ما أهداف احتكار السلاح وقرار الحرب والسلم؟ (1)

بينما تسارع دول "المنظومة الدولية" إلى تهديد وجود الكرة الأرضية، يرتكب الاستعمار الجديد جرائم الإبادة، ويسعى إلى نزع سلاح الردع من الجنوب العالمي، مستهدفاً في منطقتنا تسييد "اسرائيل الكبرى".

  • التصويب الأميركي الدولي المحلّي على سلاح المقاومة لا يقتصر على نزع سلاح الحزب!
    التصويب الأميركي الدولي المحلّي على سلاح المقاومة لا يقتصر على نزع سلاح الحزب!

لا صلة مباشرة بين مسألة احتكار الدولة للسلاح الشرعي وبين احتكار الدولة قرار الحرب والسلم. فهما مقولتان في حقليْن مختلفين على وجهَي نقيض: الأولى تعني الصراع الداخلي المسلّح بين شرائح المجتمع وقواه، والثانية تخصّ ثوابت الدول القويّة في الحرب لتوسّع النفوذ والمصالح، وثوابت الدول الضعيفة في الدفاع الوطني والردع بالسلاح للوصول إلى حماية السلم والمصالح الوطنية.

اقتناص ماكس فيبر وتوماس هوبس

بموازاة انهيار منظومة القطبين وحركات التحرّر في عالم الجنوب، بدأت منظومة ريغان ــ تاتشر (1980 ــ 1990) "الدولية" العمل على استثمار التحوّلات في النظام الدولي للسيطرة الجيوسياسية على شرقي القارة، ووضع اليد على جنوبها.

بهدف إخضاع الجنوب العالمي، اقتنص خبراء التلاعب بالعقول إثر الحرب الباردة، نظرية عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864 ــ 1920) الذي انشغل بمسائل الحرب الأهلية في بريطانيا (حرب الممالك الثلاث ــ 1640 و1670) وبالحروب الأهلية في فرنسا (ثورة 1790 والثورات المكمّلة 1830 و1848 وعامية باريس 1871) وخرج منها بقراءة سوسيولوجية لوقف ما رآه "العنف غير الشرعي" في الثورات الفرنسية على الرغم من تغييرها وجه التاريخ، وكذلك "عنف" ممالك ويلز وإيرلندا واسكتلندا ضد التاج البريطاني.

أكد في رؤيته المعادية للثورات الاجتماعية التاريخية والمعادية للإصلاح السياسي، حق الحكومة الرسمية (الدولة) في النظام الإقطاعي القديم "احتكار العنف"، ومنعه عن ثوّار تغيير النظام وعن الديمقراطيين الرافضين لتسلّط الملَكية والإقطاع والكنيسة....، (محاضرتا ماكس فيبر في جامعة ميونيخ عامي 1917 و1919 نُشرتا في كتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان "العالِم (الحكيم) والسياسي" عام 1959 مع تقديم ريمون آرون).

قراءة سوسيولوجية منافية للتاريخ الاجتماعي والسياسي

في تاريخ الصراع الاجتماعي والسياسي لم يكن الخلاف في داخل الدول الأوروبية طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر، على مبدأ احتكار الدولة سلاح العنف الشرعي.

إنما كان الصراع على سلاح تغيير السلطة الملَكية ونظام الحكم الإقطاعي ــ الكنَسي القديم. وفي هذا الإطار، رسّخ النشيد الوطني الفرنسي حتى اليوم شعار الثورة الفرنسية "إلى السلاح أيها المواطنون" من أجل تشييد الجمهورية وتغيير النظام الإقطاعي.

وعلى عكس الولايات المتحدة، لم يهدف العنف السياسي والاجتماعي في أوروبا إلى "حق الشعب في اقتناء السلاح وحمله ضرورة لدولة حرّة" كما نصّ الدستور الأميركي عام 1791 وما زال معمولاً به حتى الساعة.

لكن الدول الأوروبية (الدولة ــ الأمة) التي لجأت إلى الحرب فيما بينها، عمدت الى احتكار العنف والسلاح أثناء توسّعها فيما بينها وأثناء الغزو الاستعماري في الجنوب، ثم ضد تحرّر المستعمرات في أفريقيا وأميركا اللاتينية وإيرلندا والباسك وكاتالونيا وكاليدونيا... إلخ، واستخدمت في المستعمرات مقولة "احتكار الدولة العنف الشرعي ضد الإرهاب والخارجين عن القانون".

