خلفيات المخاوف الأميركية من امتلاك بكين قدرات القتال الجوي الفضائي
تُشكل التطورات السريعة التي تُحرزها الصين في تكنولوجيا الفضاء تحديًا كبيرًا لواشنطن، فمن خلال التركيز على تطوير أسلحة مضادة للأقمار الاصطناعية، تُعيد الصين تشكيل مشهد الدفاع الفضائي بفعالية.
-
مناورات القتال الجوي في الفضاء.
عاد الجدل المتبادل بين القوى الكبرى على المستوى الفضائي العسكري، في التكثف مرة أخرى - رغم الملفات الدولية المتشابكة التي تتفاعل بينها، من بحر الصين الجنوبي وصولاً إلى أوكرانيا - وهو أمر يحمل في طياته تأكيداً مستمراً لأهمية الميدان الفضائي في تأطير جزء مهم من مستقبل الصراعات العسكرية خلال العقود المقبلة.
إثارة الجدل مرة أخرى حيال هذا الملف، جاءت أواخر آذار/مارس الماضي، على لسان نائب رئيس العمليات في القوة الفضائية الأميركية - التي تأسست عام 2019 - الجنرال مايكل جيتلين، الذي أشار بشكل مفاجئ إلى رصد قيام الصين بتدريبات فضائية على القتال الجوي، جرى خلالها تنفيذ مناورات وتكتيكات جوية بين خمسة أقمار اصطناعية صينية، قامت بالمناورة بأشكال مختلفة حول بعضها بعضاً، بطريقة متزامنة ومتحكم فيها.
وقد أوضحت لاحقاً قيادة القوة الفضائية الأميركية، أن عملية الرصد هذه جرت عام 2024، وشملت ثلاثة أقمار اصطناعية تجريبية من نوع "Shiyan-24C"، ومركبتين فضائيتين تجريبيتين صينيتين أخريين، من نوع "Shijian-605 A-B"، وقد قامت هذه الأجسام الخمسة بتنفيذ مناورات معقدة في مدارات منخفضة، تُعرف بمناورات "الالتقاء والتقارب"، والتي لا تقتصر على التنقل حول الأجسام الأخرى فحسب، بل تشمل أيضًا فحصها، وهو ما يجعل من احتمالية أن تكون هذه التحركات "تدريبات عسكرية" أمراً ممكناً بشكل كبير.
مناورات القتال الجوي في الفضاء
رغم أن هذه المناورات الصينية قد جرت قبل نحو عام من تصريحات نائب رئيس العمليات في القوة الفضائية الأميركية، إلا أن الإفصاح عنها في هذا التوقيت جاء ضمن سياق أساسي يرتبط برصد الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الأخيرة، عدة أنشطة فضائية تقوم بها دول أساسية في المنظومة الفضائية، مثل روسيا والصين، من بينها أيضاَ استخدام الأقمار الاصطناعية كمنصات لإطلاق أجسام مضادة للأقمار الاصطناعية، حيث سبق أن أعلنت واشنطن عام 2020، عن تنفيذ روسيا تجربة مهمة في هذا الصدد، حين لاحظ المحللون العسكريون الأميركيون، تحركات غير مألوفة للقمر الاصطناعي العسكري الروسي "كوزموس-2542"، الذي اقترب بشكل حثيث من القمر الاصطناعي العسكري الأميركي "USA-245"، ونفذ تحركات وعمليات إعادة تموضع في محيطه، ثم أطلق جسماً جوياً لم تعرف حينذاك ماهيته، واتضح بعد ذلك أن هذا الجسم كان قمراً اصطناعياً أصغر يسمّى "كوزموس-2543"، أطلق بدوره مقذوفاً متوسط السرعة نحو الفضاء.
هذه التجربة أثارت حينها قلقاً أميركياً كبيراً، نظراً لأنها قد تمثل توجهاً مستقبلياً في آليات القتال الفضائي، تتستر تحت غطاء عمليات فحص الأقمار الاصطناعية، عبر إطلاق أقمار اصطناعية أصغر تقوم بفحص التجهيزات الفنية وبدن الأقمار الاصطناعية الأكبر، وهذا ربما ما يفسر إجراء واشنطن في أيلول/سبتمبر 2017، تجربة مماثلة للتجربة الروسية، وذلك خلال الرحلة الخامسة لمكوك الفضاء "أكس-37 بي"، حيث جرى خلال هذه الرحلة التي دامت نحو 780 يوماً، إطلاق عدة مركبات جوية في مدارات عالية في الفضاء، مع تغيير المدار خلال كل عملية إطلاق.
