عن الخطر الوجودي على الأردن
يراقب الأردن الذي اختبر ضغوط ترمب بقلق بالغ التفاعلات والدلالات المقلقة لعناوين أخرى وازنة في المعادلة؛ كالمواقف الدولية والعربية المخيّبة والمقلقة من العدوان على غزة، وما تعنيه من تضاؤل الآمال بوجود ظهير يساند.
ليست هذه المرة الأولى التي يختبر فيها الأردن تهديداً حقيقياً، ومن المشروع الأميركي- الصهيوني تحديداً، لكن التهديد مختلف هذه المرة؛ مباشرٌ ووجودي وفي ظرفٍ عصيب، ويتعدى طلب ترمب من الأردن ومصر استضافة الأشقاء المراد تهجيرهم من غزة، فهو سياقٌ لتصفية القضية الفلسطينية وإطلاق المشروع الخطير الكبير (الشرق الأوسط الجديد)، الذي يتبنّاه ترمب العائد إلى البيت الأبيض بقوةِ إرثه العدائي العنصري وإحكامه السيطرة على الحزب الجمهوري وحصد الأغلبية في الاستحقاقات الانتخابية.
وفيما يتابع الأردنيون باعتزاز كبير تمسك الأشقاء في غزة بأرضهم ويراهنون عليه؛ يدركون أن سلاح الحصار والتجويع وغياب سبل الحياة لا يقلّ خطراً عن الصواريخ والدبابات؛ ما يضاعف، كما وقائع اليوم، من المخاطر بفعل التبدّلات العميقة على مستوى المنطقة والعالم وأوزان الدول والقوى ما بعد مخطط العدوان الصهيوني الهائل على غزة والمنطقة، وعلى كل ما يمكن أن يواجه أو يعطّل المشروع.
يرقب الأردن الذي اختبر ضغوط ترمب ومشاريعه بقلق بالغ التفاعلات والدلالات المقلقة لعناوين أخرى وازنة في المعادلة؛ كالمواقف الدولية والعربية المخيّبة والمقلقة من العدوان على غزة، وما تعنيه من تضاؤل الآمال بوجود ظهير يساند، كما مخاطر التبدلات "الدراماتيكية" في الجوار، والتي تتفاعل محوّلةً الفرص في لحظة إلى تهديدات وعناصر ضغط كبير في ظل اختلال بيّن على مستوى التحالفات والمشاريع العربية - العربية التي استحالت عناصر تأزيم وضغط، إذ بات التضييق على الأردن، اقتصادياً وسياسياً وعلى مستوى المزاحمة على الوزن والثقل، ملموساً مرهِقاً ولا يبشّر بخير.
التهديد ليس جديداً!
في مقابلة مع "إندبندت تركيا" صيف العام 2021، تحدث رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة بوضوح عن "المواجهة الصعبة والمعقّدة" مع إدارة ترمب، والتي بلغت ذروتها في العام 2018، وتحت عنوان واضح (القضية الفلسطينية والقدس والوصاية الهاشمية، وكله في إطار "صفقة القرن واتفاقات إبراهام" )، ويؤكد الخصاونة أن "الأردن استُهدف سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، حد محاولات عزله، بل تحوّل إلى هدف، حُوصر اقتصادياً ومالياً، ولمست الحكومة تضررعلاقاتها مع دول عدة في بعض الأحيان.."
لاحقاً؛ في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أكد نائب رئيس الوزراء الأسبق محمد الحلايقة في حوار إذاعي تزايد الضغوط الأميركية لاستقبال 300 ألف لاجئ من أهلنا في غزة بشكل "مؤقت"؛ عبر رسالة حملها إلى الملك وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وكان رد الأردن واضحاً بالرفض. لقد مر أكثر من 75 عاماً على تهجير أشقاء فلسطينين لفترة مؤقتة! ولم يسمح لهم بالعودة حتى اليوم. طُويت تلك الصفحة وقتها، لكن المخطط لم يتوقف، والأردن الرسمي والشعبي أول المدركين لذالك.
