الهجرة المعاكسة واهتزاز مفهوم "الملاذ الآمن لليهود" في الكيان الصهيوني

طوابير السفارة البرتغالية ليست مجرد بحث عن جواز سفر جديد، بل هي إعلان غير معلن عن فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أهم وعوده، وهي الأمن والأمان.

0:00
  • انقلاب في المعادلة الصهيونية.
    انقلاب في المعادلة الصهيونية.

شهدت "إسرائيل" في الأيام الأخيرة مشهداً لافتاً تمثّل في اصطفاف آلاف الإسرائيليين أمام مبنى السفارة البرتغالية في منطقة رامات هشارون، سعياً للحصول على موعد يتيح لهم تقديم طلبات للحصول على الجنسية البرتغالية أو تجديد جوازات سفرهم الأوروبية.

الصورة التي التقطتها وسائل الإعلام الإسرائيلية أظهرت سيلاً بشرياً ممتداً إلى مواقف السيارات تحت الأرض، وهو مشهد غير عادي لدولة تقوم على فكرة مفادها أنها الملاذ الآمن والنهائي لليهود في العالم. 

هذه الظاهرة لم تشكل حدثاً معزولاً، بل جاءت تتويجاً لموجة متصاعدة من طلبات الهجرة أو الهروب الاحتياطي التي تفاقمت بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، وفي ظل حرب الإبادة المستمرة التي تشنها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين، وعلى جبهات أخرى، بالتوازي مع انعدام الاستقرار الداخلي وتصاعد الخوف من المستقبل.

لكنه في الوقت ذاته يمثل لحظة كاشفة في التاريخ السياسي والاجتماعي للكيان الصهيوني، حيث تتصدع فيها سردية مؤسِّسة استُخدمت لعقود طويلة لتبرير وجود الدولة وسياساتها، وهي سردية "الأمان المطلق لليهود".

انقلاب في المعادلة الصهيونية

الجدير بالذكر أن الحدث شكّل يوماً استثنائياً، إذ فتحت فيه السفارة البرتغالية في "تل أبيب" أبوابها للمتحدرين من أصول برتغالية للتقدم للحصول على فيزا للهجرة إلى البرتغال تحت شعار "الأيام القديمة الجيدة تعود".

وكانت المفاجأة أن امتلأت الساحة بآلاف الباحثين عن جواز سفر أوروبي. اللافت في الأمر أن إعلان السفارة كان موجهاً بالأساس لـ"المواطنين البرتغاليين"، لكن الجمهور الغالب الذي توافد إلى السفارة كان من الإسرائيليين الذين يريدون التوجه والإقامة في البرتغال مستفيدين من قانون 2015 الذي يمنح اليهود المتحدرين من السفارديم البرتغاليين الحق باستعادة الجنسية البرتغالية.

أما بالنسبة إلى الدوافع، فهي لم تكن فقط اقتصادية بسبب انخفاض أكلاف المعيشة في البرتغال وانخفاض كلفة التعليم في جامعاتها، بل إن العامل الأساس كان حاجة الإسرائيليين إلى الشعور بالأمان، وخصوصاً بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 وسعيهم للحصول على جواز سفر ثانٍ غير الجواز الإسرائيلي.

منذ 7 أكتوبر، ارتفعت معدلات الهجرة والبحث عن "جواز سفر احتياطي" إلى مستوى غير مسبوق. وتقدّر بعض الدراسات أن ما بين 125 ألفاً و200 ألف إسرائيلي غادروا الكيان نهائياً منذ 2022 وحتى 2024، وهو رقم مرشح للارتفاع في ظل استمرار الحرب واتساع الشعور بعدم الاستقرار، إضافة إلى الخوف من المستقبل في ظل تصاعد ما يعتبرونه تهديدات داخلية وخارجية وعدم قدرة الحكومة الإسرائيلية على ضمان أمن الصهاينة.

وتشكل هذه الظاهرة ضرباً للأساس الذي قام عليه الكيان الصهيوني، إذ بنت الصهيونية السياسية خطابها على أساس أن اليهود في أوروبا والعالم يعيشون في حالة لا-أمن، وأن الحل الوحيد هو إقامة دولة قومية توفر لهم ملاذاً نهائياً. هذه الفكرة ترسخت بقوة بعد المحرقة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية، وشكلت الركن الرئيسي من وعيهم الجماعي بعد تأسيس الكيان عقب اغتصاب أرض فلسطين في العام 1948، لكن اليوم، وبعد مرور 76 عاماً على إقامة الكيان، فقد بات الصهاينة أمام مفارقة، إذ إنهم باتوا يجدون في إسرائيل مقراً غير آمن، وباتوا يقفون في طوابير طويلة ليحصلوا على جواز سفر من إحدى الدول التي هرب منها أسلافهم قبل 500 عام، وهي البرتغال. وقد بات خوف الصهاينة المقيمين في الكيان أقوى من الإيمان بالسردية الصهيونية التي تعد بتأمين الأمن عبر القوة العسكرية وشن الحروب ضد الدول العربية.

والمفارقة ليست بسيطة؛ فإذا كانت السردية الصهيونية تقوم على أن أوروبا هي الأرض المضطهدة والطاردة لليهود تاريخياً، وأن "إسرائيل" هي الملاذ لهم، فإن المشهد الحالي يشير إلى انقلاب جذري في الاتجاهات، إذ أضحت أوروبا، ولا سيما دول مثل البرتغال وألمانيا وفرنسا، الوجهة المفضلة لليهود الباحثين عن ضمان أمنهم الشخصي، فيما أصبح الكيان هو مصدر التهديد الرئيسي بالنسبة إليهم.