ولا يزال الأكثر فاشية وعنصرية يستخدمها اليوم لتبرير السلاح الحكومي في قمع الانتفاضات المطلبية واعتصامات الجامعات دعماً لغزة، وحتى المظاهرات الساخنة في البلدان الأوروبية، كما برّر إريك زمور وجماعة "الإحلال الكبير" عنف سلاح الشرطة ضد السترات الصفر، وضد قمع الفلاحين في سان سولين وضد انتفاضة الضواحي.

في لبنان، لا توجد مطالب بحمل السلاح بحسب الدستور الأميركي، ولا توجد مقاومة السلطة الشرعية بالسلاح منذ اتفاق الطائف. كما أن مقاومة حزب الله لم تمسّ شرعية السلطة من قريب أو بعيد، ولا تقارب تغيير نظام الحكم بالسلاح أو حتى بالمعارضة السياسية.

وبهذا المعنى، يقرّ الحزب حق الدولة في "احتكار العنف الشرعي" الداخلي، وهذا ما يميّز حالة لبنان عن حالات سوريا واليمن وليبيا وتركيا والسودان والصومال وأفريقيا...، حيث الصراع المسلّح هو على شرعية السلطة وعلى شرعية نظام الحكم.

لكنّ الخلاف في لبنان هو على سلاح الدفاع الوطني بين الدول، وعلى سياسات الردع في بناء الدولة. فالتصويب الأميركي الدولي المحلّي على سلاح المقاومة لا يقتصر على نزع سلاح الحزب فحسب، بل يستهدف إزالة كل سلاح الدفاع اللبناني الحالي والممكن لاحقاً، وبناء "لا دولة" منزوعة من سلاح الدفاع والردع.

الدفاع الحربي في عالم الجنوب لحماية السلم والمصالح الوطنية.

برزت مسألة الحرب والسلم ملازمة لحروب مقاطعات "الإمبراطورية الرومانية المقدّسة" وآل هابسبورغ في القرن السابع عشر، عندما غيّر "صلح وستفاليا" (1648 ــ 1657) كل الجغرافيا السياسية الأوروبية، وقلبَ الحروب الدينية (وهي حقيقة حروب الفلاحين والإقطاع والكنائس المختلفة) إلى حروب بين ممالك وإقطاعيي الدول الأوروبية، فاحتكرت كل مملكة سلاح الحرب بتعطيل سلاح مقاطعات الإمبراطورية.

يعود اليوم دعاة نزع سلاح الدفاع والردع من دول الجنوب إلى ذاك التاريخ في أوروبا، استناداً إلى الأنتروبولوجي الإنكليزي توماس هوبس (1588 ــ 1679) الذي كان مثل ماكس فيبر مشغولاً بالحرب الأهلية الإنكليزية ومؤمناً بدولة الملَكية المطلقة.

وقد يكون هوبس بين أوائل الذين فلسفوا مفهوم بناء الدولة الملكية ــ الإقطاعية في أوروبا من رحم الإمبراطورية الرومانية المقدّسة. وعُدّ مفهومه تأسيساً لولادة الدولة ــ الأمة قبل الثورة الصناعية والدولة القومية. لكنه رأى الحروب الأوروبية حينها نتيجة الطبيعة البشرية المجبولة على العنف بحيث يولد الإنسان ذئباً للإنسان، وتؤدي طبيعته "إلى حرب الكل ضد الكل".

ولتقريب تصوّره، استعان بأسطورة الوحش البحري التوراتية "اللفيتان ــ سفر يونس"، في دعوته إلى منقذ "في داخل الحوت" يتجسّد بتصنيع حكومة (دولة) فوق الطبيعة البشرية، قائمة على الأخلاق المسيحية لكي تتكفّل بتهذيب الذئبية البشرية مقابل الطاعة العمياء لسيادة الحكومة ــ الدولة. عندها، يتوقف بنظره العنف (الحرب) وتستقرّ ديمومة السلام بين العبد الطيّع وبين صاحب السيادة المطلقة مقابل قيام السيّد بواجباته الأخلاقية.

انبعاث الهوبسية بحلّة عصرية

العديد من فلاسفة وعلماء الاجتماع في أوروبا، تناولوا في عصر التنوير والعصر الحديث مسألة العنف والسلاح وعارضوا تصوّرات هوبس على وجه الخصوص، بالنظر إلى أن الحرب لا مفرّ منها بين الدول المبنيّة بطبيعة وجودها على توسّع النفوذ والمصالح، أو على منع التوسّع في الدفاع الوطني، وليس بسبب الطبيعة البشرية للشعوب.