إذاً، ثمة إجماع في الأردن على وجود تهديد صهيوني كبير عنوانه المباشر التهجير والوطن البديل، بما يعنيه ذلك من استكمال للتضييق والحصار والقفزٍ على الوزن والدور، والتأزيم الاقتصادي، وثمة قناعة بأن التهديد مرتبط بوجود الكيان، لا بشخص من يحكمه، ما يعني أن الاستهداف سيتخذ أشكالاً عميقةً متعددة، سياسياً وداخلياً وعلى مستوى النظام السياسي في البلاد، ويستذكر الأردنيون كثيراً من محطات الصراع والتهديد، سواء على المستوى العسكري حيث خاضوا كل معارك العرب مع كيان الاحتلال وعلى رأسها معركة الكرامة 1968 التي حققوا فيها بمشاركة أشقائهم الفلسطينيين انتصاراً على "جيش" العدو، أو على مستوى جذرية موقفهم الرافض للتطبيع، وعلى مستوى الاشتباك السياسي؛ ففيما لا يغيب عن بال الأردنيين أن كل من في كيان الاحتلال جزء من المخطط القديم المتجدد (الأردن هو فلسطين)، يعبّرون عنه في المؤتمرات والتصريحات والخرائط ويعملون لإنجازه في السياسات والخطط والجرائم.
يتداول الأردنيون أمثلة نستحضر بعضها، ليس بدءاً بعقيدة نتنياهو المعلنة باعتبار الأردن وطناً بديلاً، والتي تضمّنها صراحةً كتابه "مكان تحت الشمس"، ولا بتصريحات القائد الأسبق للمنطقة الوسطى في "جيش" الاحتلال يائير نافع 2006 حين "افترض" أن الملك عبد الله قد يكون "آخر ملوك الأردن"، وليس انتهاءً "بمشروع قرار" مطروح على الكنيست منذ 2009، وينتظر فرصة عرضه على لجنة "الخارجية والأمن"، قدّمه آنذاك العضوأرييه إلداد وعنوانه "إقامة دولة فلسطينية في الأردن"، وسواها من أحداث وملفات مهمة كاغتيال القاضي الشهيد رائد زعيتر على المعبر، والشهيدين الجواودة والحمارنة في مبنى سفارة الكيان في عمّان، وإعاقة زيارة ولي العهد الأمير الحسين، للحرم القدسي الشريف، وخريطة سموتريتش في باريس..، وغيرها الكثير من الاستحقاقات التي كانت تؤكد دائماً خطأ الرهان على سلامٍ أو مهادنةٍ مع كيان الاحتلال، وتبرهن صوابية اعتبار الصراع معه صراع وجود.
مخاطر وجهود
ينطلق الأردنيون في موقفهم من القضية الفلسطينية من ثابت الإيمان بمركزيتها قضيةً وطنيةً عروبيةً شرعيةً أخلاقية، ومن وحدة الدم والمصير المشترك، ومن رفضِ تصفيتها على حساب الأردن أو غيره نتيجة إدراك لمخاطر الحلول التصفوية عليها وعلى الأردن، كل الأردن؛ أرضه وهويته وشعبه وعلى نظامه السياسي، ورغم العبث وتشويه المفاهيم وترويج البعض لأفكار تتقاطع مع المخططات المعدّة، تحت عناوين مثل (الأردن الكبير، الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية، والتدخل الأردني الواجب في بعض الجوار..) أو لـ"إصلاحاتٍ" سياسية وتشريعية خضوعاً لضغوط واشنطن؛ فإن شعبنا لم يفقد البوصلة يوماً، فلا توانى عن الدفاع عن الأردن في مواجهة كل خطر، ولاغابت فلسطين عن أولوياته، تبدّى ذلك في التفاعل الكبير أثناء العدوان الدموي الأخيرعلى غزة، وبموازاة موقفٍ رسمي ثابت تجلّى في الاستنفار الدبلوماسي والإغاثي ورفض المساس بحقوق الفلسطينيين أو تهجيرهم وفي التحذير من المخططات الدموية في الضفة ومن محاولة فصل القطاع أو اقتطاع أي جزء منه.
الاستهداف ليس جديداً إذاً ولا الموقف، فالملك عبّر مبكراً عن حجم الضغط والمخاطر وعن الاستعداد للمواجهة عبر لاءاته الثلاث الشهيرة، في آذار/مارس 2019 (كلا للتوطين، كلا للوطن البديل، والقدس خط أحمر)، وتصريح رئيس الوزراء السابق الخصاونة ولاحقاً وزير الخارجية الصفدي في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 تأكيد آخر على دنو الخطر والاستعداد لمواجهته.
