مآلات مواجهة "الذكاء الاصطناعي" بين واشنطن وبكين
يمكن النظر لمشروع "ستار غيت"، كمحاولة للحاق بالخطوات المتسارعة لبكين في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث باتت المنافسة بين الشركات الصينية والأميركية في هذا الصدد متسارعة الوتيرة.
-
إدارة ترامب ما بين مواجهة بكين والبحث عن إنجاز أوّلي.
لم يكن إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، عن مشروع "ستار غيت"، الذي يرتبط بتأسيس بنية تحتية كاملة للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته على الأراضي الأميركية، مجرّد أحد المشاريع الأساسية التي يمكن من خلالها استشراف الملامح الاستراتيجية للولاية الرئاسية الثانية ـــــ والأخيرة ـــــ لترامب، بل يمكن اعتباره أيضاً مؤشّراً متعدّد الاتجاهات على النهج الذي قد يتّبعه ترامب على المستويات الاقتصادية والصناعية والعسكرية خلال السنوات الأربع المقبلة.
هذا المشروع الذي تقدّر استثماراته الأولية بما يناهز 500 مليار دولار، سيتولّى تدشينه وإدارته تحالف من الشركات الأميركية والبريطانية والإماراتية واليابانية.
فعلى مستوى التمويل، تتولى مجموعة "SOFT BANK" اليابانية، عملية التمويل الرئيسية لهذا المشروع، إلى جانب مشاركة شركة "MGX" الإماراتية، في جزء من الجانب التمويلي لهذا المشروع، في حين تتولّى إدارة عمليات هذا المشروع بشكل رئيسي على المستوى التقني، شركة "OPEN AI" الأميركية، بمشاركة عدة شركات أميركية هي "ORACLE" و"NVIDIA" و"MICROSOFT"، إلى جانب شركة "ARM" البريطانية.
سياقات مشروع "ستار غيت"
يأتي الإعلان عن هذا المشروع، بعد سلسلة من المؤشرات التي تؤكّد اهتمام إدارة ترامب بشكل أكثر بملف الذكاء الاصطناعي، حيث سبق وأعلن ترامب سابقاً عن استثمار بقيمة 20 مليار دولار ستقدّمه شركة "داماك" العقارية الإماراتية، لإنشاء مراكز بيانات خاصة بالذكاء الاصطناعي في ثماني ولايات أميركية.
على المستوى الشكلي، يطمح هذا المشروع لإنشاء سلسلة من مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، في نحو 20 موقعاً على أراضي الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الخمس المقبلة، بمساحة إجمالية لكلّ مركز تبلغ 46452 متراً مربّعاً، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ عمليات تأسيس عشرة مراكز قد بدأت بالفعل منذ فترة، في مدينة "أبيلين" بولاية تكساس.
أما على المستوى الاستراتيجي، فيستهدف هذا المشروع تأسيس البنية التحتية المادية والافتراضية لتشغيل الجيل المقبل من التطوّرات في الذكاء الاصطناعي، ما يساهم في توطين وترسيخ وجود مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي على الأراضي الأميركية، وتحتفظ واشنطن بالتبعيّة بالسيادة على نماذج الذكاء الاصطناعي التي يتمّ إنشاؤها وتشغيلها هناك، وفي الوقت نفسه تتصدّى بشكل أو بآخر لمحاولات الصين الهيمنة على هذا الجانب من التكنولوجيا المتقدّمة.
يضاف إلى ذلك تحقيق ميزات إضافية على المستوى الاقتصادي والصحي وفي مجالات أخرى، ستشهد تطوّرات ملموسة في حال تمكّنت الولايات المتحدة الأميركية، من إنشاء البنية الأساسية اللازمة لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر قوة، يمكنها أداء المهام الأكثر قيمة اقتصادياً بشكل أفضل وأسرع مما يستطيع البشر القيام به، بما في ذلك تحسين الخدمات، وإجراء اكتشافات علمية جديدة.
