حكّام سوريا الجدد وتحدّيات بناء الدولة...
الحج الدبلوماسي إلى دمشق قد لا يكون معبّراً بالضرورة عن حالة الفرح والنشوة التي تشعر بها تلك الدول نتيجة لسقوط نظام الأسد، لكنه يعبّر بكلّ تأكيد عن مخاوف تلك الدول ورغبتها في أن يكون لها حصة من الكعكة السورية.
لا يمكن اختصار ما حدث في سوريا بسقوط النظام الحاكم فيها ووصول نظام آخر، نظراً لما لسوريا من أهمية في لعبة توازنات القوى الإقليمية والدولية. فأهمية سوريا تكمن في كونها، ولعقود خلت، قد شكّلت "بيضة القبّان"، في عدد من الصراعات، وفي مقدّمتها الصراع العربي الصهيوني.
صحيح أنّ سوريا لم تقاتل وحدها، لكنها كانت عاملاً حاسماً في منع التوصّل إلى اتفاق سلام حقيقي بين "إسرائيل" وباقي الدول العربية وفي مقدّمتها لبنان. فخشية سوريا من استفراد "إسرائيل" بها دفعتها إلى تأدية "دور المعطّل"، لأيّ تقارب إسرائيلي عربي، معتمدة في ذلك على الرأي العام العربي الذي لا يزال يرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، ويؤمن بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
الشعارات الكبرى التي رفعتها سوريا بقيت مجرّد شعارات، وكان من الواضح أنه لا يمكن التفكير في احتمالية تحقيقها، حيث بات ذلك ضرباً من الخيال. فشعار "وحدة الأمة العربية" الذي بقينا نردّده في مدارسنا وأدبيّاتنا، انتهى بنا المطاف إلى تحويله إلى مجرّد الحديث عن وحدة سوريا، بعد أن بات تقسيمها أقرب إلى الأمر الواقع.
وشعار "الحرية" انتهى بنا للوصول إلى المعتقلات لمجرّد طرح فكرة أو رأي لا ينسجم مع توجّهات الفئة الحاكمة التي أبدعت في كمّ أفواه السوريين، وكانت السبّاقة في ابتكار ما يسمّى بـ "قانون الجريمة الإلكترونية"، الذي كان سيفاً مصلتاً على رقاب الكتّاب والمثقّفين وحوّل العديد منهم إلى "مجرمين" لمجرّد نشرهم فكرة أو رأياً على صفحتهم على الفيسبوك.
أما "الاشتراكية" فقد بقيت شعاراً مطروحاً، بينما الواقع وصل حدّ نهب اقتصاد الدولة ونقل ملكية العديد من مؤسساتها إلى عدد من الأشخاص الذين كانوا مجرّد واجهة ومديري أعمال للرئيس الهارب وزوجته. فوصول النظام السابق إلى ما وصل إليه قد يبدو منطقياً من حيث النتيجة، في ظلّ وصول الشعب إلى "قطيعة نفسيّة معه"، حتى في المناطق التي كانت تشكّل بيئة حاضنة وداعمة له.
وفي ظلّ تراجع ثقة حلفائه به، فقد سعى ولسنوات إلى انتهاج سياسة القفز على الحبال، ومحاولة الجمع بين ما لا يجمع، أملاً منه في الحصول على "طوق النجاة"، مهما كان الثمن.
لست هنا بصدد الحديث عن أخطاء النظام وسياساته، فالجميع يعرفها، كما أنّ الحديث عنها يحتاج إلى عدة مجلّدات، لكنّ المهم بالنسبة لي قراءة الحدث السوري والتركيز على ارتداداته على المنطقة والعالم.
الحدث السوري وارتداداته على المنطقة..
لم تكن سوريا لاعباً دولياً بكلّ تأكيد، لكنها برعت في أن تكون لاعباً إقليمياً، نظراً لما تتمتّع به من مكانة وأهمية، باعتبارها قلب الأمة العربية، ولأنّ الصراع الإسرائيلي معها رتّب على باقي الدول العربية التزامات تجاهها، حتى باتت تلك الالتزامات نوعاً من "الحقّ المكتسب"، من وجهة نظر القيادة السورية السابقة.
ترتبط سوريا سياسياً بروابط تاريخية مع باقي الدول العربية، أما الشعب السوري فلا يرى نفسه سوى جزء من الأمة العربية، يؤثّر ويتأثّر بها، وهي حقيقة تاريخية تجعل ما يحدث في دولة عربية ينتقل إلى غيرها من الدول.