إن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى الأردن هي بمنزلة إعلان حرب على الأردن سنواجهه بكل حزم، ترافق ذلك مع جهد إغاثي وعلاجي نحو الضفة عبر قوافل الأغذية والأدوية ومستشفى نابلس الميداني بدءاً من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في إشارة واضحة لبدء العمل لمواجهة المخطط الساعي لالتهام الضفة وتهجير أهلها بالقتل والتضييق والحصار والاعتقالات وإطلاق يد المستوطنين في القتل والحرق وتخريب وسرقة الأراضي والممتلكات، وهو الخطر الذي كان الأردن يحذّر منه ويترقّبه قبل أن يفاجئ ترمب الجميع بإعلان رغبته (اقرأ خطته) التي بيّنت أن مخطط التهجير إلى الأردن يشمل أبناء قطاع غزة وليس الضفة فقط، والذي يستهدف بالمناسبة مصر أيضاً، التي أعلنت بدورها ومبكراً موقفها الرافض، وخاضت مع الأردن، رغم تعذّر المساندين، كثيراً من المحاولات والاستحقاقات، بعضها أثمر وبعضها ظل حبيس حسابات الآخرين وأجنداتهم، لعل أبرزها اللجنة الوزارية المشتركة، التي تمخضت عن القمة العربية الاسلامية في الرياض- تشرين الثاني/نوفمبر 2023، والتي لم تنجز شيئاً يذكر رغم جولاتها وكثرة التصريحات.
ذلك كله كان سَبَقه محاولةٌ أردنيةٌ حثيثة لإحداث اختراقٍ في الواقع العربي المشتت الراكد قبل أن تتمظهر على سطحه تكتلات ومحاور ملتبسة ضيقة الأفق عنوانها التساوق أو الاستقواء حيناً وتمرير الوقت والقفز على الأولويات أحياناً، فكانت فكرة (اللقاء الثلاثي الأردني- المصري- العراقي) المبكرة، والتي سعت لاحقاً لفرض السلطة الفلسطينية، على علّاتها، على موائد الحوارات في مواجهة رغبة البعض في تغييب تمثيل القضية التي باتت محط تنازع الكثيرين، في ظل تراجع الاهتمام، خصوصاً أن ما يتمناه الشارع العربي من اشتباك مباشرٍ مع الكيان قد بات خارج حسابات النظام الرسمي العربي جلّه تماماً.
لم يمهل الوقت وتسارع الأحداث والاصطفافات عمّان ولا القاهرة لاستكمال محاولة تصويب التشتت العربي، كما غاب عن عقل الدولة في القطرين الشقيقين أن الداخل وتمتين جبهته وتعزيز ثوابته أولى الأولويات، رغم ما رُصد أردنياً من تحرك رسمي داخلي بالاتجاه المطلوب، وإن ظل حبيس المقاربات والتعبيرات المعتادة التي أثبتت عقمها، من أمثلة الزيارات الحكومية الميدانية، ولقاءات الديوان الملكي الأطر الاجتماعية والعشائرية، وتزايد الحديث عن نية عقد حوارات مجتمعية كتلك التي ستسبق مناقشة قوانين الإدارة المحلية المطروحة للتعديل، في موازاة جهد دبلوماسي ملكي متصاعدٍ كانت آخر عناوينه توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي أمس الأول، والتي تمنح الأردن ثلاثة مليارات يورو للسنوات الثلاث القادمة، في دلالةٍ على العمل الحثيث لاستباق مفاعيل التضييق السياسي والاقتصادي القادم، سيما مع ما سيخلّفه قرار ترمب وقف المساعدات الخارجية، والتي شملت الأردن.