السياقات المرتبطة بإعلان ترامب عن هذا المشروع، تتفرّع إلى عدة اتجاهات؛ فمن جهة، يمثّل هذا المشروع، ملمحاً من ملامح تراجع الإدارة الأميركية الجديدة عن بعض خطوات الإدارة السابقة، فيما يرتبط باستراتيجية استخدام الذكاء الاصطناعي، حيث جاء الإعلان عن المشروع الجديد، بعد يوم واحد من قرار آخر أصدره ترامب، بالتراجع عن الأمر التنفيذي رقم "14110"، وعنوانه (التطوير والاستخدام الآمن والموثوق للذكاء الاصطناعي)، الذي أصدره سلفه جو بايدن في الثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بشأن الذكاء الاصطناعي، وكان يهدف إلى تقليل المخاطر التي يفرضها على المستهلكين والعمّال والأمن القومي، ويفرض جملة من معايير السلامة، من بينها وجوب وضع "علامات مائية" على المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي.
من جهة أخرى، يتسق المشروع الجديد مع تصريحات سابقة لدونالد ترامب بشأن الصين، وآخرها تصريحات أدلى بها قبل أن يتولّى منصبه بـ 48 ساعة، أرسل من خلالها إشارة واضحة مفادها أنه من أجل التفوّق على الصين، ستسعى إدارته إلى تنفيذ أجندة "هجومية"، فيما يتعلق بدفع الولايات المتحدة إلى الأمام في تطوير الذكاء الاصطناعي والبنية الأساسية التي تدعمه. كذلك يحتمل بشكل كبير أن يكون هذا المشروع، مرتبطاً بمشروع تمّ الإعلان عنه في آذار/مارس الماضي، بين شركتي "OPEN AI" و"MICROSOFT" ـــــ وهما طرفان رئيسيان في مشروع "ستار غيت" ـــــ يتضمّن تأسيس مركز بيانات خاص بالذكاء الاصطناعي، تبلغ تكلفته 100 مليار دولار، من المقرّر أن يشمل حاسوباً فائقاً يعمل بالذكاء الاصطناعي، وأن يجري إطلاقه في 2028.
إدارة ترامب ما بين مواجهة بكين والبحث عن إنجاز أوّلي
فيما يتعلّق بالأهداف المحتملة للمشروع الجديد، يمكن اعتبار محاولة مواجهة التحرّكات الصينية المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي، كأحد أهم هذه الأهداف، حيث طرح الرئيس الأميركي بدعمه لهذا المشروع ـــــ الذي يبقى في الأساس شراكة بين شركات خاصة وليس مبادرة فيدرالية أميركية - مسألة القدرة التنافسية الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي مع الصين، وكانت الإشارة الأبرز في هذا الصدد، ما قاله ترامب نفسه خلال المؤتمر الصحافي الذي تمّ الإعلان فيه عن هذا المشروع، حين قال "نريد أن نبقي الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي في هذا البلد، والصين منافس؛ والآخرون منافسون".
من هذا المنطلق يمكن النظر لمشروع "ستار غيت"، كمحاولة للحاق بالخطوات المتسارعة لبكين في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث باتت المنافسة بين الشركات الصينية والأميركية في هذا الصدد متسارعة الوتيرة، فمؤخّراً أصدرت شركة "DeepSeek" الصينية الناشئة، عائلة من نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر تسمّى "DeepSeek-R1"، وهو ما تمّ بالتزامن مع بدء ولاية الرئيس الأميركي ترامب، حيث تمّ إطلاق هذا النموذج في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
وهذا النموذج مطابق إلى حدّ كبير لسلسلة "o1" من نماذج الذكاء الاصطناعي، التي طوّرتها شركة "OPEN AI" الأميركية، لكنه أرخص بكثير من حيث تكلفة الاستخدام، وهو ما يؤشّر على احتماليات قوية لتفوّق الصين على المستوى الترويجي والتسويقي لمنتجاتها في هذا المجال، وبالتالي تشكّل الشركات الصينية العاملة في هذا المجال، تحدّياً خطيراً لشركات الذكاء الاصطناعي الأميركية، التي تسعى إلى الربح من بيع تكنولوجيتها.
من المتوقّع أن تلجأ إدارة ترامب من الآن فصاعداً، إلى اتخاذ خطوات أكثر تقدّماً في مجال محاصرة الجهود الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي، فمن جهة، ما زالت هذه الإدارة ملتزمة ببعض الأوامر التنفيذية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، التي سبق وأصدرتها إدارة بايدن السابقة، من بينها أوامر ترتبط بتقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا المتطوّرة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وتحديداً تقييد قدرة الشركات التي تبيع أشباه الموصلات المتقدّمة والآلات المستخدمة لإنتاجها للشركات الصينية، وقد سبق وشدّد مكتب الصناعة والأمن في وزارة التجارة خلال فترة بايدن، قواعد مراقبة تصدير الذكاء الاصطناعي في تشرين الأول/أكتوبر 2022 وتشرين الأول/أكتوبر 2023 ونيسان/أبريل 2024، ووسّعت ضوابط التصدير على أشباه الموصلات في أيلول/سبتمبر الماضي.
