القومية الآسيوية والأفروأوراسية سلاح الصين في مواجهة التحالف الرباعي

أدرك الصينيون أن الترويج للأيديولوجيا الشيوعية في المنطقة قد يؤدي إلى تقليص علاقاتهم بالدول الأخرى، فاختاروا صياغة رؤية لا تتعارض مع الشيوعية الشرقية.

  • التحركات الصينية مفرطة في عمليتها وقاصرة حتى الآن.
    التحركات الصينية مفرطة في عمليتها وقاصرة حتى الآن.

في بدايات القرن العشرين، برزت إلى الساحة الآسيوية من اليابان أيديولوجيا جديدة أثارت إزعاج البريطانيين، هي "القومية الآسيوية" التي تأثرت بطروحات الفلبيني خوسيه ريزال (1861 – 1896)، باعتباره القومي الآسيوي المثالي. وقد تبنت اليابان في القرن العشرين هذه الدعوة التي وجدت صدى كبيراً في العديد من الدول الآسيوية، كالصين والهند والفلبين وفيتنام، وكان من أبرز مؤيديها الشاعر البنغالي الهندي رابندرانات طاغور، كما اكتسبت تأييد عدد من المثقفين الإصلاحيين الصينيين، كالزعيم صون يات صن، وتأسست في طوكيو عام 1907 جمعية التضامن الآسيوي من طرف مفكرين صينيين واشتراكيين يابانيين ومنفيين قادمين من الهند وفيتنام والفلبين.

الواقع أن تبني اليابان فكرة القومية الآسيوية لم يكن نزيهاً جداً، فقد كانت الدولة الآسيوية الوحيدة التي تمكنت من تحقيق نهوض وتطور صناعي أتاح لها الدخول بين النادي الإمبريالي المكون كله من الأوروبيين، وهو ما لم ترغب أوروبا في الاعتراف به حتى أثبتت اليابان مدى قدرتها بانتصارها الساحق على الإمبراطورية الروسية عام 1905، وكان من الضروري أن تحاول تحقيق هيمنتها على القارة الآسيوية عبر تبني هذه الأيدولوجيا.

في المقابل، اضطر الاحتلال البريطاني في الهند إلى مواجهة القومية الآسيوية عبر التشجيع على بروز ما يطلق عليه "القومية الهندوسية" و"القومية الإسلامية"، وهما اللتان تأسست بناء عليهما كل من دولتي الهند وباكستان.

وفي إطار سعي بريطانيا لتعزيز هويات دينية انفصالية عبر عرقنتها وتحويلها إلى قوميات مستقلة، قامت بإضفاء الصبغة الطائفية على المجتمع الهندي عبر تجزئة الأقاليم بناء على الانتماءات الدينية. وقد مثّلت تجزئة إقليم البنغال عام 1905 إحدى هذه المحاولات لتعزيز الاختلافات الدينية.

وقد أتت هذه السياسة أكلها بالفعل، ففي عام 1915، برز أول تنظيم هندي "مهاسبها"، معبراً عن رؤية زعيمه فيناياك دمودار سفركار في كتابه "هندوتفا: من هو الهندوسي؟ "للقومية الهندوسية، المستوحاة إلى حد كبير من القوميات العرقية لأوروبا، إذ اعتبر أن الهندوس يشكلون أمة وجنساً متميزاً، وبالرغم من تزاوج السكان الآريين الأصليين مع غيرهم، فقد نتج من ثقافتهم وسلالتهم الأمة الهندوسية. وبناء على هذه الرؤية، فإن الهندوسي هو شخص لديه شعور بالاتحاد مع الهندوس الآخرين من خلال هؤلاء الأسلاف القدامى، وهو الذي يعتبر الهند وطن الآباء والأجداد والأرض المقدسة".

وبالرغم من أن فترة حكم جواهر لال نهرو سعت إلى ترسيخ العلمانية في المجتمع الهندي وتبني ما أطلق عليه "القومية الهندية المركبة"، والتي تجمع بين كل أعراق الهنود ودياناتهم، فإن حزب المؤتمر الحاكم تخلّى عن هذه السياسة بعد وفاته، وسعى أقطابه لاستقطاب زعماء القومية الهندوسية لمصلحة أغراضهم الشخصية، بل إن أنديرا غاندي ونجلها راجيف (ابنة نهرو وحفيده) حاولا تصوير حزب المؤتمر الوطني على أنه المدافع الأوحد عن الأمة الهندوسية.

