هل تخدم الفوضى الشاملة أميركا أم تهدد مصالحها في لبنان؟ (3-2)
تثمير النفوذ الأميركي يتطلب هدوءاً يتيح تسييل المصالح، لكن ذلك ليس قاعدة ثابتة، إذ إنه منوط إلى حدّ كبير بالإجابة عن السؤال الذهبي.
-
ماذا تريد أميركا؟
تمهد أميركا لمشاريعها عبر الأدوات العسكرية الخشنة والفوضى والضغوط الاقتصادية والوسائل الناعمة. متى استتب لها الوضع يصبح الاستقرار مصلحة لها. في العام الأخير، بات لبنان يميل أكثر من السابق إلى مناطق النفوذ والوصاية الأميركية. تثمير الهيمنة يتطلب هدوءاً يتيح تسييل المصالح والمشاريع، لكن ذلك ليس قاعدة ثابتة، إذ إنه منوط إلى حدّ كبير بالإجابة عن سؤال: ما هي رؤية الولايات المتحدة تجاه لبنان؟
ماذا تريد أميركا؟
في الجواب عن ذلك لا يغيب مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي جاهر به رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو من دون اعتراض أميركي، كما لا يغيب حديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرتين حول ضيق مساحة "إسرائيل". في المرة الثانية، بداية العام الحالي، كرّر أن الأخيرة تبدو صغيرة على الخريطة، وأنه لطالما فكّر "كيف يمكن توسيعها"، وإن جاء ذلك في معرض تعليقه حول ضمّ الضفة الغربية.
في هذا السياق، يبدو أن نقص الخبرة الدبلوماسية لدى المبعوث الأميركي الخاص توماس براك تتيح في كل مرة العثور على إشارات متباينة صادرة عنه، إلا إذا كان ذلك التباين انعكاساً لتباين أعمق في واشنطن. مع ذلك، يصعب تجنّب مواقفه بالغة الدلالة التي أدلى بها خلال مقابلة مع البودكاستر الأميركي الشهير ماريو نوفل أواخر الشهر الماضي.
قال إن "إسرائيل" غير مهتمة بالالتزام بحدود الشرق الأوسط المستقرة بموجب اتفاقية "سايكس- بيكو"، ولديها "القدرة أو الرغبة" في السيطرة على لبنان وسوريا. وأضاف: "في نظر إسرائيل، هذه الخطوط التي رسمتها سايكس بيكو لا معنى لها. سيذهبون حيثما يشاؤون، وقتما يشاؤون، ويفعلون ما يشاؤون لحماية الإسرائيليين وحدودهم".
تفاصيل ما أدلى به براك تحتاج إلى متابعة أكثر تفحصاً توخياً للدقة، فهو نفسه كان كتب منشوراً في حسابه على منصة "إكس" خلال شهر أيار/مايو الماضي أشار فيه إلى أن التقسيم الذي أفضت إليه اتفاقية سايكس- بيكو "كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها ولن يتكرر مرة أخرى، وأن زمن التدخل الغربي انتهى، وأن المستقبل سيكون لحلول تنبع من داخل المنطقة، وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل".
القدرة والكلفة
بالعودة إلى المقاربة الأميركية تجاه لبنان، يحضر أيضاً تنصّل واشنطن من دورها الضامن لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي مع استمرار الخروقات الإسرائيلية، إلا أن ذلك لا يخرج عن إطار سياسة واشنطن الثابتة طوال عقود من الاحتلال والعدوان الإسرائيليين تجاه لبنان أو فلسطين؛ هناك حيث الأدلة أكثر سطوعاً إلى درجة تكاد تلوّح بيديها.
في مقابل التقارير الإعلامية الواردة حول قرب انتقال الملف اللبناني مجدداً من براك إلى مورغان أورتاغوس، جاء تشخيص حزب الله لخلفية المواقف الأميركية على لسان أمينه العام الشيخ نعيم قاسم خلال الأيام الماضية، إذ أوضح أن الأميركيين يضعون هدفاً واحداً، وهو إفقاد لبنان قوّته وقدرته حتى يصبح لقمة سائغة تحت عنوان مشروع "إسرائيل الكبرى".