"نظرية الدومينو" تنطبق وبشكل كبير على المشهد العربي، فما حصل في تونس انتقل إلى غيرها من الدول العربية، رغم كلّ محاولات منعه.
في البداية حاول النظام السابق منع تكرار المشهد التونسي في سوريا، فكانت نهايته هي الأقرب إلى نهاية الرئيس التونسي (الفرار)، مع فارق أنه لم يغادر سوريا إلا بعد تدميرها، في حين غادر زين العابدين بن علي مبكراً، وجنّب تونس المزيد من سفك الدماء.
اليوم، ونتيجة لما حدث في سوريا فمن واجب العديد من الدول العربية أن تقلق، وفي مقدّمة تلك الدول الأردن والعراق ومصر والإمارات والمملكة العربية السعودية. فمصر وسوريا على سبيل المثال كانتا دولة واحدة، ليس في زمن الوحدة التي قادها جمال عبد الناصر فقط، بل إنّ وحدتهما استمرّت 650 عاماً قبل ذلك، منذ أحمد بن طولون. والاحتلال العثماني هو من فكّك وحدة مصر وسوريا الكبرى، واليوم تركيا حاضرة بقوة في المشهد السوري، وهو ما يزيد من مخاوف الحكومة المصرية التي جاءت على أنقاض الإخوان المسلمين.
كذلك يشكّل السلفيون نسبة لا يستهان بها من الشارع الأردني، ولديهم الكثير من المطالب والملاحظات على النظام الرسمي فيها. أما السعودية فتشعر بالكثير من القلق من المعارضة "الشيعة" الموجودة في شرق المملكة، ويأمل الأمير محمد بن سلمان في تحقيق انتقال سلس وهادئ للسلطة، باعتباره سيكون أوّل ملك ليس من أبناء عبد العزيز.
كذلك الإمارات لديها مخاوف من تزايد النفوذين التركي والقطري في سوريا الجديدة، وتخشى نجاح أيّ نموذج ذي مرجعية دينية في إدارة أيّ دولة عربية. أما العراق فهو أكثر قلقاً باعتباره جزءاً من محور المقاومة الذي تقوده إيران، وسوريا كانت على الدوام جزءاً لا يتجزّأ منه.
الرابحون والخاسرون مما حدث في سوريا...
لا شكّ أنّ إيران وروسيا هما أكبر الخاسرين مما جرى في سوريا باعتبارهما كانتا الداعمتين الأساسيتين للنظام فيها. فالمشكلة بالنسبة لكلتا الدولتين أنّ الأسد بات عبئاً عليهما، كما أنه لم يعد حليفاً موثوقاً وبات كذبه حقيقة لا يمكن إغفالها أو تجاوزها. فتقارب الأسد مع الدول العربية كان على حساب طهران بكلّ تأكيد، وانكفاؤه عن أحداث غزة كان دليلاً على ذلك.
تغيّر الأوضاع في الداخل الإيراني منذ اغتيال الرئيس إبراهيم رئيسي وتزايد الاستهدافات الإسرائيلية للقوات الإيرانية داخل سوريا عزّز مخاوف طهران، فهي لم تقتنع أنّ من يعطي لـ "إسرائيل" أحداثيات قواتها وأماكن وجود مستشاريها بعيداً عن السلطة وصناعة القرار في سوريا، ولم يكن مقنعاً بالنسبة للإيرانيين تحميل لونا الشبل وحدها تلك المسؤولية.
رغم اهتزاز ثقة طهران بالأسد، لكنها كانت مضطرة للتعاون معه، إلا أنها لم تعد مستعدة للدفاع بشكل مباشر عنه، وفضّلت أن يقتصر دورها على الدعم والإسناد للجيش السوري.
أما روسيا اليوم فلم تعد هي ذاتها في العام 2015 حين اتخذت قرار التدخّل في سوريا، وباتت الأزمة الأوكرانية هي المحدّد الأوّل لسياساتها وتوجّهاتها.