الأسباب الرئيسية لزعزعة مفهوم "الملاذ الآمن

يشهد المجتمع الإسرائيلي تآكلاً غير مسبوق في الثقة بمؤسسات الدولة الأمنية والسياسية، فأحداث 7 أكتوبر مثلت صدمة وجودية هزت الإيمان بقدرة الكيان الصهيوني على حماية المستوطنين.

ولأول مرة منذ عقود، ظهر شعور لدى المستوطنين بأنّ الكيان لا يشكل ضمانة للحياة بالنسبة إليهم. وما يزيد من الشعور باللااستقرار هو الانقسامات العمودية الحادة في المجتمع الصهيوني بين العلمانيين والمتدينين، وبين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين اليمين واليسار، والتي وصلت إلى مستويات خطيرة. وعوضاً عن أن تكون إسرائيل “موحداً قومياً”، أصبحت ساحة صراع هوياتي، ما جعل الأمن الشخصي أقل ارتباطاً بـ"هوية الدولة" وأكثر ارتباطاً بخلاصه الفردي.

مع استمرار الحرب في غزة، وتصاعد التوتر مع حزب الله، وانكشاف هشاشة الجبهة الداخلية، أصبح احتمال اندلاع حرب إقليمية واسعة أحد دوافع القلق والهجرة، وخصوصاً لدى الفئات الشابة والعائلات الصغيرة في صفوف المستوطنين.

وما يزيد من الدوافع للهجرة المعاكسة في صفوف المستوطنين هو الأداء السيئ للاقتصاد الصهيوني الذي يشهد نسب تضخم عالية وارتفاعاً كبيراً في أسعار العقارات بالتوازي مع تدهور جودة الحياة في الكيان، ما جعل أوروبا تصبح خياراً أكثر جاذبية بالنسبة إلى عدد كبير من المستوطنين الصهاينة. 

تجدر الإشارة إلى أن فكرة الملاذ الآمن شكلت الأساس الذي قام عليه المشروع الصهيوني. ومن دون هذه الفكرة، فإن الكيان الصهيوني يفقد مبرر وجوده ويزول حتى من دون حرب.

وتكشف الوقائع أن المجتمع الاستيطاني داخل الكيان الصهيوني لم يعد يرى في هذا الكيان ضماناً لأمنه، ما يجعل "إسرائيل" واحدة من خيارات عدة يمكن أن يلجأ إليها اليهودي.

بالتالي، فإن سعي الإسرائيليين للحصول على جوازات أخرى، من البرتغال أو ألمانيا أو كندا أو الولايات المتحدة، يعبّر عن قناعة متزايدة بأن الأمن في "إسرائيل" لم يعد بديهياً، وأن المشروع الصهيوني، رغم قوته العسكرية الكبيرة، لم يعد يشكل ضمانة لأمن المستوطنين. 

إن هجرة الإسرائيليين اليوم لا تشكل حدثاً فردياً، بل هي مؤشر على تحوّل تاريخي، فالدولة التي تأسست على حجّة أن فلسطين هي المكان الوحيد الآمن لليهود، تشهد اليوم حركة معاكسة.

فاليهود يعودون إلى أوروبا، أو يسعون للعيش فيها مستقبلاً، لأنها باتت أكثر استقراراً من "إسرائيل". هذا المسار يوازي ما حدث في جنوب أفريقيا خلال نهايات حكم الفصل العنصري، حين بدأت النخب البيضاء بالبحث عن “جوازات بديلة”. في نهاية المطاف، كانت تلك الموجة من الهجرة أحد مؤشرات سقوط نظام الفصل العنصري في بريتوريا.

 تآكل ثقة المستوطنين

رغم أن الكيان الصهيوني لا يزال يمتلك تفوقاً عسكرياً على العرب والمسلمين مجتمعين، فإنَّ التفوق العسكري لا يعوض غياب الأمن الاجتماعي والنفسي والسياسي، فالأمن، في النهاية، ليس مجرد قدرة على الردع، بل هو شعور جماعي بالاستقرار، وهذا الشعور بات مفقوداً داخل إسرائيل، كما لم يحدث منذ قيامها.

من هنا، فإن المشهد الذي بثته وسائل الإعلام الإسرائيلية لآلاف المستوطنين الذين يقفون في طابور طويل قبل الفجر للحصول على فرصة مغادرة محتملة لا يشكل مجرد ظاهرة اجتماعية، بل يشكل حدثاً سياسياً بامتياز.

إنه يعكس تآكل ثقة المستوطنين بالكيان، ويعري سردية الأمن الصهيونية، إذ تحولت إسرائيل من ملاذ آمن إلى مصدر للتهديد. كذلك، فإنه يعكس صعود الثقافة الفردية على حساب الهوية القومية، ما يجعلنا نستنج أن المجتمع الإسرائيلي دخل مرحلة ما بعد الصهيونية، حيث يبحث الأفراد عن خلاصهم الشخصي بعدما فشلت "الدولة" في تقديم الخلاص الجماعي.

لذا، فإن طوابير السفارة البرتغالية ليست مجرد بحث عن جواز سفر جديد، بل هي إعلان غير معلن عن فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أهم وعوده، وهي الأمن والأمان، وهذا الفشل يشكل أكبر خطر على مستقبل إسرائيل، لأنه يمس الأساس الذي قام عليه هذا الكيان، فإذا سقط هذا الأساس، تسقط معه شرعية المشروع الصهيوني برمّته.