اليوم، يقف الأردن أمام استحقاقٍ لطالما أرّقه، خصوصاً أن المشروع يهدف إلى تكريس الكيان حالةً مركزيةً في محيط مفتّت مهدّم، وإلى التخلص من "العبء" الديموغرافي الذي يتهدده، عبر تحويل جغرافيا الأردن ملاذاً للتخلص من ”فائض" الحل المنشود، ما يعني تعاظم المطامع حد استحضار مخططات التغيير الجغرافي الذي سيشمل أكثر من قطرٍ عربي في المحيط، كما خطر العبث الداخلي الذي اختبره الأردن كثيراً، عبر الإرهاب أحياناً، وعبر محاولات المساس بالسلم الاجتماعي وبشرعية النظام السياسي، فضلاً عن شعبيته، أحياناً أخرى، لعل أقساها كان قضية الأمير حمزة- نيسان/أبريل 2021 والتي، وإن وُئدت في أرضها، ما كانت لتُحدِثَ ما أحدثَته من هزةٍ لولا دور وسائل إعلامٍ عربيةٍ بعينها وجهد ممنهج وتحريض عبر وسائط التواصل واستهداف اقتصادي، أن المخاطر على الداخل تتجاوز محاولات اليوم للتهيئة للقادم، فأي نجاح للمخطط سيمنحه فرصاً أكبر للتدخل والعبث والتخريب الساعي بوضوح لإعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد حد استهداف النظام السياسي بل الكيان الأردني برمّته، خصوصاً أن معركة الهويات والمفاهيم التي تشهدها المنطقة خلقت تبدلاً مزلزلاً على مستوى الهويات؛ في سوريا مثلاً، وفي سياق مشروعٍ اتضح أنه لن يتوقف "طوعاً" حتى يغيّر هوية وعناوين المنطقة كما جغرافيتها، ما يضع الجميع من دون استثناء أمام مخاطر تقسيمٍ جديد وإعادة ترتيب.
الخيارات.. لا مفر من المواجهة
أمام الأردن اليوم خياران؛ إما المواجهة أو الرضوخ، فيما خيار المناورة أو التأقلم محكومان باستنزاف الجهد والوقت من دون طائل، فالأحداث والمفاجآت تؤكد أن كل المعنيين مستسلمون لحتمية التغيير القادم حد التساوق، لدرجةٍ بات فيها الصدام مع من كان حليفاً بالأمس القريب وارداً ومقلقاً، فضلاً عمّن كان خصماً دائماً، وإن فرضت بعض الوقائع ما يوحي بخلاف ذلك.
لا خلاف على أن الرضوخ مدمِّر، ولا يمنع تمرير المخطط الكبير بمخاطره المذكورة، وليس صحيحاً أبداً أن الأردن، ورغم كل الاستعصاءات والمصاعب، عاجزٌ عن المواجهة، ولايظنن أحد أن يتوانى الأردنيون لحظةً عن بذل التضحيات في سبيل وطنهم وقيمهم وثوابتهم وقضية فلسطين، لكن هذا الفهم المشرّف يحتاج ترجمة إلى مشروع ومهمات واضحة، يحتاج إلى إعادة قراءة الأولويات والسياسات لتحصين الذات وتحويل الخطر إلى فرصة، ولعلها فرصةٌ حقاً، إذ أدركنا أن الرهان الوحيد الذي يصح هو الرهان على الذات، على الشعب وثوابته ووعيه، على المؤسسات والأطر السياسية والاجتماعية، على الثقة بين الناس ومسؤوليهم، وأخيراً على الباب المشرع بينهم وبين القصر، الذي لطالما أوصدته حكوماتٌ وفسادُ فاسدين ومحسوبيةٌ وغياب عدالة، ما يهدّد بما نحذّر منه لسنوات من إضعافٍ للعلاقة بين الشعب والعرش، إلى درجةٍ تشعرك وكأن ثمة إيدٍ في الخفاء تسعى عن عمد لهز "الشرعية والشعبية" في أذهان الأردنيين.
والمواجهة تبدأ من المكاشفة والحوار الوطني الواسع والشفّاف، الذي يسبقه التخلّص من كل المعوقات والأحمال الزائدة على مستوى بؤر الفساد والاستحواذ والاستخفاف وتغييب المبادرات، والتي أعاقت ولا تزال مشروع الإصلاح الحقيقي الذي نظّر له الجميع وينتظر نضوجَه الأردنيون على مدار عقد ونصف على الأقل.
المواجهة تبدأ من قبول الرأي المخالف وسماع النصح، ومن إعادة الاعتبار للانتماء الذي هو عنوان علاقة الأردنيين بوطنهم وبالتالي بمليكهم، المواجهة تبدأ من إلغاء القيود على المعارضة الوطنية؛ (حاجة البلاد الملحّة اليوم)، وعلى الأحزاب والنقابات، ومن مصارحة الناس بمخاطر ما ينتظرهم وبعوامل القوة والضعف، من التغيير الحقيقي المبني على إدراك الجميع، دولةً وشعباً، حكومةً وأحزاباً ومثقفين بأن التقارب خطوةً مكسبٌ للجميع، وأن تقديم التنازلات ضمن البيت الواحد خير للبيت وأهله، تماماً كما أن أي خلافٍ أو مكاسرة أو تصارع هو الدمار على الجميع، خصوصاً أن المخطط يتربص لانتزاع تنازلات خطيرة أكبر؛ بحجم الأرض والسيادة والأمن الاجتماعي وبنية الدولة ونظامها، ويتحيّن الفرص لجعل ماعهدناه طويلاً من استقرار للبلاد وسط محيط ملتهب ذكرى نتحسر عليها.