الموقف الروسي منذ البداية كان يتمحور حول فكرة منع إسقاط الدولة السورية، وأنها ليست متمسّكة بشخص الرئيس الأسد، لذا فقد طالبته مراراً بالوصول إلى حلّ سياسي، عملاً بالقرار 2254 الذي كانت من الموافقين عليه. كما أن روسيا باتت اليوم بحاجة للتوصّل إلى توافقات مع تركيا، لما لتركيا من أهمية في معادلة الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا.
رغم أهمية سوريا بالنسبة لموسكو إلا أنها لا تشكّل شيئاً مقارنة بمصالح موسكو مع أنقرة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري في المجال الزراعي وحده 3 مليارات دولار، وحجم التعاون بين البلدين في المجال السياحي وصل إلى 15 مليار دولار، كذلك قامت موسكو بتزويد أنقرة بصواريخ أس 400، وبناء محطات ذرية لتوليد الطاقة الكهربائية، إضافة إلى التعاون بين البلدين في مجال الطاقة.
أما دول الاتحاد الأوروبي فعلى الرغم من رغبتها في إنهاء الوجود الروسي في سوريا، إلا أنها كانت تفضّل بقاء سوريا جبهة مفتوحة لمواجهة الجيش الروسي لمنعه من التركيز على الجبهة الأوكرانية وحدها.
كما أنّ نقل القوات الروسية من سوريا إلى ليبيا يشكّل عامل ضغط إضافي على أوروبا، نظراً لقرب ليبيا منها، ولخصوصية العلاقة معها، والحيلولة دون تحوّلها إلى مصدر للإرهاب من جنوب المتوسط إلى شماله.
إن ما يعني روسيا اليوم هو الحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا، لذا فقد بادرت بسحب قواتها من جميع الأراضي السورية، ومنعت طيرانها من دعم قوات الأسد في معركة حلب وحماة.
أما الولايات المتحدة الأميركية فمن المؤكّد أنّ سوريا لم تكن من أولوياتها، ولو أرادت حسم المعركة في سوريا لكرّرت المشهد الليبي واغتالت الأسد منذ البداية. كما أن الشرق الأوسط عموماً لم يعد أولوية بالنسبة لأميركا، بعد ضمانها لأمن "إسرائيل" وقدرتها على تأمين احتياجاتها من النفط ذاتياً، ورغبتها في التفرّغ لمعركتها المقبلة مع الصين.
وبعد سقوط النظام في سوريا لم تعترف الولايات المتحدة بالحكومة الانتقالية في دمشق وأعلنت أنها التقت ممثّلين عن هيئة تحرير الشام في فندق الفورسيزن وليس في القصر الجمهوري. وإن إبقاء الولايات المتحدة لقانون قيصر يؤكّد وبما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ المستهدف هو الشعب السوري لا النظام الحاكم فيها، فالنظام سقط وبالتالي لا مبرّر لبقاء تلك العقوبات سوى المزيد من الضغط على حكّام سوريا الجدد.
أما تركيا فيمكن اعتبارها أهمّ المستفيدين من سقوط النظام في سوريا، حيث أنهت بذلك أزمة اللاجئين السوريين فيها، وأوصلت إلى السلطة نظاماً صديقاً لها، على المدى القريب على أقلّ تقدير. كذلك ازدادت شعبية حزب العدالة والتنمية والرئيس إردوغان بعد أن تراجعت في الفترة الأخيرة نتيجة دعواته المتكرّرة للقاء الأسد والتي قوبلت بالرفض.
حكّام سوريا الجدد وتحدّيات بناء الدولة..
رغم نجاح هيئة تحرير الشام في إسقاط النظام السوري، إلا أنّ هناك العديد من التحدّيات أمامهم، وهناك الكثير من المخاوف التي يتوجّب عليهم تبديدها وخاصة إزاء الأقليات من أبناء سوريا. فأولى التحديات أمام الهيئة هي ضرورة إجراء مراجعات فكرية للانتقال من "فكر الجماعة" إلى "فكر بناء الدولة"، وهو ما يتطلّب تقديم العديد من التنازلات وتغليب البراغماتية السياسية على المبادئ والأصول الأيديولوجية.
لقد تعاملت "هيئة تحرير الشام" بواقعية سياسية وبراغماتية كبيرة وهو أمر يحسب لها، لكن أجواء بناء الدولة تتطلّب منها القيام بتغيير فكري وأيديولوجي، ومخاطبة العالم بلغة سياسية معاصرة. فالتخلّي عن كونها جماعة والانتقال إلى حمل منطق وفكر الدولة يحتّم عليها حلّ مشكلة الكرد وطمأنة العلويين، ومشاركة المسيحيين أعيادهم، وسوى ذلك من الإجراءات.