لقد كان الصعود الأخير لحزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي نتيجة أزمة اقتصادية كبيرة واجهت الهند عام 2008. وقد نجح الحزب عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في جذب المصوتين المقيمين في المناطق الحضرية، والتي بلغت 155 دائرة، واستخدم مرشح الحزب ناريندرا مودي سياسة نبذ الآخر كأداة لخلق شعبيته عبر التوضيح أن الهندوس هم الجماعة الأعلى، فيما المسلمون وأبناء الديانات الأخرى هم جماعات متجانسة وأدنى.

ومن البديهي أن نشأة كل من الهند وباكستان بناء على هذه التصورات المعرقنة للديانات أن تكون العلاقات بين الدولتين وكذلك العلاقة بين الهند والصين عدائية في جوهرها، إذ خاضت الهند عدداً من الحروب في مواجهة كلا الدولتين. وبالرغم من العلاقات الجيدة بين باكستان والمعسكر الغربي، فإن ظروف العداء الهندي أجبرت باكستان على علاقات قوية مع الصين كذلك، تطورت مؤخراً إلى ما يشبه التحالف في الوقت الذي تراجعت العلاقات الباكستانية الأميركية والغربية، كرد فعل طبيعي على التطور المقابل في العلاقات بين الهند والولايات المتحدة، والتي وصلت إلى مستوى الدخول في التحالف الرباعي (الناتو الآسيوي بحسب الوصف الصيني) الموجه ضد الصين، والذي يشمل كذلك كلاً من اليابان وأستراليا.

لكن مع ما أدى إليه الصدام الأخير بين الهند وباكستان، واضطرار الهند إلى التراجع والقبول بالتفاوض، واستمرار الاندفاع الأميركي تجاه الحشد لمواجهة هذا التطور الصيني السريع في الاقتصاد، وحتى في تكنولوجيا تصنيع السلاح، وهو ما يستدعي دعماً أميركياً غير محدود للهند كقوة معادلة للصين في آسيا ومعادية من الناحية الأيدولوجية، فإن الصين، بالرغم من تبنيها الماركسية كنظام، ستكون مضطرة إلى التعامل مع المحيط الآسيوي وحتى المحيط الأفروأوراسي من منطلق أيدولوجيا جامعة جديدة في محاولة لحشد الدول الآسيوية والدول المتضررة من الهيمنة الأميركية في مواجهة هذا التحالف الرباعي المشكل ضدها.

بادئ ذي بدء، يجب الإشارة إلى أن الصين تراهن هنا على عدة حقائق:

أولها: أن الصين تحولت إلى قوة اقتصادية ضخمة وتسعى لاستغلالها في ترسيخ علاقاتها بدول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وبالتالي إجبار كل من أميركا والدول الأوروبية على الاعتراف بها كقوة اقتصادية عظمى. وفي هذا الإطار، سعت للمساهمة في تطوير البنى التحتية لعدد من الدول الأفريقية والآسيوية، كما طرحت رؤيتها عبر مبادرتها الحزام والطريق التي تحاول عبرها ربط دول العالم بها من الناحية الاقتصادية.

ثانيها: أثبتت الحرب الهندية – الباكستانية أن الصين حققت بالفعل تطورات كبيرة جداً في مجال التصنيع العسكري، ما ساهم في تحقيق باكستان الانتصار في الصراع بينها وبين الهند للمرة الأولى، وإجبار الهنود على قبول المفاوضات والتراجع عن الحرب التي سعوا لإشعالها. ومن المؤكد أن توجهات العديد من الدول الأفريقية والآسيوية في مجال شراء السلاح سوف تتغير للجوء إلى السلاح الصيني المتفوق والرخيص، الأمر الذي سيعزز الوجود الصيني في كل من آسيا وأفريقيا، وهو وجود بدأ يؤتي أكله بالفعل عبر الخطوة المصرية الأخيرة بعمل مناورات مشتركة مع الجيش الصيني وشراء معدات وأسلحة دفاعية صينية، ومثل هذه الخطوات سيؤثر بالسلب على الدور الهندي الذي يرغب الأميركيون في جعله أكثر فاعلية، سواء في آسيا والمحيطين الهندي والهادي، أو في الخليج الفارسي والشرق العربي، خصوصاً لدعم الكيان الصهيوني دون الحاجة لوجودهم المكثف.