لا يلزمنا سلاح نووي لنواجه، ولا تنقصنا الشجاعة ولا الفداء، ينقصنا المشروع ووعي المهمات واليقين بالجدوى، واستثمار الاستعداد الشعبي للمواجهة والتضحية لتكريس مشروع النهضة المستحَق، يلزمنا أن يرى العالم وحدتنا وتماسكنا، فلا ضيق الحال سيحول بين الأردني والدفاع عن أرضه وكرامته، ولا الترويج للوعود البراقة وبِشارات "البحبوحة" تغريه، ولا تعنيه (خطط مارشال) الجديدة حيث يتنطّح من يملك المال لفرض مقاربته ومشروعه على الجميع انطلاقاً من القدرة على إعمار ما تهدم والاستثمار فيما تهشّم في المحيط، فالأردني لا يباع ولا يُشترى؛ الأردني ببساطة لا يبيع الأردن وإن أوجعه أن شعور الاغتراب يوشك أن يتملّكه.
ضرورة أخرى تعزز خيار المواجهة؛ فعلى مستوى استقرار الحكم وفيما نجزم أن نظام الملك عبد الله الثاني لا تنقصه الشرعية ولا الشعبية الكفيلة بتجنيب البلاد هزّات عنيفة شهدتها أقطار عربية؛ لا يغيب عن البال أن كل ما سبق يجعل من الملحّ تعزيز شرعية الحكم وشعبيته في مواجهة تهديدٍ لم يعد يخفى على أحد.
فالأردنيون لم يختلفوا يوماً على العرش، ولم ولن يقبلوا إملاءً أو تدخلاً، كل ذلك يعزز حتمية اختيار المواجهة الواضحة الصريحة مع المخطط، ومع كل من وما يصب في خدمته، في الداخل والخارج، ربطاً بما اختبره الأردن مراراً حين كانت مواقفه تتعارض مع مخططات الأميركي أو بعض الحلفاء، كمثال "عاصفة الصحراء" مطلع التسعينيات، ورفض التورط بتدخل مباشر في الجنوب السوري منذ ربيع 2011، أو إرسال جنود الجيش العربي إلى اليمن الشقيق ضمن "عاصفة الحزم"، وغيرها الكثير من الملفات التي شهدت ضغوطاً كبيرة ومحاولات التفاف، وإصراراً على "المعاقبة"؛ نجح الأردن في تجاوزها جميعاً.
الملك بشخصه عبّر بشجاعةٍ وبوضوح، موجزاً مقاربته في وعده الشهير في خطاب التاسع من حزيران/يونيو من العام الفائت بمناسبة اليوبيل الفضي لتسلمه سلطاته "عهدي لكم أن يبقى الأردن حراً عزيزاً كريماً آمنا مطمئناً".
نختلف مع سياسات الحكومات المتعاقبة وضعفها، ولطالما رفضنا الاستخدام المتكرر لـ"فزاعة" المخاطر في تطويق المطالب وتكميم الأفواه، لكننا اليوم مطالبون جميعاً بتنحية كل خلاف واختلاف والاتفاق على الوطن بكل عناوينه، وعلى وحدة الصف والبناء والمهمات، وعلى ضرورة إظهار موقفنا للعالم، ساطعاً مدوّياً، رافضين كل صوت يدعو إلى فتنةٍ أوعبث، مواجهين كل معتدٍ ومصطادٍ في الماء العكر، وكل طامعٍ باستغلال الظرف، مطلقين ورشة إصلاح وطني شامل تنتج رؤيةً استراتيجية تعتمد المعرفة وتمتين الوعي لتحقق ما نستحق من قوةٍ ومنعةٍ وقدرةٍ على امتلاك عوامل المواجهة والصمود والتقدّم والاكتفاء.
اليوم؛ نحن جميعاً مطالبون بالنزول "على الأرض"، ورصّ الصفوف، وبوقفةِ تَفكُّرٍ مع الذات، وبدء العمل، فالأردن بحاجة أبنائه حتى نحوّل الخطر الوجودي المحدق بكل شيء إلى فرصة قد تُحدِث فرقاً تاريخياً.