من هذا المنظور، من المرجّح أن تعمل إدارة ترامب الجديدة على توسيع القيود المفروضة على الصادرات المتعلّقة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للصين، في إطار عامّ تحاول من خلاله هذه الإدارة التأثير اقتصادياً على الصين، في ظلّ الخطط المعلنة من جانبها، لتطبيق تعريفات جمركية تصل إلى 60 بالمئة على السلع الواردة من الصين، بهدف آخر وهو إغلاق أيّ احتمالية لنشوء شراكات بين الشركات الصينية والأميركية.
في الوقت الحالي لا توجد سوى ثغرة واحدة تستطيع الشركات الصينية من خلالها استخدام الخدمات الأميركية للحوسبة السحابية، وبالتالي الوصول عن بعد إلى القوة الحسابية لشرائح الذكاء الاصطناعي، حيث تقوم هذه الشركات بالتسجيل في خدمات الحوسبة السحابية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، كي تتمكّن من إنجاز حسابات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها على أحدث الأجهزة. قد تغلق إدارة ترامب هذه الثغرة، بفرض قيود على استخدام الشركات الصينية للحوسبة السحابية، وقد توسّع ضوابط التصدير لتقييد وصول الشركات الصينية إلى أوزان نماذج الأساس ـــــ المعلمات العددية التي تحّدد كيف يقوم نموذج التعلّم الآلي بوظيفته.
كهدف أساسي آخر، تسعى إدارة ترامب من ضمن جملة أهدافها المستقبلية، إلى إظهار قيادة الذكاء الاصطناعي الأميركي، والاستفادة منها على عدة مستويات، من بينها خلق مئات الآلاف من الوظائف الأميركية، وتوليد الفوائد الاقتصادية، عبر توطين وتركيز صناعة الذكاء الاصطناعي وتطويره في الولايات المتحدة، وتوفير قدرة استراتيجية لحماية الأمن القومي لأميركا وحلفائها، وذلك عبر عدة مسارات، أوّلها تحفيز الصناعات التكنولوجية الأميركية، والحفاظ على موقع الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، عبر إعادة تشكيل التحالف واتفاقيات الشراكة بين الشركات الأميركية المختلفة العاملة في حقل الذكاء الاصطناعي.
فالولايات المتحدة الأميركية تحتاج على المستوى المستقبلي، للإيفاء بالطلب المتوقّع على سعة مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، حيث تشير التقديرات المستقبلية، إلى أنّ الطلب العالمي على سعة مراكز البيانات، سيتضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف بحلول عام 2030، وينمو بنسبة تتراوح بين 19 و27 بالمئة سنوياً، وبالتالي تسعى واشنطن لمواكبة هذا الطلب المتوقّع، تجنّباً لدخول الصين على الخط، واستيعابها هذا المسار.
يضاف إلى هذه الأهداف، أخرى ترتبط بتحفيز الاستثمار الخارجي في قطاع الذكاء الاصطناعي الأميركي، وكذلك توفير قدرات إضافية للصناعات العسكرية الأميركية، من أجل الاستفادة من القدرات الكاملة للذكاء الاصطناعي، فقد تضمّن الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس السابق جو بايدن ـــــ رقم "14110" - الذي قام الرئيس الحالي ترامب بإلغائه، التزامات الإبلاغ عن مطوّري أقوى أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأطلق موجة من الإجراءات المتعلّقة بالذكاء الاصطناعي بين الوكالات الفيدرالية، أوجبت على البنتاغون وقف عمل منظومته الأساسية التي تركّز على الذكاء الاصطناعي ـــــ وتسمّى مركز الذكاء الاصطناعي المشترك.