ثالثها: أنّ الهند، رغم التطور التكنولوجي المهم الذي حققته في الفترة الأخيرة،  لم ترتقِ حتى الآن إلى المستوى الصناعي نفسه الذي وصلت إليه الصين، وهي بحاجة إلى فترة طويلة حتى تقترب من هذا المستوى، وبالتالي فمحاولة جعلها منافساً للصين في آسيا لا تعتمد سوى على الأيدولوجيا التي تتحرك من خلالها الحكومة الهندية فقط، والمعتمدة على القومية الهندوسية كأيدولوجيا قادرة على إقامة الحواجز مع الآخر وإشعال الخلافات الدينية، سواء بين الهندوس والمسلمين، أو بين الهندوس والديانات الأخرى المنتشرة في المنطقة، وخصوصاً البوذية، الأمر الذي يمكن أن يقلل من تأثير الأيدولوجيا الشيوعية التي تتبناها الحكومة الصينية.

من هنا، يبدو أن الصينيين أدركوا أن الترويج للأيدولوجيا الشيوعية في المنطقة قد يؤدي إلى تحجيم علاقاتهم بالدول الأخرى، فاختاروا محاولة صياغة رؤية لا تتعارض مع الشيوعية الشرقية. وفي الوقت ذاته، تخدم محاولاتهم لخلق مشتركات مع الآخرين، وخصوصاً في آسيا.

إنَّ الخطوات الصينية التقليدية التي تقوم على المصالح المشتركة ودعم البنى التحتية والصناعية للدول الفقيرة والقروض الميسرة التي تقدمها كبديل للاستغلال الذي تقوم به القوى الغربية وصندوق النقد الدولي، والتي أدت إلى العديد من الكوارث الاقتصادية بهذه الدول، كإندونيسيا على سبيل المثال، أقول إن هذه الخطوات يجب أن تكون مدعومة بعقيدة يمكن قبولها بالنسبة إلى هذه الدول وتمكن الصين من التواصل مع الشعوب المتنوعة عرقياً ولغوياً ودينياً، ما يرسخ من موقفها في مواجهتها مع الولايات المتحدة الأميركية، والتحالف الرباعي الذي تم تشكيله للوقوف في وجه تحالفها مع كل من روسيا وإيران وعرقلة مبادرتها الحزام – الطريق.

 من البديهي أن القادة الصينيين يدركون أن عليهم التحرك في اتجاهين: 

- الأول، هو المحيط الآسيوي الذي يعاني مجموعة أيدولوجيات تمثل خطورة على الصين ووحدة أراضيها، كالتطرف الديني، سواء كان إسلامياً أو هندوسياً أو حتى بوذياً (التبت على سبيل المثال)، والدعوات القومية من منطلق عرقي كالدعوات التركية. 

- الثاني، التواصل الخارجي مع الدول المتضررة من الهيمنة الأميركية.

وإذا كان ترتيب الأوضاع في آسيا هو الأكثر أولوية بالنسبة إلى الصين، فمن الضروري إحياء أفكار القومية الآسيوية في هذه المرحلة كأيدولوجيا مواجهة لكل من القومية الهندوسية في الهند، والقومية اليابانية في اليابان، والقومية التركية في سينكيانج (تركستان الشرقية)، إضافة إلى الدعوات الدينية المتطرفة، وخصوصاً أن أفكار القومية الآسيوية بالأساس لم تتعارض مع أفكار القوميات الفرعية، سواء قومية الملايو التي تشمل إندونيسيا والفلبين واليابان وماليزيا، أو القوميات الأخرى التركية والفارسية والهندية.

من الواضح أن الصينيين، بالرغم من أنهم إعلامياً لا يتحدثون عن هذه الفكرة، يطبقونها عملياً في مواجهة الحرب التجارية التي أشعلها ترامب ضدهم، فإضافة إلى تحالفهم القوي مع إيران سعى الصينيون لتقوية تحالفهم مع دول الهند الصينية، وخصوصاً كلاً من كمبوديا ولاوس (نظامها شيوعي)، عبر مشروعي قناة فونان تيكو الذي يربط بين العاصمة الكمبودية وأكبر موانئها ومشروع السكك الحديدية عالية السرعة، والذي ينتظر أن يربط بين الصين ولاوس وتايلاند وكمبوديا وصولاً إلى ماليزيا وسنغافورة.