اللافت في هذا الصدد، أن التحركات الفضائية الأميركية والصينية، دخلت عملياً بتماس مباشر في نيسان/أبريل الماضي، حين أجرى القمر الاصطناعي الأميركي "USA-324"، تحليقاً قريباً من قمرين اصطناعيين صينيين، جرى إطلاقهما في أواخر آذار/مارس وأوائل نيسان/أبريل الماضيين، وهما "TJS-16" و"TJS-17"، في تطبيق آخر لمناورات "الالتقاء والتقارب"، حيث حلق القمر الاصطناعي الأميركي، على مسافات تراوح بين 7 و10 أميال فقط من القمرين الاصطناعيين الصينيين، وهو ما مثل نقلة نوعية في دقة وقدرات تكنولوجيا الفضاء الحديثة، خاصة في ظل حدوث هذه العملية، على مدار يزيد ارتفاعه على 22 ألف ميل فوق سطح الأرض، وهو مدار تحلق فيه أقمار اصطناعية أساسية تنتمي لعدة دول.
نتائج هذا التحليق، استخلصها برنامج الوعي العالمي بأوضاع الفضاء (GSSAP)، التابع لقوة الفضاء الأميركية، وهو البرنامج الذي يتولى الدور الأساسي في رصد الأنشطة المدارية حول العالم، عبر سلسلة من الأقمار الاصطناعية، المجهزة بأجهزة استشعار وتقنيات تتبع متطورة، تسمح بالتوصل إلى بيانات حيوية حول سلوك الأجسام الفضائية الأخرى. من النقاط المهمة في هذا البرنامج، كونه منصة أساسية لمشاركة الصور والبيانات التي ترصدها واشنطن حيال الأنشطة الفضائية الصينية، مع الدول الشريكة لها في تحالف "العيون الخمس" الاستخباري، الذي يشمل إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية كلاً من بريطانيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، بهدف بناء تحالف ضد الأسلحة الفضائية الصينية المحتملة، واستخدام ما يتم التوصل إليه من بيانات، لتطوير أنظمة قادرة على إعاقة أو إتلاف الأقمار الاصطناعية، منها أنظمة ميكروويف عالية الطاقة، وأنظمة الحرب الإلكترونية المصممة لتعطيل أقمار العدو الاصطناعية.
هذه التوجهات، تمثل في جوهرها، دافعاً إضافياً لواشنطن للاستثمار بشكل أكبر في "القوة الفضائية"، التي تعتبر عملياً أحدث فروع الجيش الأميركي، ومكلفة بتنظيم وتدريب وتجهيز القوات لحماية المصالح الأميركية في الفضاء، وهو الأمر الذي جرى تأكيده مؤخراً، رغم وجود بعض الانتقادات الداخلية في واشنطن، بشان التقليص الذي شاب المخصصات المالية لهذه القوة، والتي تبلغ حالياً ما يقارب 30 مليار دولار، والتي قد لا تكفي لمواجهة الارتفاع المطرد في حجم ومستوى التهديدات الفضائية، خاصة في ظل بدء واشنطن خلال السنوات الأخيرة، في التخطيط لإنتاج أنظمة فضائية عالية التقنية، مثل "الحاملات المدارية"، وهو مبدأ يجري من خلاله إنتاج منصات مدارية يمكن من خلالها نشر طائرات من دون طيار أو صواريخ اعتراضية في الفضاء، وهو ما قد يعزز قدرة القوة الفضائية الأميركية، على مواجهة الصواريخ الأسرع من الصوت والتهديدات المضادة للأقمار الاصطناعية.
الصين ومحاولات حثيثة للحاق بالريادة في الفضاء
مما سبق، يمكن القول إنه على المستوى الاستراتيجي، باتت آراء أميركية عديدة تنظر إلى "توازن الردع" فضائياً بين واشنطن والدول الكبرى في المجال الفضائي، بعين تلاحظ تقلص فجوة القدرات الفضائية بين الجيش الأميركي وهذه الدول، وهي فجوة ظلت لعقود كبيرة تتمتع فيها واشنطن بالأفضلية، خاصة في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وحقيقة الأمر أن معظم هذه الآراء تأتي من شخصيات تعمل في صميم المنظومة الفضائية في واشنطن، على رأسها قائد قوة الفضاء الأميركية، تشانس سالتزمان، الذي حذر بوضوح أوائل الشهر الماضي، من أن برنامج الصين الفضائي المتسارع التطور، بات يُمثل تحديًا كبيرًا للهيمنة الأميركية في الفضاء.
هذه المخاوف تزايدت خلال السنوات الأخيرة، خاصة في ظل الطموح الصيني المتصاعد في المشاريع الفضائية كافة، فحتى أواخر عام 2024، تشير التقديرات إلى أن الصين باتت تمتلك أكثر من 1060 قمرًا اصطناعياً في مدارها، ما يضعها في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، ونفذت حتى الآن نحو 20 رحلة فضائية مأهولة، ضمن برنامج "شنتشو" الفضائي الذي بدأ قبل أكثر من ثلاثة عقود، وقد حددت بكين لنفسها هدف إرسال رواد فضاء إلى القمر قبل عام 2030، وهو طموح يتضمن أيضاً على المدى المتوسط، إنشاء قاعدة دائمة على القمر، ضمن مبادرة محطة أبحاث القمر الدولية (ILRS)، وهي مبادرة تقودها روسيا والصين لإنشاء قاعدة دائمة على القمر بحلول عام 2035، خاصة بعد أن تمكنت بكين من تأسيس وأطلاق محطتها الفضائية الأولى "تيانجونج" في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وهي جميعها تطورات لافتة تحمل ارتباطات بشكل أو بآخر بالجوانب العسكرية، رغم طابعها المدني البحت.