لكن مع إلغاء هذا الأمر، يرجّح أن تكثّف الإدارة الأميركية الجديدة، العمل على الاستخدام العسكري والاستخباراتي للذكاء الاصطناعي ـــــ بما في ذلك زيادة التعاون مع شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية، وتحفيز البنتاغون على فتح شراكات مع هذه الشركات، بهدف دفع برامجه العسكرية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي إلى الأمام بوتيرة أسرع.
تحدّيات جدّية أمام المشروع الأميركي الجديد
لتحقيق المستهدف من مشروع "ستار غيت"، يظهر بشكل أساسي التحدّي المرتبط بالطاقة اللازمة لتشغيل مراكز البيانات، فكلما كان حجم الذكاء الاصطناعي المراد تدريبه، كلما زاد الاحتياج إلى المزيد من الرقائق المترابطة في مركز البيانات، وهو ما يحتاج بالتبعية إلى طاقة كهربائية أكبر. بالتالي هذا المشروع لا يعني فقط بناء مراكز بيانات جديدة لإيواء أحدث الرقائق، ولكن أيضاً بناء بنية تحتية جديدة للطاقة، يمكنها تزويد مراكز البيانات هذه بالقدر الهائل من الطاقة اللازمة لتشغيل تدريب الذكاء الاصطناعي.
لذلك يشكّل توليد الطاقة اللازمة لتشغيل هذه المراكز، تحدّياً أساسياً، خاصة في ظلّ وجود تقديرات لمؤسسات مثل "North American Electric Reliability Corporation"، تشير إلى أنه مع ارتفاع استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة من مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والمرافق الأخرى، فإنّ نحو نصف مناطق الولايات المتحدة الأميركية، معرّضة لخطر متزايد من نقص إمدادات الطاقة خلال العقد المقبل، يضاف إلى ذلك المحور المرتبط بكيفيّة توليد هذه الطاقة الكهربائية. من المرجّح أن يتمّ توليد قسم كبير منها، من الوقود الأحفوري، وهو ما يقتضي مزيداً من الجهد والاستثمار في مجال التنقيب عن النفط والغاز في الولايات المتحدة الأميركية.
في جانب آخر، على الرغم من أنّ إدارة ترامب ما زالت ملتزمة بالخط الأساسي لسياسة الذكاء الاصطناعي الخاصة بإدارة بايدن، وعدم إلغائها سوى لقسم محدود من الأوامر التنفيذية المرتبطة بهذه السياسة، إلا أنّ ألغاء الأمر التنفيذي رقم "14110"، أدّى إلى مخاوف ترتبط باحتمالية نشوء ابتكارات "غير آمنة" للذكاء الاصطناعي، نظراً لأنّ التشريع الذي تمّ إلغاؤه يتعلّق أساساً بسلامة استخدام الذكاء الاصطناعي، ومنع الأضرار الشائعة الناتجة عنه، بما في ذلك اتخاذ القرارات المتحيّزة، وانتهاك الخصوصية، والمعلومات غير الدقيقة.
كذلك تعتبر بعض التحليلات، أنّ دعم الرئيس الأميركي لمشروع "ستار غيت"، يمثّل دليلاً على تعميق نفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى في الإدارة الأميركية الحالية، بما يمثّل عامل تأثير أساسياً على القرار الأميركي على المستويين السياسي والاقتصادي، قد تكون له تداعيات سلبية في المستقبل القريب. هذا الدليل يضاف إلى دلائل أخرى تصبّ في الاتجاه نفسه، من بينها تعيين ترامب لمؤسس شركة "TESLA"، إيلون ماسك، كمسؤول عن "وزارة الكفاءة الحكومية"، المختصة في تقليل الإنفاق الحكومي.
نستخلص مما سبق أنّ هذا المشروع الضخم، من المرجّح أن ينتج العديد من الوظائف، ويولّد بعض القيمة المضافة للشركات المعنية خاصة، وللقطاع التكنولوجي الأميركي عامّة، بما يعزّز من التموضع الأميركي الحالي أمام الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، لكنّ المسار الأميركي في هذا الإطار يبدو طويلاً في ظلّ التحرّكات الصينية المتلاحقة في هذا المجال.
في المجمل، تبدو خطوة ترامب حيال هذا المشروع، مرتبطة بإشارات استشفتها إدارته من الشركات التكنولوجية الأميركية، ومن التحرّكات الصينية الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، ومن النتائج التي ترتّبت عليها الأوامر التنفيذية السابقة لإدارة بايدن في هذا المجال.