لقد تنبّه بريجنسكي سابقاً إلى حقيقتين: 

1- خطورة تبني الصين النزعة القومية الصينية في سعيها للتطور ومواجهة الهيمنة الأميركية: "أي صين عالية النبرة القومية وجازمة – متباهية بقوتها الصاعدة – قد تدفع، دونما قصد، باتجاه استنفار تحالف قوي بين الجيران ضدها. والحقيقة هي أن أياً من جيران الصين المهمة – اليابان، والهند، وروسيا – ليس مستعداً للتسليم بحق الصين في الحلول محل الولايات المتحدة على العرش العالمي إذا بات شاغراً. قد تجد جارات الصين نفسها مضطرة في آخر المطاف، ولكنها ستبادر على نحو شبه مؤكد، إلى المناورة ضد هذا التنصيب".

2- خطورة التحالف الصيني مع روسيا وإيران: "من المحتمل أن يكون أخطر السيناريوهات هو الذي يتمثل في التحالف بين الصين وروسيا، وربما إيران أيضاً، فيكون تحالفاً (مضاداً للهيمنة) لا تجمعه الأيدولوجيا، إنما تجمعه التظلمات أو حالات الضيم التي يكمل بعضها البعض الآخر".

   وهنا، من المتوقع أن يكون الصينيون قد سعوا لدمج التحذيرات البريجنسكية في محاولة للوصول إلى حلول تمكنهم من تحقيق مشاريعهم دون استفزاز القوى المحيطة، فعدم المبالغة في النزعة القومية، والانخراط في تحالف متجاوز للأيدولوجيا، من الممكن أن يتسع أمام الصخب الذي تثيره إدارة ترامب. 

وإذا كان إحياء القومية الآسيوية يمثل رؤية نظرية لتوحد القارة الأكبر في مواجهة الإمبريالية الأميركية، فإن المصالح الصينية مع كل من أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، وكلهم يتعرضون لأضرار الهيمنة الأميركية، يمكنها أن تخلق رؤية نظرية أفروأوراسية جديدة تمثل العقيدة الجامعة لكل هذه الشعوب الرافضة للهيمنة، وستحفز العلاقات والمصالح المشتركة مع الصين، القوة الاقتصادية الأكبر حالياً، صعود هذه العقيدة وانتشارها حتى في داخل الولايات المتحدة الأميركية ذاتها.

يبدو واضحاً أن الفترة الأخيرة تشهد تحركاً صينياً عملياً في هذا الاتجاه، إذ عقدت الصين مؤتمراً مع دول أميركا اللاتينية والوسطى، وكان أول منجزات هذا المؤتمر انضمام كولومبيا إلى مبادرة الحزام – الطريق الصينية، كما زار الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الصين. وتحاول الأخيرة دعم الاقتصاد البرازيلي وتطوره الصناعي لتهيئته كبديل مستقبلي للسوق الأميركي، فالبرازيل تمثل الاقتصاد الأكبر في أميركا اللاتينية، وتاسع أكبر اقتصاد على مستوى العالم، والثامن من ناحية القوة الشرائية، بالرغم من تراجعه نتيجة الفساد السياسي منذ 2014، كما أنها من المنتجين للمعادن كالحديد، والنحاس، والذهب، والبوكسيت، والنيوبيوم، إذ تحظى بنسبة 98% من الاحتياطي العالمي من هذا المعدن الذي يستخدم في صناعة السبائك الفولاذية والفائقة والمغانط فائقة الموصلية. ومع هذه الإمكانيات، فإن المسعى الصيني لدعم البرازيل سوف يكون موجهاً ضد الولايات المتحدة بكل تأكيد، في مقابل دعم الأخيرة للهند كقوة في مواجهة الصين.

ومع ذلك، تبقى التحركات الصينية مفرطة في عمليتها وقاصرة، حتى الآن، على التواصل مع الحكومات، ومن الضروري أن تتمكن من صياغتها نظرياً وتقديمها للشعوب كرؤية تجمعها المظالم أو حالات الضيم التي يكمل بعضها البعض الآخر، على حد قول بريجنسكي.إن صياغة أيدولوجيا جديدة للصين (سواء على المستوى الآسيوي أو الأفروأوراسي) كقوة عظمى صاعدة في مواجهة المحاولات الأميركية لإجهاضها، سوف يمثل ضرورة حتمية كي تتمكن من التواصل مع الشعوب الرافضة للهيمنة الأميركية والساعية للتخلص منها، ما سيمثل ضغوطاً على الحكومات، حتى المتحالفة مع الأميركيين، للتقليل من هذا التحالف أو فك الارتباط به، وزيادة شعبيتها كقوة داعمة لاستقلال هذه الشعوب وتطورها. وربما كان هذا التوقيت هو الأفضل في ظل الممارسات الأميركية المسعورة للحفاظ على موقعهم كقوة عظمى وحيدة.