أمام أي بحث موضوعي، لا يمكن لأي رأي ينفي أو يشكّك في وجود أطماع صهيونية تجاه لبنان، أن يصمد طويلاً، ولا تبقى سوى علامات التعجب، والمزيد منها. المسألة كما تدلّ تجارب الماضي البعيد والماضي القريب، تكاد تكون محصورة في القدرة والأكلاف التي يمكن أن يتحمّلها الإسرائيلي لقاء ذلك. لكن، ماذا عن الطرف الأميركي في الوقت الحاضر؟
لبنان من منظور الصراع الأوسع
من منظور أميركي، لا يعدو لبنان كونه تفصيلاً على خريطة الشرق الأوسط لولا وجود قوة ممانعة ومسلحة فيه، تقف في وجه هيمنة "إسرائيل" التي تشكل أحد أهم الاستثمارات في تاريخ الإمبراطورية الأميركية، كما تمثّل حاملة طائراتها الأكبر في قلب المنطقة.
لكن هناك مصالح أخرى لواشنطن في بيروت، أحد تجلياتها استكمال عملية بناء سفارتها الجديدة شمال شرق بيروت، وهي من أكبر سفاراتها ضخامة في العالم، إضافة إلى غاز المتوسط.
في ما يعني "إسرائيل" ومحيطها المباشر ومشاريعها في المنطقة عموماً، يتعذّر إغفال الدور النشط الذي يؤديه اللوبي الإسرائيلي إلى جانب الكتلة الإنجليكية اليمينية الصهيونية داخل الإدارة الأميركية في توجيه القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، بما يخدم مصلحة "إسرائيل" وأحياناً مصالح بنيامين نتنياهو الشخصية.
يتسق هذا الاعتبار مع الرؤية الأميركية تجاه لبنان، وهي رؤية لا تنفصل عن ترتيبات واقع الشرق الأوسط في إطار الصراع مع قوى عالمية مثل الصين وروسيا وأخرى إقليمية مثل إيران، كما لا تنفصل عن التحديات الداخلية التي تواجه إدارة دونالد ترامب ربطاً باستحقاقات ثابتة مثل موعد الانتخابات النصفية العام المقبل، فهل لهذه الأسباب تستعجل الإدارة الأميركية التخلّص من سلاح حزب الله خلال مهل زمنية قصيرة؟ أم أن الأمر يرتبط حصراً بما تعدّه واشنطن فرصة سانحة وخطوة تمهيدية متقدمة أمام مشروع "إسرائيل الكبرى"؟
أكثر من رؤية أميركية
في كل مرة يتتبّع النقاش أهداف الإدارة الأميركية في لبنان ينساق الحديث تلقائياً إلى مربع الثوابت الأميركية للمنطقة، وفي صلبها "إسرائيل"، التي تتخطى تمايزات الإدارات المتعاقبة والحزبين الحاكمين. من دون هذه الثوابت يصعب النظر إلى مستقبل لبنان وإلى إمكانات المشاريع الصهيونية وأحلام قادة الكيان.
لكن إلى جانب ذلك، لا يغيب التعارض بين الرؤى الأميركية المتعددة داخل أروقة صنع القرار في واشنطن تجاه بعض ملفات المنطقة. في سوريا على سبيل المثال، حصل مثل هذا التعارض خلال ولاية دونالد ترامب الأولى، عندما أبدى الأخير رغبته بانسحاب القوات الأميركية من سوريا بخلاف رغبة البنتاغون التي رجحت الكفة لصالح رؤيتها في نهاية المطاف، وجرى الاحتفاظ بالقواعد العسكرية الأميركية.
يحدث هذا اليوم في ما يتعلق بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وموقعها في التصوّر الأميركي لهندسة سوريا الجديدة. تشي التقارير بوجود تيارين يتنابذان الرؤى؛ الأول في الكونغرس ووزارة الدفاع يريد الحفاظ على (قسد) كذراع أساسية، وتيار آخر يمثله المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان توماس برّاك يرى أنه من دون ترتيب العلاقة مع دمشق ستبقى الإنجازات الأميركية هشة.
ماذا في حالة لبنان؟
محاذير الفوضى
من بين الأمور التي يتفرّد فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن أقرانه هو الإفراط في استخدام لغة القوة بعيداً من أي لياقة دبلوماسية تتسم بها العلاقات الدولية. هو يعبّر عما يريد بشكل مباشر وصلف، فقط لأن معادلة القوة تتيح له ذلك.
حصل ذلك مع حلفاء وأصدقاء أميركا قبل أعدائها. في بلد صغير مثل لبنان، يبقى السؤال معلّقاً: إذا كان البلد كسيحاً، والمقاومة هشة، لماذا يتكبّد الموفودون الأميركيون عناء التردّد إليه، والتقدّم بعروض وإغراءات (إلى جانب التهديد) بدل الانتقال مباشرة إلى أسلوب ترامب الذي يشاهده العالم في غزة؟
يستدعي الأمر العودة إلى المبادئ التقليدية في العلاقات الدولية ومحاولة البحث في مجموعة المصالح التي تحدد استراتيجية الدول المهيمنة وصاحبة النفوذ تجاه الدول الهشّة ومحدودة القدرات، وما إذا كانت تتطلب تلك المصالح استقراراً أو فوضى.