حقيقة الأمر أن بكين لم تُولِ خلال العقود السابقة، اهتماماً كبيراً بالتطبيقات الفضائية العسكرية، خاصة التكتيكات المضادة للأقمار الاصطناعية، حيث أجرت تجربتها الأولى لاعتراض الأقمار الاصطناعية، في كانون الثاني/ يناير 2007، وفيها جرى استخدام الصاروخ "SC-19"، بعد تزويده برأس حربي متشظٍّ قاتل للحركة، لاستهداف قمر اصطناعي صيني مخصص للأرصاد الجوية، يسمى "Fengyun 1C"، تم إطلاقه عام 1999، في مدار يتجاوز ارتفاعه 800 كيلو متر، وقد تمكن الصاروخ عقب إطلاقه من على متن منصة ذاتية الحركة، من تدمير القمر الاصطناعي بشكل مباشر.
ولم تتوقف التجارب الصينية في هذا المجال، ففي آيار/مايو 2013، أعلنت الحكومة الصينية عن تجربة صاروخ شبه مداري، يحمل معدات علمية مخصصة لدراسة الغلاف الجوي، لكن سادت شكوك حينها، خاصة من جانب وزارة الدفاع الأميركية، أن هذه التجربة هي ستار لاختبار منظومة صينية جديدة لاعتراض الأقمار الاصطناعية. المعنى نفسه تحدثت عنه الولايات المتحدة حيال التجربة الصينية التي جرت في فبراير 2018، وفيها تم اختبار الصاروخ البالستي العابر للقارات "Dong Feng-3"، علماً أن هذه التجربة كانت خارج الغلاف الجوي للأرض.
من الجوانب المهمة فيما يرتبط بتطور البرنامج الفضائي الصيني، وتصاعد المخاوف الأميركية من هذا التطور، التوغل الصيني في عدة دول لاتينية، وامتلاك بكين في الوقت الحالي عدة محطات للتحكم في الأقمار الاصطناعية في عدة دول بأميركا اللاتينية والكاريبي، مثل كوبا وتشيلي والأرجنتين وفنزويلا، وتحركها لامتلاك محطات في دول أخرى مثل البرازيل.
في الخلاصة، يمكن القول إنه مع اشتداد المنافسة على الهيمنة على الفضاء، بات واضحاً
أن هذا التنافس بدأ يتجاوز التطبيقات المدنية، ليشتمل بشكل كبير على التطبيقات العسكرية، وهو ما قد يؤدي في المدى المنظور، إلى إعادة تعريف ديناميكيات القوة العسكرية على النطاق الدولي.
واقع الحال أن التقدم الذي أحرزته بكين خلال السنوات الأخيرة في مجال الفضاء وتطبيقاته المختلفة، قد أعطى انطباعاً لدى واشنطن بأنها تستهدف انتزاع ريادة الولايات المتحدة في الفضاء، وهو ما قد يحدث - بحسب التقديرات الأميركية - بحلول عام 2045، في حين تشير تقديرات أخرى، إلى أن التآكل في الريادة الأميركية قد يحدث خلال السنوات الخمس المقبلة، حيث تسير الصين على الطريق الصحيح لتحقيق التكافؤ مع القوة الفضائية الأميركية في معظم المجالات الفضائية.
في الوقت نفسه، تُشكل التطورات السريعة التي تُحرزها الصين في تكنولوجيا الفضاء تحديًا كبيرًا لواشنطن، فمن خلال التركيز على تطوير أسلحة مضادة للأقمار الاصطناعية، تُعيد الصين تشكيل مشهد الدفاع الفضائي بفعالية، وقد دفعت هذه التطورات الولايات المتحدة وحلفاءها إلى إعادة تقييم استراتيجيتهم وتعزيز قدراتهم.
وعلى الرغم من توقيع روسيا والصين على معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 - التي تحظر وضع أسلحة الدمار الشامل في المدار - إلا أن عمليات تطويرهما للأنظمة الفضائية ذات الاستخدامات العسكرية، وكذا استخدام روسيا لحق النقض ضد قرار الأمم المتحدة لعام 2024، الذي يؤكد مبادئ هذه المعاهدة، إلى جانب التجارب السالفة الذكر سواء لاعتراض الأقمار الاصطناعية أم لتنفيذ مناورات "الالتقاء والتقارب"، أوضحت بشكل عملي، وجود إمكانية فعلية لتحويل الأقمار الاصطناعية إلى سلاح، يتم من خلاله استهداف أقمار اصطناعية معادية، سواء عبر الاصطدام المباشر، ام عبر استخدام اسلحة الليزر أو الذخائر المتفجرة.