توسيع دعمها للدور النووي لحلف "الناتو"، والذي يُلبّيه جزئياً التزام الحلف بالطائرات ذات القدرات المزدوجة، وفي هذا الإطار، تشير المراجعة إلى أن سلاح الجو البريطاني يجب أن يحصل على مزيد من مقاتلات "إف-35"، القادرة على حمل القنابل النووية أميركية الصنع "بي-61"، وكذا زيادة عدد الوسائط الجوية الخاصة بالنقل الجوي والإنذار المبكر، وتوصي أيضاً ببدء مناقشات مع الولايات المتحدة وحلف "الناتو"، حول الفوائد المُحتملة وجدوى تعزيز مشاركة المملكة المتحدة في المهمة النووية للحلف.

كما تدعو المراجعة الدفاعية البريطانية الجديدة، إلى أن تصبح المملكة المتحدة قوة دفاعية رائدة مدعومة بالتكنولوجيا، وتتضمن المراجعة استثمارات بقيمة 6 مليار جنيه إسترليني، لدعم الصناعات العسكرية البريطانية، من ضمنها 1.5 مليار جنيه إسترليني، ستخصص لإنشاء ستة مصانع ذخيرة جديدة على الأقل، وشراء 7000 منظومة قتالية بعيدة المدى من الصناعات العسكرية البريطانية، وتخصيص 1.5 مليار جنيه إسترليني، لتحديث وتجديد المرافق العسكرية.

يضاف إلى ما سبق بنود أخرى تتضمن إنشاء قيادة سيبرانية وكهرومغناطيسية جديدة، مدعومة باستثمارات في القدرات الرقمية بقيمة مليار جنيه إسترليني، تُكلَّف بتنسيق وحماية بريطانيا من الهجمات اليومية في الفضاء الإلكتروني، تحت إشراف القيادة الاستراتيجية البريطانية. كذلك تشمل حزمة التمويل الرئيسية المتضمنة في هذه المراجعة، أكثر من 4 مليار جنيه إسترليني للأنظمة ذاتية التشغيل، واستثماراً إضافياً بقيمة تُقارب مليار جنيه إسترليني لأسلحة الطاقة المُوجّهة (DEW)، خاصة منظومة الليزر "DragonFire"، التي من المتوقع أن تدخل الخدمة على متن سفن البحرية البريطانية عام 2027.

وأخيراً، تتضمن هذه المراجعة، توجهات لإضفاء طابع "هجين" على التشكيلات البشرية في الجيش البريطاني، بهدف الوصول إلى إجمالي قوة بشرية يبلغ مئة ألف جندي، نحو 73 في المئة منهم نظاميون، مع إدخال أنظمة الطائرات ذاتية القيادة وغير المأهولة، بحيث تعمل في مزيج ديناميكي من القدرات مع العناصر البشرية، بجانب اتباع نموذج "20-40-40" في تشكيلات الأنظمة القتالية التي يمتلكها الجيش البريطاني، أي أن تكون 20 في المئة منها أنظمة مأهولة، و40 في المئة أنظمة مسيرة، و40 في المئة أنظمة "استهلاكية"، مثل الصواريخ والقذائف والذخائر الجوالة. ولتحقيق هذا المزيج، أشارت المراجعة إلى ضرورة تأسيس مركز جديد للأنظمة المُسيّرة، لتسريع دمج واستخدام هذه الأنظمة في الأفرع الثلاثة الرئيسية بالجيش البريطاني، بشكل أوسع من وتيرة دمجها حالياً.

في الخلاصة، يمكن القول إن المراجعة الدفاعية الجديدة لبريطانيا، قد وضعت اليد بشكل واضح على الثغرات التي تعاني منها لندن في ما يتعلق بمنظومتها العسكرية، ومن الواضح أن تأثيرات المقاربة الأميركية الجديدة حيال الوضع الاستراتيجي في أوروبا، كانت دافعاً أساسياً من دوافع اتخاذ هذه المراجعة هذا المنحى "الدقيق" في توصيف الموقف الاستراتيجي والعسكري الحالي لبريطانيا. لكن، رغم هذه الدقة، فإن الفجوات التي أشارت إليها هذه المراجعة، لن تسد بين عشية وضحاها، فالمراجعات الدفاعية السابقة، نادراً ما كانت على قدر التوقعات، لأسباب عدة أبرزها مسألة مدى توفر المخصصات المالية اللازمة لتنفيذ التوصيات الواردة فيها، وحقيقة الأمر أن توصيات هذه المراجعة، لا تدعمها سياسة خزانة مُلزمة أو التزام مالي رسمي، بل تعتمد على عائد دفاعي مستقبلي للنمو الاقتصادي، يتوقع أن ينشأ من قاعدة صناعية دفاعية يتم تطويرها وتحديثها، وهو ما ترى بعض الأصوات البريطانية أنه لا يكفي.

حتى على مستوى العلاقة بين لندن وواشنطن، كانت هذه العلاقة عندما بدأ العمل على هذه المراجعة - في عهد الإدارة الأميركية السابقة - في وضع مختلف بشكل كبير عن وضعها الحالي، حيث كانت واشنطن الشريك العسكري الأقرب والأكثر موثوقية لندن، أما الآن، فقد أصبح الأمر أقل وضوحاً، على الأقل من المنظور البريطاني والأوروبي.

وفي ظل بيئة استراتيجية متدهورة تسود في الوقت الحالي على المستوى الدولي، وبالنظر إلى الالتزامات التي تتضمنها هذه المراجعة، قد تتخلف بريطانيا عن الإيفاء بأي التزامات جديدة، من المرجح أن يُطالب بها أعضاء حلف "الناتو"، خلال قمتهم التي ستنعقد أواخر الشهر الجاري في هولندا، ومنها تخصيص حد أدنى 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، كمساهمة في موازنة الإنفاق الدفاعي للحلف.

ونتيجة للمعوقات المالية، سرعان ما تتجاوز الأحداث الدولية والإقليمية، المراجعات الدفاعية البريطانية، ومن أبرز أمثلة ذلك، المراجعة الدفاعية التي تمت في عهد حكومة توني بلير عام 1998، والتي بعد إتمامها بثلاث سنوات، تغير الموقف الإستراتيجي الدولي برمته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولم يتم تنفيذ معظم بنودها.