بين طريق الحرير وطريق التوابل
لعالم في الفترة الأخيرة يشهد العديد من الاصطفافات وإعادة التموضع بناءً على مشروعَي طريق الحرير الصيني (مبادرة الحزام والطريق) وطريق التوابل الهندي (المدعوم من الولايات المتحدة).
-
يذكر التاريخ أن أحداثه اقترنت بالتسابق بين الدول الكبرى والصغرى للسيطرة على طرق التجارة.
يخطئ من يظن أن الجغرافيا والتاريخ لا يحضران ويفرضان تداعياتهما على الواقع الحاضر، بل وعلى المستقبل كذلك، وتمثل الصراعات الحالية التي تشغل العالم الدليل الأكبر على مدى قوة هذا الحضور وفاعليته في توجيه السياسات الدولية.
يذكر التاريخ أن أحداثه اقترنت بالتسابق بين الدول الكبرى والصغرى للسيطرة على طرق التجارة، وقد تفرعت هذه الطرق من طريقين أساسيين: الأول، طريق الحرير والذي ينطلق من الصين. الثاني، طريق التوابل المنطلق من الهند.
من المؤكد أن كلا الطريقين كانا يتداخلان إلى حد كبير في معظم المناطق التي يمران بها، فالهدف الأساسي هو إيصال البضائع من الشرق إلى الغرب. وعلى طول الطريقين نشأت العديد من الطرق الفرعية والتي شهدت قيام إمبراطوريات وممالك مع شهرة طريق تجاري ما، أو سقوطها عندما تتم المنافسة عليه مع مملكة أخرى أو تراجع الاهتمام به واستبداله بطريق آخر.
يشير التاريخ إلى أن دولة عربية جنوبية كمملكة سبأ قامت بالأساس على احتكار بحارتها للملاحة التجارية في المحيط الهندي والبحر الأحمر لنقل البضائع من الهند والصين إلى أوروبا، سواء بواسطة التجار اليمنيين أنفسهم أو عبر وسطاء التجارة من القبائل العربية من ناحية البر، أو الفينيقيين والآراميين وحتى العرب الأنباط لاحقاً.
وقد تعرضت هذه المملكة العربية اليمنية إلى خسائر كبيرة عندما سعى البطالمة في مصر للسيطرة على طرق التجارة المتوجهة إليهم سواء عبر البحر الأحمر أو عبر الطرق البرية[1]، وتوّجت محاولاتهم بنجاح البحار البطلمي المصري هيبالوس في اكتشاف طرق الإبحار إلى الهند في القرن الأول قبل الميلاد الأمر الذي قلل من قيمة طرق القوافل البرية[3]، والتي سعى الأنباط بدورهم للسيطرة عليها ودخلوا في صدامات مع البطالمة للسيطرة على الطرق البحرية، وقد أدت هذه المنافسات إلى سقوط الدولة السبئية في سنة 115 م، وبزوغ نجم الحميريين الذين استفادوا من تحوّل طرق التجارة من الصحراء إلى البحر الأحمر.
في هذه المرحلة المعاصرة، يبدو أن الصراع بين طريق الحرير المنطلق من الصين، وطريق التوابل المنطلق من الهند قد عاد للتشكل مرة أخرى وإن كان في صورة جديدة، وبينما كان التسابق والصراع سابقاً على سيطرة الإمبراطوريات على الطرق الرئيسية والفرعية للطريقين، فالصراع في الوقت الحالي يقتضي أن يلغي أحد الطريقين الآخر، لأنه يعدّ في الواقع صراع وجود للعديد من الكيانات.
لقد سقط الشرق العربي في المنتصف ما بين مراحل الطريقين، فطريق الحرير سينطلق من الصين براً عبر باكستان وأفغانستان إلى إيران ومنها عبر أرمينيا وجورجيا لسان بيترسبورغ في روسيا ثم إلى أوروبا، ومؤخراً طرحت فكرة وجود آذربيجان في المسار كذلك. أما الجانب البحري فمن المتوقع أن ينطلق من إيران إلى اليمن والبحر الأحمر ثم قناة السويس ومنها إلى أوروبا. وهناك الطريق الشمالي الذي ينطلق من موانئ الصين إلى موانئ روسيا في المحيط القطبي الشمالي، ومنه إلى شمال أوروبا وشمال أميركا. بالإضافة إلى طرق فرعية أخرى مثل الطريق البحري من الصين إلى شرق أفريقيا والطريق البحري من الصين عبر المحيط الهادئ إلى غرب أميركا الجنوبية.