لكن الخلاصة التي وصل إليها هوبس مرتع خصب يقتنصه خبراء دعاة الاستعمار الجديد ومثقفوه، لاستخراج أيديولوجية وبنية فوقية كاملة تتحكم بخضوع شعوب ودول الجنوب، لتسليم ثرواتها ومقدراتها إلى الأسياد الجدد كفعل حضاري عن طيب خاطر.

ترتكز هذه الأيديولوجية على ترويج ثقافة سياسية مفادها أن عالم الجنوب ليس شعوباً ومجتمعات عريقة الحضارة، بل جماعات عصبية ومكوّنات دينية وعرقية غريزية مجبولة بطبيعتها البشرية على العنف البربري.

إقناع النُخب وناشطي الجنوب أن دولهم فاشلة أو مارقة بسبب طبيعة شعوبهم. لذا، يجب تطبّعهم على فرض الرضوخ إلى أسياد "الشرعية الدولية"، مقابل تهذيب ذئبية طبيعتهم البشرية وتربيتهم على أخلاقيات "منظومة القيَم" الحضارية. وبين هذه القيَم ما يرُوّج من تعابير ارتقاء الأفراد الأحرار إلى مصاف "المواطَنَة"، وإلى شروط صقل الطبيعة البرّية بأخلاقيات الرضوخ ونبذ العنف والكراهية والتسامح والحوكمة الرشيدة... إلخ.

فلسفة دحض الهوبسية قديماً وحديثاً 

إيمانويل كانط، أحد فلاسفة التنوير المرموقين (1724 ــ 1804) دحَض مقولة هوبس بنقل الحرب والسلم من الماورائيات القائمة على النظر في الطبيعة البشرية وأخلاقيات العبد والسيّد، إلى تاريخ طبائع الدول وأسبابها. فرأى الحرب علاقة صراع بين دولة مقابل دولة، متوافقاً مع باروخ سبينوزا (1632 ــ 1677) بأنه "لا يوجد أكبر من مأساة السلم تحت الخوف الذي يؤدي إلى العبودية".

رأى احتكار الدولة قرار الحرب والسلم قرار حرب دائمة بين الدول، لا حلّ لها سوى إنشاء حكم عالمي يقوم على مبادئ الحق، ضمانة للسلم الدائم بين الدول. (مبادئ الحق والقانون، والسلام الدائم، 1795 ــ 1796).

مونتسكيو وجان جاك روسو (1712 ــ 1778) تعمّقا أكثر من ذلك في أسباب الحرب بين الدول فيقول روسّو "إن الحرب ملازمة لوجود الدولة والمجتمع، ولا دولة ومجتمع من دون حرب".

رأى أن حالة الحرب هي بالضرورة نتيجة وجود دول سيّدة وأخرى عبيدة، ولا يمكن إنهاؤها بسلام قانوني عالمي، بل "إن الحرب العادلة مبدئية وضرورة لسلام الدولة والمجتمع وضرورة لوجودهما". (روسّو، الحرب وحالة الحرب، الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، غاليمار، 1964، ص 1899)

واستمرّ الفلاسفة المعاصرون وعلماء الاجتماع بدحض المقولة الهوبسية كلٌ من زاوية رؤيته وفلسفته. لكنهم أجمعوا على أن الدول هي في حالة حرب دائمة، يحدّ من اندلاعها توازن الرعب والقدرة على الدفاع الوطني.

ميشال فوكو (1926 ــ 1948) يرى الحرب حقيقة تاريخية تفرض الدفاع عن المجتمع وحرية الأفراد (نشأة السيادة، محاضرة 4 شباط ـ فبراير، 1976).

ريمون آرون الأكثر محافظَة بين الديمقراطيين (1905 ــ 1983) يرى أن الدولة ــ الأمة نشأت بالعنف المسلّح، فينبغي لكل إنسان حمايتها، وأن يكون جندياً للدفاع عن حرّيته. "فالسلم بين الدول وهم، والحرب من ثوابت التاريخ البشري، ولا مفرّ منها". (الحرب والسلم بين الأمم، كالمان ليفي، باريس، 1962).

ولم يكن بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع المرموقين، أو بين رجال الدولة الكبار، أيّ من دعاة حرب للحرب. لكن أغلبهم جدّ السعي لاستخلاص دروس وقائع التاريخ الأوروبي تحديداً. فسار على هدى حكمة الفيلسوف ورجل الدولة الروماني "جيل سيزار" الذي قال قبل الميلاد بمئة عام " من يسعَ إلى السلم يستعد للحرب".