مع الإشارة هنا إلى ضرورة إعطائهم الوقت الكافي لذلك، وتنبيههم إلى أن الشعب السوري لم يعد يقبل الذل والاستكانة، وأنّ عليهم الاستفادة من أخطاء النظام السابق.
لقد نجحت الحكومة الانتقالية في إصدار العديد من القرارات الاقتصادية التي أدّت وبشكل سريع إلى تحسين الواقع المعيشي للسوريين، نتيجة لانخفاض أسعار العديد من السلع والخدمات، وهو ما ترك انطباعاً إيجابياً بكلّ تأكيد، لكنّ العديد من القرارات الإدارية الصادرة عن الحكومة الانتقالية في سوريا تتجاوز صلاحياتها من وجهة نظري، وترتّب أعباء على الحكومة المقبلة التي أمامها تركة ثقيلة من الفساد الاقتصادي والترهّل الإداري.
تسوية أوضاع عناصر الجيش والشرطة من أولى التحديات أمام الحكومة الحالية والمقبلة، خاصة وأن أبناء هاتين المؤسستين ليسوا جميعاً ممن تلطّخت أيديهم بدماء الشعب السوري.
كما أنّ هناك تساؤلات كبيرة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية السورية يتوجّب على الحكومة الإجابة عليها، وعلى رأس تلك التساؤلات الموقف من الجولان المحتل والقضية الفلسطينية، خاصة وأنّ "هيئة تحرير الشام" معنيّة بتحرير بلاد الشام كلها، لا سوريا فقط.
المخاوف من أن يتحوّل "الإسلام السياسي" إلى "إسلام مستسلم"، موجودة لدى البعض في سوريا، ولدى الكثيرين من أحرار الأمة. وتبديد تلك المخاوف يكون بالفعل والعمل والخطاب السياسي الهادئ، لا بلغة القوة والتعالي، فالرصاص لا يحلّ أيّ مشكلة بين الطرفين، وما تقدّمه الهيئة من خطاب هادئ وجامع يتوافق مع هذه الرؤية.
رفض هيمنة دولة ما على القرار السياسي في سوريا، يعني بالضرورة عدم نقل تلك الهيمنة إلى دولة أخرى، فالسيادة لا تتجزّأ، واحترام سيادة سوريا هو ما يجب أن يدركه الجميع. فصحيح أنّ الشعب السوري بات اليوم يتنفّس الصعداء، لكنّ الوطن السوري يحتضر، اقتصادياً وعسكرياً. فسوريا اليوم "دولة منكوبة" بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، وهو ما يضاعف من التحدّيات أمام حكّام سوريا الجدد، ويحتّم علينا تفهّم التركة الثقيلة التي تركها لهم النظام السابق.
الحج الدبلوماسي إلى دمشق قد لا يكون معبّراً بالضرورة عن حالة الفرح والنشوة التي تشعر بها تلك الدول نتيجة لسقوط نظام الأسد، لكنه يعبّر بكلّ تأكيد عن مخاوف تلك الدول ورغبتها في أن يكون لها حصة من الكعكة السورية.
مع الاشارة إلى أنّ مفهوم "السيادة" هو مفهوم نسبي، ولم يعد مفهوماً مطلقاً بالمعنى الذي تحدّث عنه جان بودان، والحكومات الناجحة هي من تحتفظ لنفسها بهامش أكبر من الحرية والقدرة على التقليل من التدخّلات الخارجية.
وختاماً:
لا بدّ من التنبيه إلى أن تغيير السلطة ليس هو آخر أهداف الثورة، وأن الحفاظ على سوريا ذات التعدّد السياسي والثقافي والطائفي أمر لا بدّ منه، عندها فقط يمكننا الحديث عن ثورة في سوريا لا ثورة عليها.
ليس في سوريا إلا القلق والخوف، وليس هناك ما يدعو للاطمئنان، فهنالك من يتربّص بثورتها ويسعى لإفشال تجربتها في إدارة الدولة. ومن المؤكّد أنّ ما حدث في سوريا سيغيّر المنطقة كلّها، ويبدو أنّ تحقيق الاستقرار في سوريا لن يكون بالأمر السهل كما اعتقد الكثيرون.