أما طريق التوابل، والذي كان سابقاً ذا طبيعة بحرية بالأساس، فقد تم إحياؤه عبر الاتفاق الذي وقع بين ترامب ورئيس الوزراء الهندي في كانون الثاني/يناير الماضي، وسوف ينطلق من سواحل الهند عبر البحر إلى الإمارات ومنه عبر البر بواسطة الطرق والسكك الحديدية إلى الأردن وميناء حيفا، ثم إلى قبرص اليونانية ومنها إلى اليونان وأوروبا. وبالطبع، هناك طريق آخر سوف يتم اتباعه بين الهند وشرق أفريقيا ومنه إلى الأميركيتين الجنوبية والوسطى، حيث تعتمد الهند على الكثافة الهندوسية في بعض البلدان في أفريقيا كمورشيوس وفي أميركا الوسطى.
إن قراءة الخريطة الجيوسياسية تشير إلى أن كل الصراعات التي تنشب في العالم حالياً، وبغض النظر عن المبررات الأخلاقية، هي في الواقع الصراعات نفسها للسيطرة على طرق التجارة منذ القدم، خصوصاً أن سيادة مشروع طريق الحرير مثلًا سوف تؤدي إلى تراجع أهمية الولايات المتحدة الأميركية وسطوتها، وتعيد الصين إلى صدارة المشهد التجاري مرة أخرى، إذ سيربط القارات بروابط تجارية متشعبة، لن تملك الولايات المتحدة أمامها إلا حلين أحلاهما مر: إما المشاركة كدولة كبرى لكن ليست عظمى، أو المواجهة ما يؤدي إلى عزلتها السياسية وسقوط هيمنتها بالكامل.
أما طريق التوابل الهندي، وبحسب مساراته المعلنة، فهو يسعى لتحقيق أكثر من هدف:
1- تحويل الهند إلى قوة كبرى يمكنها التصدي للقوة الصينية الصاعدة، خصوصاً أنها تمتلك إمكانات بشرية تؤهلها لهذا الدور مستقبلاً.
2- تثبيت الوضعين الاقتصادي والسياسي للكيان الصهيوني في الشرق العربي.
3- إسقاط الأهمية الكبرى لقناة السويس لتحييد الدور المصري، عربياً وأفريقياً، مقابل الدور الصهيوني والإماراتي والسعودي.
4- تحييد دور إيران الإقليمي والقضاء على حركات المقاومة، 5- تحجيم الدورين الصيني والروسي.
الواقع أن الصراع على هذه المسارات التجارية سوف يؤدي إلى تغيير عدد من الاصطفافات، فمحاولة تحييد مصر وإيران من قبل الأميركيين عبر طريق التوابل أدت إلى تقارب يتسارع بين البلدين، كما أدى إلى تغيير باكستان موضعها السياسي لتنضم إلى الجانب الصيني في الصراع مع الولايات المتحدة.
ماذا عن الموقف التركي؟
من المعروف أن أحد أسباب الدعم التركي لأذربيجان في مواجهة أرمينيا، ثم تبنّيها مشروع ممر زانجزور الذي يربط بين أذربيجان وإقليمها ذي الحكم الذاتي نختشيوان، واحتجت عليه إيران كونه يغلق الحدود بينها وبين أرمينيا، كان محاولة فرض وجودها على مسار طريق الحرير، وقد نجحت في ذلك بالفعل، لكن في المقابل، برزت في الآونة الأخيرة فكرة الجانب البري من طريق التوابل الهندي، والذي ينطلق برياً من شمال الهند عبر آسيا الوسطى حتى تركمانستان ثم عبر بحر قزوين إلى أذربيجان ثم أرمينيا وجورجيا ثم تركيا ومنها إلى أوروبا، وهنا فقد برزت ضرورة تأمين طريق التوابل من الهند إلى أوروبا وأميركا من احتمالات تعرضه لمخاطر الدول الرافضة للهيمنة كإيران، والحركات المقاومة كحزب الله وأنصار الله والمقاومة الفلسطينية.