المصالح الاقتصادية على سبيل المثال غايتها تأمين تدفق الموارد والممرات الاستراتيجية وهي تتطلب استقراراً، فيما تؤدي الفوضى في حالات أخرى إلى دخول قوى منافسة إلى الساحة، وبالتالي فإن المعايير التي تتحكم في رؤية الدولة المهيمنة في هذا السياق يتعذر أن تخضع إلى قاعدة واحدة بل تتحدد وفق أنواع عدة من المعايير، منها:
أولاً، طبيعة المصلحة: هل هي اقتصادية تُعنى بالموارد والأسواق؟ أو جيوسياسية تتعلق بالموقع والممرات؟ أو أمنية يحركها منع الهجرة ومكافحة التمرد العسكري ومحاربة الإرهاب أو حركات المقاومة؟
ثانياً، طبيعة النظام المحلي الواقع تحت الهيمنة: هل هو مرن وتابع بما يكفي أم لديه نزعات استقلال أو تمرد على الهيمنة بما يحتاج إلى إضعافها؟
ثالثاً، محاذير الفوضى وتأثيرها على المصالح والنفوذ.
التكيّف مع المخاطر
لا يؤدي الاضطراب الأمني بالضرورة إلى عدم قدرة الولايات المتحدة على التكيّف معه. الافتراض بأن الفوضى الأمنية في لبنان لا تخدم مصالح الولايات المتحدة ونفوذها يتطلب المزيد من البحث.
سبق أن غزت الولايات المتحدة بلدين كبيرين في الشرق الأوسط بداية الألفية، هما العراق وأفغانستان. صحيح أنها خرجت مثخنة بخسائر جسيمة انتهت إلى انسحابها منهما قبل عودتها إلى العراق، إلا أن وجودها العسكري في العراق بعد استنبات "داعش" عام 2014 ونشوء الحشد الشعبي على إثرها، يشكّل مثالاً على إمكانية تعايش نفوذها في مناطق عدم الاستقرار.
يمثّل العراق من هذه الزاوية نموذجاً ملائماً بحكم التشابه بينه وبين لبنان لجهة المطالبة بنزع سلاح المقاومة في ظل دولة منقسمة ونظام طائفي ونفوذ أميركي مستحكم.
في سوريا حصل هذا التأقلم بين الوجود العسكري المباشر وبين الاضطراب على امتداد أعوام النار والفتن الكبرى، رغم تعرض القواعد الأميركية هناك لهجمات متكررة أكثر من مرة.
لكن، من ناحية أخرى، لم تحتمل واشنطن الاستمرار طويلاً في مواجهة اليمن عسكرياً، فانكفأت رغم عدم التماثل والتكافؤ في حجم القوة العسكرية، ورغم التفاوت الهائل في القدرات المادية لكل منهما. هذا يعيدنا مجدداً إلى خصوصية كل بلد وموقعه في ضوء مقاربة واشنطن لمصالحها فيه وأكلاف خطواتها المحتملة.
في هذا الإطار، يتعذر النظر إلى لبنان كأنه معزول عن محيطه الإقليمي. يستدعي ذلك السؤال عمّا إذا كان في حوزة حلفاء المقاومة أوراق مؤثرة ليوم الشدّة لم يُكشف عنها بعد. سبق أن أدلى قائد "أنصار الله" السيد عبد الملك الحوثي بمواقف داعمة لحزب الله في مواجهة أي تصعيد إسرائيلي شامل، جاء آخرها الشهر الماضي بالتزامن مع رسائل حملها أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني في زيارته إلى بيروت.
تتيح الخصوصية اللبنانية قدراً من المناورة إزاء الضغوطات الأميركية، بقدر ما تنطوي على تحديات ومخاطر. لا يعني ذلك المبالغة في قدرات لبنان، كما لا يعني حكماً أنه مكافئ للولايات المتحدة ويمكنه التعامل معها بندية. لكن ذروة الواقعية تقتضي التمسّك بأفضل الفرص الممكنة، إذا كانت الخيارات البديلة تتأرجح بين الموت شنقاً أو الموت حرقاً؛ بين الموت البطيء أو الموت السريع.