في شهر أيار/مايو الماضي، خاطب السفير الأميركي الجديد في تركيا توماس باراك الإعلاميين الأتراك بكلمة أوضحت تماماً الدور الذي يريد الأميركيون من الأتراك القيام به: " تركيا كانت دوماً نبض وقلب طريق التوابل وطريق الحرير، كانت دائماً نقطة التواصل بين الثقافات والأديان والأعراق، وبين التجارة التي تسير من الشرق إلى الغرب وبالعكس. وأنا أؤمن بأن تركيا يمكنها أن تعود مجدداً لتكون مركزاً جديداً لطريق التوابل، ومركزاً للطاقة، وللإنتاج، ولشبكات النقل "، ويكمل باراك " كطريق توابل جديد، يمكن لتركيا أن تصبح مركزاً لتوريد مزيد من الغاز إلى أوروبا، عبر محطات توزيع الغاز. وستوفر لأوروبا درعاً إضافياً في مواجهة التدخل الروسي. كما أن تركيا من خلال شراكاتها مع شركات الدفاع والطيران الأميركية، تلعب دور الواجهة الاستراتيجية الدولية، بل ويمكنها أيضاً أن تبعد الصين ومبادرة الحزام والطريق مؤقتاً عن الساحة ".
أثارت كلمة السفير الأميركي في تركيا انتباه المحللين السياسيين الأتراك، إذ اعتبر الصحفي ندرت أرسانيل أن المهمة التي تتصور الإدارة الأميركية تكليفها لتركيا ستسيطر على العلاقات بين الجانبين طوال السنوات الثلاث القادمة، مؤكداً أنها تشرح ما يجري في أوكرانيا وسوريا ومع الكيان الصهيوني، وتشرح كذلك ما جرى بخصوص إيران والعراق. وبحسب الصحفي التركي، فإن أحد أسباب إشعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، هو تعطيل الطريق العلوي من الصين إلى أوروبا، أما الطريق السفلي الذي سيصل إلى إيران والعراق ثم سوريا فقد تعطل كذلك نتيجة الوجود الأميركي في الخليج واشتعال الحرب الأهلية في سوريا ثم الحرب بين المقاومة والكيان الصهيوني، ولم يبق سوى الطريق الأوسط.
الواقع أن تركيا رفضت الانضمام إلى مسارات طريق التوابل البري الجديد، كونه يقطع الطريق على الطريق المزمع إنشاؤه مع العراق والذي أطلقت عليه اسم " طريق التنمية "، لكن مع كلمة السفير الأميركي، فإن أمام تركيا احتمالين: إما قبول الانضمام إلى مشروع طريق التوابل، وبالتالي دمج طريقها المشترك مع العراق ضمن هذا المشروع الكبير، وإما أن ترفض وتستمر في محاولاتها إيجاد موقع مهم في مبادرة الحزام والطريق الصينية أو ما يسمى طريق الحرير. لكن، من الواضح أن إردوغان حسم خياراته بقبول المشروع الأميركي، وبالتالي الوقوف كمركز متقدم للولايات المتحدة والغرب في مواجهة كل من روسيا والصين، والعمل كذلك على تفكيك إيران وفصل أذربيجان الإيرانية عنها لتنضم إلى أذربيجان المستقلة. ويشمل هذا المشروع دوراً تركيا في آسيا الوسطى والبحر الأسود والقوقاز وسوريا والعراق وحتى القارة الأفريقية بالمشاركة مع الإمارات ودول الخليج، والكيان الصهيوني بالطبع.
على أن قبول الأتراك أن يكونوا رأس حربة في هذا المشروع الأميركي يعني إعادة صوغ العديد من علاقاتهم، فمن المؤكد أن علاقات الأتراك الجيدة جداً مع باكستان سوف تتأثر سلباً في مقابل تطور العلاقات التركية مع الهند التي تميزت سابقاً بالبرود، بالإضافة إلى ضرورة إعادة إحياء قضية الإيغور في سينكيانغ أو (تركستان الشرقية) كما يحب الأتراك تسميتها لإيجاد مسار بري من الهند وحتى آسيا الوسطى، بحيث يتم تحييد دور الصين وباكستان وأفغانستان وحصارهم.
الموقف الأوروبي
من الواضح أن الاتحاد الأوروبي قد قرر أن يدلو بدلوه في هذا الصراع الذي انحاز فيه الأوروبيون إلى الولايات المتحدة، ففي نيسان/أبريل الماضي عقدت قمة في سمرقند بأوزبكستان (العاصمة القديمة لتيمورلنك قاهر الروس) بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى، وهدفت القمة إلى إدماج دول آسيا الوسطى في المشروع الأوروبي مبادرة البوابة العالمية الذي يحشد استثمارات تزيد على 300 مليار يورو من التمويلات العامة والخاصة لتطوير البنية التحتية العالمية بين عامي 2021 و2027، في التحوّل المناخي والتحوّل الرقمي، فضلاً عن الصحة والتعليم والبحث العلمي، بالإضافة إلى تمويل مجموعة من المشروعات في النقل بـ3 مليارات يورو، والمواد الخام الحيوية بـ2.5 مليار يورو، والمياه والطاقة والمناخ بنحو 6.4 مليار يورو.
وبالرغم من أن دول آسيا الوسطى حافظت دائماً على علاقاتها القوية مع الصين، الشريك الاقتصادي الأول لها، وكذلك مع روسيا، فإنها استفادت بالتأكيد من اشتعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فقد قدم الاتحاد الأوروبي 10 مليارات يورو لتطوير الممر الأوسط المعروف بممر بحر قزوين الذي يربط الصين بأوروبا عبر تركيا، بهدف توريد الطاقة والمعادن الحيوية التي تتوفر بكثافة في آسيا الوسطى، ما يشير إلى محاولة تجاوز الصين كدولة منتجة لهذه المعادن، ورغبة الدول الأوروبية في التواصل مع الصين كدولة كبيرة وليس كقوة عظمى، وهو في النهاية يصب في محاولة تجاوز الدورين الروسي والإيراني، وتحجيم النفوذ الصيني المتصاعد، بمعنى إيجاد موقع للاتحاد الأوروبي كحليف للولايات المتحدة وليس كتابع. لكن، من الضروري الإشارة إلى أن هذا التوجه الأوروبي المتصاعد منذ اشتعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا سوف يتم عبر النفوذ التركي ويدعمه، ما يضع كثيراً من علامات التساؤل حول احتمالية اشتعال مشكلتي الإيغور في سينكيانغ والتبتيين في هضبة التبت غرب الصين.
موقف دول رفض الهيمنة الأميركية
قد تفسر هذه الصورة التي بدأت تتشكل الدعم الصيني والباكستاني بالإضافة إلى كوريا الشمالية للجمهورية الإسلامية في مواجهتها الأخيرة مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، والتي أعلن رئيس حكومة العدو الصهيوني أنها تهدف إلى إسقاط النظام في إيران بالاعتماد على دور بعض الحركات الانفصالية، وهو ما فشل العدو الصهيوني في تحقيقه، لكن من المؤكد أن هذه المحاولات سوف تستمر ولن تتوقف، وهو ما يفرض على هذه الدول نوعاً من توحّد المواقف في الفترة القادمة للحفاظ على مشروعها في مواجهة الهيمنة الأميركية، فسقوط إيران يعني عملياً انتهاء الطريق السفلي والأوسط في مبادرة الحزام والطريق، وسقوط روسيا يعني انتهاء الطريق العلوي، وهنا ستجد الصين نفسها محاصرة تماماً.
الموقف المصري
يبدو أن القادة المصريين قد أدركوا مخاطر مشروع طريق التوابل الجديد الذي يقضي على الدور المصري، العربي والأفريقي، لمصلحة الأدوار الصهيونية والتركية والخليجية، وبالتالي شهدت الفترة الماضية تحسناً واضحاً في العلاقات المصرية مع إيران، كما دعم المصريون الموقف الإيراني في مواجهة الكيان الصهيوني وأميركا، بالإضافة إلى العلاقات العسكرية المتصاعدة بين مصر والصين، واشتراك هذه الدول مع مصر في دعم الجيش السوداني في الحرب الأهلية ضد قوات "الدعم السريع" المموّلة من الإمارات. ومن الممكن القول إن الموقف المصري صار أقرب إلى موقف الدول الرافضة للهيمنة الأميركية.
إذاً، العالم في الفترة الأخيرة يشهد العديد من الاصطفافات وإعادة التموضع بناءً على مشروعَي طريق الحرير الصيني (مبادرة الحزام والطريق) وطريق التوابل الهندي (المدعوم من الولايات المتحدة)، وسوف تتشكل كتلتان ستتقارب دولهما كثيراً، وربما تجبرها ظروف الصراع إلى التحالف العسكري لاحقاً مع احتمالات تفجر الأوضاع عسكرياً، لكن قبل هذا الانفجار الكبير فإننا يمكن أن نعدّ الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والحرب في فلسطين ولبنان والهجوم على الجمهورية الإسلامية، وحتى الحرب الباكستانية-الهندية الخاطفة، مجرد مقدمات لهذا الانفجار المتوقع، خصوصاً لو نفذت الصين تهديداتها وقامت فعلاً بهجوم عسكري على تايوان وضمتها إلى سلطتها، بما يعني سيطرتها بشكل كامل على بحر الصين، والإمكانيات التكنولوجية والصناعية التي استثمرها الأميركيون والغرب في تايوان.